25 - 04 - 2024

المحاماة بين القـدح والمدح (1-2)

المحاماة بين القـدح والمدح (1-2)

يعد القضاء صمام أمان المجتمع من نشوء عداءات قد تتطور الى أحقاد ونقم وانتقام، فليس  بالضرورة أن أكون على عداء مع من أختلف معه على أمر معين وإنما هو الطريق الامثل لحسم النزاع ونبذ الشقاق، فلصاحب الحق أن يلجأ إلى القضاء للحصول على حقه، إلاّ أنه قد لا يقدر على مباشرة ذلك بنفسه خاصة في عصرنا الحالي الذي اصبحت فيه إجراءات التقاضي طويلة ومعقدة ومحددة بمدة معينة للاستئناف والنقض والتقادم والتي يستحيل على أي شخص عادي معرفتها ما لم يكن على دراية بالقانون ومتخصصًا فيه.

وقد دل الواقع على أن من يقف موقف الإتهام امام مجلس القضاء ينتابه الجزع والرهبة تحت احتمال الخوف من العقاب، فينعقد لسانه أو قد يتعثر مهما كانت فصاحته وينكسر قلبه مهما كانت رباطة جأشه ويشنغل بمستقبله فتضيع حجته وقد يكون بريئًا فيعجز عن الدفاع عن نفسه أو إبراز الحجج الدالة على تبرئة ساحته.

ولا أدل على مشروعية التوكيل في الخصومة من أن علياً رضي الله عنه كان إذا خوصم في شيء وكّل عقيلاً رضي الله عنه، فلما كبر سن عقيل وكّل عبدالله بن جعفر وكان على ابن ابي طالب يقول: هو وكيلي، فما قضي عليه فهو علىّ، وما قضي له فهو لي، ويقول أيضاَ: إن للخصومة قحمًا وإن الشيطان ليحضرها وإني لأكره أن احضرها. وتوكيل حسان بن ثابت – شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازعة كانت بينه وبين بعض الناس عند عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والدعوى تعد تصرفًا من التصرفات المشروعة قانونًا، إذ هي تصرف قولي يحصل به المطالبة بما للشخص من الحقوق ورد العدوان عليها، وهي تصرف مباح للإنسان فعله أو تركه، فلا يجبر إنسان على دعوى، بل له تركها.

وقد عرف الأحناف الوكالة بأنها: إقامة الغير مقام نفسه ترفعًا أو عجزاً في تصرف معلوم ممن يملكه.

وكذلك عرّفت الوكالة في المادة (669) التقنين المدني بأنه: "عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل".

ويجب  افراغ عقد الوكالة بشكل معين حيث نصت المادة (700) من القانون المدني المصري بانه ( يجب ان يتوافر في الوكالة الشكل الواجب توافره في العمل القانوني الذي يكون محل الوكالة  ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك. "طعن رقم 132 لسنة 18 ق جلسة 6/4/1950 الموسوعة الذهبية".

وخلاصة ذلك:- نجد أن الوكالة بالخصومة تعطي للمحامي صلاحية في تحريك الإجراءات امام المحاكم لحماية حق الموكل، فهي وكالة في الإجراءات فقط لأجل حماية حقه وليست بالتصرف في الحق.

ولا شك أن ما سبق يمنع المحامي من القيام بأي عمل من شأنه التأثير في حق موكله أو يتحمل آية أعباء ومن ناحية اخرى فالتوكيل بالخصومة ينتهي في اللحظة التي يصدر فيها الحكم في الدعوى فليس للمحامي بمجرد صدور الحكم سوى إعلان هذا الحكم، كما أنه ليس له الطعن في الحكم من تلقاء نفسه أو إجراء أي تنازل عن طريق الطعن كما ليس من حقه أن يطالب بتنفيذ الحكم وقبض حق الموكل ولا متابعة إجراءات التنفيذ لأن أي تصرف من هذه التصرفات يحتاج إلى توكيل خاص من الموكل .

أما فيما يخص حكم العمل بالمهنة، فقد اختلف العلماء في العصر الحديث حيال حكم العمل بالمحاماة أمام المحاكم على رأيين:-

الرأي الأول: يرى جواز العمل بمهنة المحاماة:

وقد ذهب أغلب أهل العلم على جواز العمل بمهنة المحاماة إذا كان فيه إحقاقاً للحق وإبطال الباطل ورد الحقوق إلى اصحابها ونصرة المظلوم لما فيه من التعاون على البر والتقوي بشرط تحري الحق في ذلك مستدلاً في ذلك بعدد من الاسانيد، فمن بينها الآتــي:-

1-أن عمل المحامي جائز شرعاً لما فيه من إعانة العاجز عن التعبير في طلب الحق أو إبراز الحجج والبراهين الدالة على براءته إن كان متهماً خاصة إذا كان صاحب الدعوى المعروضة أمام القضاء لا يملك فطنة أو بلاغة أمام خصمه في براعة بيانه وبلاغة اسلوبه الأمر الذي يجعل صاحب الحق عرضة للضياع في طلب حقه، لكونه عاجزًا في هذه الحالة عن النطق وإبراز الحجج والبراهين الدالة على اثبات حقه والقاضي في هذه الحالة أنما يحكم بحسب الظاهر الذي أمامه، حيث لا علم به ببواطن الامور.

2- وقد حدث مثل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة التخاصم «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.

3-الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بنصرة المظلوم، حيث يقول: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فإذا أراد أن يضرب أحد تقول: لا، قف تمسكه، إذا أراد أن يأخذ مال أحد تمسكه هذا نصره، إذا كان لك استطاعة تمنعه من ذلك، هذا نصر الظالم، تعينه على نفسه وعلى شيطانه تنصره على شيطانه وعلى هواه الباطل.

فالمحامي بحكم عمله يكون أقدر على تسليط الضوء على الدعوى ومناقشة الشهود، وتمحيص الأدلة والقرائن التي توضح الظالم الحقيقي وتنتصر للمظلوم.

4-وكذلك التسهيل والتيسير على الموكل بعد تشعب شئون الحياة وتشابك المصالح وتعدد المنازعات وتعدد القوانين والتي يستحيل على أي شخص معرفتها ما لم يكن متخصصًا في هذا الامر وعلى دراية بالقانون.

5-انعدام التناسب أو التوازن في النظم الإجرائية الحالية من ناحية المعرفة القانونية والمثال لذلك، بين طرفي الدعوى الجنائية  عندما يكون احدهما اقوى واحسن حجة وأبلغ من الآخر وهو النيابة العامة التي تقف من المتهم موقف الخصم القوي المتبحر في القانون والمزود بالعلم فهو احوج إلى من يدافع عنه لتحقيق التوازن في إدارة العدالة الجنائية أو الجزائية ويؤدي إلى المساواة بين الخصمين.

الرأي الثاني: يرى بعض العلماء حرمة العمل بمهنة المحاماة ويسوقون عددًا من الأدلة، فمن بينها ما يلي:-

1-أن المحامي لا يهمه ما أن كان موكله في الحق أو الباطل مجرمًا أو غير مجرم وأنما الذي يهمه هو أن يكون موكله قد أدى إليه أتعابه وعندئذ على المحامي أن لا يترك حيلة في الدفاع عنه، ولا يبالي بعد ذلك أن يصير المجرم بريئاً والبريء مجرماً لأنه لا يمتهن بمهنة المحاماة لحماية الحق ونصرة المظلوم.

2-أنه لا مكان لمهنة المحاماة في النظام القضائي الاسلامي لأنها نقيضة لروحه وتقاليده بدليل أن الحكم الإسلامي في الاثنى عشر قرناً الماضية لم يعرف هذه الحرفة في نظامه القضائي.

3-أن إقرار العمل بالمهنة قد يؤدي إلى التشجيع على المنازعات وانتشار الخصومات والقضايا الملفقة والشهادات المزوة في ساحات المحاكم.

(نكمل في المقال القادم إن شاء الله تعالى).
---------------------
بقلم: محمـد جـلال عبـد الرحمن
* محـامٍ وكاتب حاصـل على جائـزة الدولـة في العلوم الرقميـة.
بريد الكتروني: [email protected]

مقالات اخرى للكاتب

سلطــة المحكمة التجارية في إحضـار شاهـد بالقـوة الجبـريـة في النظام السعودي





اعلان