28 - 03 - 2024

جمال حمدان والخلافة الإسلامية (1)

جمال حمدان والخلافة الإسلامية (1)

- الحركات السياسية المتشحة بالدين تنتهي إلى ثيوقراطيات متواضعة يتحول بها شيوخ الطرق إلى ملوك الصحراء، تتقوقع وتتحجر لتصبح معاقل الرجعية العاتية وتظل في تحالف مطلق مع الاستعمار

سأخوض مغامرة هنا في حلقات، لأقدم لك خلاصة ما كتبه حمدان عن نظرية "الخلافة الإسلامية" أو "الوحدة الإسلامية".

في عام 1971 أصدر حمدان كتابا رشيقا لا يزيد عن 200 صفحة من القطع الصغير بعنوان "العالم الإسلامي المعاصر" ويبدو أن هذا عنوان تجاري لدار النشر لأننا نستشف من مقدمة حمدان أنه يقصد بشكل مباشر "جغرافية الإسلام".

قسم حمدان موضوعه إلى أربعة فصول، الفصول الثلاثة الأولى قد لا تغري الكثيرين بالصبر عليها لأنها بحث تفصيلي في جغرافية انتشار الإسلام وتوزيعه على القارات والأقاليم. صحيح أن حمدان يكتب هنا بلغته وأسلوبه الفريد لكنه أسير المعلومات والخرائط ويتحرك بعقلية الباحث الملتزم بالمراجع والمصادر.

أما الفصل الرابع والأخير والذي يحمل عنوان "نظرية الوحدة الإسلامية" فهو ملعب حمدان الأثير، حيث ينطلق مغردا بعبقريته في الربط والتحليل المستمد من صفاء ذهني، ومتمتعا بالجدار الحصين الذي أحاط به عقله من مشوشات التأثير التي نعرفها في حياتنا المعاصرة. كان حمدان قد قطع شوطا مهما في عزلته، واعتاد على التجلي بعد 8 سنوات من الخلوة المثمرة التي قررها في عام 1963 فانطلق هنا يحلق ويغرد.

في كل حلقة سأضع 10 أفكار فقط، توجز ما أراد حمدان عرضه في هذه القضية المهمة. 

 (1) الإسلام ليس أول الأديان التي تتخذها السياسة قناعا وستارا، فالتاريخ حافل بنماذج كثيرة مثل الحركات الصليبية التي كانت استعمارا متنكرا بشعار الصليب، وليس الاستعمار الأوروبي الحديث إلا ويحمل شكلا من أشكال تلك الحركات. ورغم أن الإسلام لم يعرف هيراركية كهنوتية أو وساطة بابوية إلا أن تاريخه لم يخل من قدر من تداخل بين الدين والدولة، الأمر الذي تسبب في استغلال الدين لخدمة السياسة أو تغطية أغراضها. وما الفرق الدينية والشيع والطوائف التي تـــــــكاثرت فجأة في صدر الإسلام وما بعده إلا تحزبات وتحيزات سياسية وصراعات على السلطة والحـــــكم، وما زال أثرها باقيا إلى اليوم.

(2) وفيما عدا الوحدة الدينية المؤكدة إلا أن العالم الإسلامي ليس وحدة طبيعية. فالإسلام منتشر في بيئات متنوعة ومختلفة لا يجمعه نمط بيئي واحد (أقاليم استوائية ومدارية واستبس وصحاري وغابات ومناطق ساحلية وقارية، سهلية وجبلية، حارة وباردة...إلخ). كما أن العالم الإسلامي ليس وحدة بشرية جامعة ففيه مئات اللغات والأجناس والسلالات والقوميات، ما قد يجعله متحفًا بشريًا أو نمطًا يشبه الموزايكو (قوقاز، وزنوج، درافيديون وملاويون، مغول، عرب وترك وفرس... الخ). وكل من هذه أو بعضها قابل للقسمة إلى مزيد من التفريعات والتصانيف. باختصار العالم الإسلامي ليس وحدة حضارية بالمعنى الانثروبولوجي الكامل للمصطلح.

(3) إن تسمية "العالم" هي في حد ذاتها تسمية نافية للوحدة، فهذه التسمية دليل على ما فيه من تفاوت وتباين، بل وتنافر وخلاسية في أبعاده غير الدينية. إن العالم الإسلامي باختصار قطاع عرضي كامل من العالم القديم بقاراته الثلاث أو نموذج مصغر لذلك العالم القديم.

(4) رغم أن العصور الوسطى هي عصر الدين بامتياز، سواء في ذلك الشرق أو الغرب. إلا أن الخلافة، التي كانت تجسد وحدة العالم الإسلامي مركزيًا في العصر البطولي للإسلام إبان الدولة العربية الإسلامية، شهدت تفـــــككا وتعددا. وانقسم العالم الإسلامي إلى عدد سريع التغير، من الدول المنفصلة المستقلة، وأحيانًا هوت هذه إلى زحمة مربكة كرقعة الشطرنج من الدويلات والإمارات والأتابكيات، حتى فقد العالم الإسلامي وحدته السياسية الأولى. ولعل جزءًا من السبب في هذا التفتيت أن نطاق العقيدة كان قد اتسع كثيرًا عما كان عليه في صدر الإسلام، ولم تعد قاصرة على تلك الــــكتلة الأرضية المتصلة المندمجة بعد أن قفز الإسلام عبر حدود الصحارى هنا وعبر البحار هناك.

(5) لعبت الأخطار الخارجية ضد العالم الإسلامي دورا في تغذية الاتجاهات الجاذبة ذات النزعة المركزية من اجل إعادة لم شتاته وتوحيد المبعثر منه، وكان من أهم تلك الأخطار الخارجية "الصليبيات"، رغم دوافعها الــــكامنة كاستعمار اقتصادي خبيء. وهنا فقط بدأت ردة الفعل في صورة دينية، وتلخص الصراع في مبارزة ملحمية ومصيرية بين الإسلام والمسيحية. وحتى هذه الوحدة التي أثارتها الصليبيات لم تتجاوز مصر والشام.

(6) إذا اعتبرنا أن ما كتبه ابن تيمية في القرن الرابع عشر (ومن بعده تلميذه ابن قيم الجوزية)، مثالا على أفكار الوحدة الإسلامية باعتبارهما – عند جمهرة الفقهاء المحدثين -  أول دعاة الوحدة الإسلامية. فإن ما دعوا إليه في الحقيقة جاء صدى لعصر تفــــكك وتمزق الدول الإسلامية وعصر الأخطار الخارجية المحدقة. وإذا تفحصنا ما قدموه فلن نجد أنهم وأمثالهم نادوا بدولة إسلامية عالمية موحدة، وإنما إلى شيء أشبه "باتحاد كونفدرالي" يجمع العالم الإسلامي جميعًا، ولـــــــكن شيئًا من ذلك لم يتحقق.

(7) استغل الاستعمار الديني التركي الخلافة مطية وواجهة لاكتساب الشرعية، وباسم الدين نجح في فرض استعماره الغاشم على المسلمين، وعلى أساس الدين ونظام الملة الذي ابتدعه لم ينجح إلا في أن يفاقم مشكلة الطائفية ويبلورها في العالم العربي. لم تكن الدعوة للخلافة سوى شكلية اسمية أفرغت من محتواها الأصيل كوعاء للوحدة الإسلامية. وعلى ذكريات الصليبيات استطاع الأتراك العثمانيون أن يستعمروا فكرة الخلافة ويستثمروها لــــكي تعطي شرعية دينية لسيطرتهم الجديدة في العالم الإسلامي. هذا على الرغم من أن العثمانية لم تشمل على اتساعها إلا قطاعًا في غرب العالم الإسلامي، أما إلى الشرق من جبال زاجروس في إيران فقد تعددت الدول وأجزاء الدول الإسلامية المستقلة. كما أنه ليس صحيحًا أن الخلافة العثمانية أعادت جوهر الوحدة الإسلامية، ففيها لم يكن "المؤمنون أخوة" عند أمير المؤمنين في أي معنى، وإنما الصحيح أن العثمانية "استعمار ديني" تخفى وراء وحدة الدين ولـــــكنه جعل من أقاليم الدولة توابع ومستعمرات حقيقية للمركز في عاصمة تلك الدولة. 

(😎 وكما استثمرت العثمانية الخلافة في بدايتها لتفرض نفسها، فإنها سعت إلى تجنيدها في النهاية لتمنع انهيار الدولة العثمانية حين عادت أوروبا ليست في صورة حملات صليبية بل في صورة استعمار واسع شامل مزود بحضارة وقوة جديدة لتطوق العالم الإسلامي من خلف ومن قدام، من البحر والبر، وذلك مع بداية عصر الاستعمار الحديث وبوجه خاص بعد الانقلاب الصناعي. وبعكس الصليبيات، لم يعد هذا تلاقي الأكفاء أو الأنداد، وإنما كان الإسلام متخلفًا متـــــكلسًا في حضيضه الحضاري والسياسي. وبدأ العالم الإسلامي يتهاوى ركنًا بعد ركن ويتداعى بصورة كاسفة. هنا فقط أعادت العثمانية فكرة الخلافة لتنقذ نفسها. لقد وقع العالم الإسلامي كله تحت الاستعمار البريطاني فيما عدا اليمن وقلب الجزيرة العربية، لا لأنه مهد الإسلام بقدر ما كان لفقره وعدم حاجة الاستعمار له آنذاك. 

 (9) لقد تجلت أهم تلك الحركات السياسية المتشحة بالدين في الصحراء؛ حيث شيوخ الطرق؛ وحيث الدعوة للجهاد، واندلعت كالعدوى الصحية وإن ظلت كالدوامات المحلية المنفصلة. على يد رجال الدين من مرابطين ودراويش وشيوخ "وملاه"، في مدارس وزوايا وخلوات، يبدأ كل منها في مشتل صحراوي بعيدًا عن يد الاستعمار، ثم لا تلبث أن تخرج من مشاتلها إلى المعمور وتتعدى تعاليمها إلى الــــــــكفاح المسلح لتحرير الإسلام والمسلمين. وكان أبرز أمثلة ذلك الوهابية في صحراء نجد، والسنوسية في صحارى شمال إفريقيا، والمهدية في سفانا السودان. وتعدى تأثير بعضها رقعته الجغرافية كإشعاعات الوهابية في بلاد الهند والأفغان. بيد أنها جميعًا تنتهي في التحليل الأخير إلى ثيوقراطيات متواضعة، مجرد إمارات أسرية وراثية يتحول بها شيوخ الطرق إلى ملوك الصحراء، تتقوقع في انفصالية وطنية ضيقة وتتحجر على نظمها وأنماطها الاجتماعية والحضارية لتصبح معاقل الرجعية العاتية في العالم الإسلامي، كل أولئك في تحالف مطلق مع الاستعمار الذي قامت أصلًا لتتصدى له.

(10) إن الدعوة الحماسية للخلافة الإسلامية حالة متوقعة يتخندق فيها الإسلام المثخن بالجراح في حمى الدين، ويتخذ العمل السياسي من أجل الـــكفاح التحرري شكلا دينيًا،  لا سيما أن الإسلام نفسه كعقيدة تعرض حينذاك لحملات لا مثيل لها من التشهير والقذف من جانب المستشرقين وغير المستشرقين وتعرض لموجة أقرب إلى الصليبيات الجديدة. وكما في الصليبيات تحول العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، إلى خلية عارمة تزخر بالحركات الدينية والتيارات والدوامات السياسية تنادي بالوحدة الإسلامية الكبرى، وتتخذ بوصلتها ماضي الإسلام البطولي.
---------------------
بقلم: د. عاطف معتمد 
(نقلا عن صفحة الكاتب على "فيس بوك")







اعلان