26 - 04 - 2024

فى رواية "رحلة إبراهيم" للأديب محمد هلال: عبقرية الهوية، حتمية التنوير وجذورنا الفرعونية والعربية!!

فى رواية

التمرد والثورة والجدل حول مسائل فلسفية " كثيرا ما تحدث بها معنا، حول مسألة الدين.. هل الانسان مسير أم مخير؟.. هل الأديان حقيقة أم وهما ابتدعه الانسان لتهدئته واستقراره نفسيا؟.

لم يخطر بذهنى ان تتبلور تلك المناقشات فى صورة عمل أدبى له يرى النور، يبحث بكل جرأة تلك القضية ويتعمق فى بحور الكتب والدراسات بحثا عن اجابات تشفي الصدور. إنه الأديب والكاتب الصحفى محمد هلال فى روايته "رحلة ابراهيم".. فى البداية يصدمك الكاتب، ولكنه ياخذك معه فى رحلة بحثه، أملا فى الوصول إلى إجابات شافية لتساؤلات محيرة عن أصل الوجود، وهل الأقدار هى المتحكمة فينا أم عقولنا؟ وهذا ليس بجديد على محمد هلال، فقد عرفناه قلق الذهن بالسليقة، مهموما بالبحث عن الحقيقة، يرفض الإكليشيهات الجاهزة فتطارده الأفكار ويطاردها، قاص  يسرى الأدب فى دمه مهما اعترته من صعوبات أبعدته عنه قليلا للعمل فى الصحافة كسبا للعيش، حكاء مجيد غزير الإنتاج، فرواية "رحلة إبراهيم" ليست العمل الوحيد للكاتب والقاص. فقد سبق وصدرت له أعمال أدبية كثيرة منها: أرض المراغة ، مابعد موتى ، ماتيسر من سيرة العشق ، عطش الشيطان ، درب البهلوان ، سجن المزرعة. وهاهى دور النشر تتلقف أعماله،  فلا يمر عام إلا وظهر إلى النور مولود أدبى جديد يمتع به قراءه.

التمرد والثورة غاية للتجديد!

وفق تعريف علماء النفس لمفهوم التمرد، هو رفض تنفيذ الأوامر، ويختلف مفهوم التمرد عن الثورة فى شرعيته الاجتماعية ومقدار تقبل الناس له وانخراطهم فيه، وتبدأ كل ثورة اجتماعية بعملية تمرد تقوم بها جماعة من الأفراد، ثم تستقطب مجموعات أخرى من الناس، حتى تعم أغلب الفاعلين الاجتماعيين وتنظم تمردهم.  وفقا لهذا التعريف، نجد أن رواية "رحلة إبراهيم" تسود فيها فكرة التمرد والثورة معا على المألوف والسائد فى المجتمع سواء العادات أو التقاليد أو العقيدة وغيرها،     فعلى الرغم من أن الرواية جاءت فى عدة أجزاء وبعناوين مختلفة، إلا أنه يربطها خيط واحد وهو التمرد، فجاءت فى صورة تحكي أمثلة عن التمرد، فتارة تمرد وثورة ضد الجهل، كما فى الجزء الأول من الرواية، وتارة أخرى تمرد على أنماط العبادات عند العرب قبل الإسلام، وقد جعل محمد هلال القدوة فى ذلك سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، الذى اختاره الكاتب ليكون عنوانا للرواية، والذى رفض ما نشأ عليه آباءه من عبادة الأصنام، وثالثة ضد المناهج التعليمية الأزهرية، والتى لم يتم تطويرها بعد، وهو ماقام به والد النفيس بطل الرواية، الذى توفى صغيرا فى السن وقد نال جزاء مريرا لتمرده بتكفيره ، ونسبة كتاب زائف يحوي أفكارا شاذة إليه لتشويهه بعد رفضه التراجع عن أفكاره التى وصفوها "بالكافرة". ورابعة ضد العادات والتقاليد البالية فى أنماط الزواج عند العرب قديما قبل الإسلام، وهنا يصحبنا محمد هلال فى هذا الجزء فى رحلة ممتعة عن أنماط هذا الزواج، مثل زواج الرهط وزواج الاستبضاع، والآلهة عند العرب وتمركز حياتهم حولها. وعن جهل نظرة المصريين للآثار المصرية، وضرب مثالا على ذلك بنظرتهم للحارس أبو الهول والقصص الخرافية التى كان ينسجها خيال المصريين عن الكنز المدفون أسفله، وهنا تظهر شخصية محمد هلال الباحث والصحفى فلا يكتفى بالسرد القصصى فى الرواية بل يغذيها بالقراءات والبحث والتحليل. كما يظهر هذا المجهود البحثى لمحمد هلال جليا فى الجزء الخاص بمصر تحت الحكم الرومانى  واضطهاد الأقباط  قبل دخول الإسلام والعرب إلى مصر، وكيف انصهرت القبائل العربية التى هاجرت الى مصر قبل وبعد دخول الإسلام مصر، فى نسيج المجتمع المصرى.

تتجلى فكرة التمرد فى رواية "رحلة إبراهيم" في إطار حوارات بين الحفيد بطل الرواية يدعى "النفيس" وجده الذي يقنعه بإعادة فتح منزل قديم تملكه العائلة، بعد أن هجره الأهل بسبب شائعات وأقاويل عن كونه مسكونا بالجن والعفاريت، إلا أن الحفيد "النفيس" يصر على رأيه ليكشف لهم أوهامهم، فيحول البيت إلى مزار ثقافى يرتاده الأجانب من كل حدب وصوب، ويكتشف الحفيد أيضا أن البيت يحوي كنوزا تركها له جده من كتب ومخطوطات تخبره عن ما تركه الأجداد من قصص وحكايات عمن سبقونا، وهو ما عبرعنه محمد هلال فى مقدمة الرواية بقوله: "من أروع نعم الله على الإنسان أن هداه إلى التدوين واختراع أساليب الكتابة، فدون خكاياته فوق الصخور، ثم عظام الحيوانات وجلودها، ثم بعد ذلك الأوراق وما بعدها من وسائل حديثة. وهكذا جعل السابق يحفظ ذاكرة البشرية للاحق".

أيضا كان لتمرد الشعراء فى مصر على قوالب الشعر القديمة نصيب فى رواية رحلة إبراهيم، حيث جعل لوالد "النفيس" دور كبير فى ذلك، كما جاء على لسان زميل والده فى الأزهر "الشيخ عبدالتواب" الذى آثر السلامة، ولم يسر فى ركب والد "النفيس" وإلا سيلقى نفس مصيره ونسبة آراء خاطئة إليه.. يقول الشيخ عبدالتواب كما ورد فى الرواية "أتعرف أن لوالدك الفضل فى ابتعادى عن الشعر العمودي؟" 

الرمز والرمزية فى رواية رحلة ابراهيم

وفقا لمفهوم الرمز فى الأدب، فإنه بمثابة إشارة من الشاعر أو الأديب يتخفى خلفها بعض الأمور التى لا يريد المؤلف أن تصل بشكل مباشر، وانما ببحث وتحر، وهو أيضا التعبير غير المباشر عن النواحى النفسية المستترة، وكذلك الرمزية هي التعبير عن الأفكار والعواطف بطريقة غير مباشرة.. وفقا لتلك المفاهيم نجد أن الرمزية  تتجلى فى رواية "رحلة إبراهيم"، إذ لم يكن اختيار الكاتب لإظهار شخصيات الجد والحفيد وإخفاء الأب وموته إلا تعبيرا عن  مسار حركة التنوير فى مصر عبر ثلاثة أجيال على مدار نحو مائة عام، والتى مرت بعدة محطات، تلك الحركة التى بدأها الإمام محمد عبده وغيره حين اجتهد فى إباحة النحت والتصوير فى الإسلام وعدم حرمانية إقامة المتاحف، وفى رأيي عبر عنها الأديب محمد هلال  بجيل الجد، ولكنها توقفت مع صعود التيارات الدينية وذيوع حركة الإخوان المسلمين وتغلغل الوهابية، وقد رمز لمسيرة التنويرالتى تعرقلت قليلا بالأب الذى مات صغير السن، فما أن بدأت حركة التنوير وفتح باب الاجتهاد إلا وقد ووجهت بالحركات السلفية المعتمدة على النقل وإلغاء العقل وعلو نعرات التكفير وتحريم الموسيقى والنحت، أما مرحلة عودة حركة التنوير ومحاولة تصحيح المسار، فقد رمز لها بمرحلة الحفيد الذى يحاول إحياء مسيرة التنوير من جديد، وهنا يقوم الابن باكمال مسيرة جده وأبيه، فيفتح المنزل القديم وينظفه من أعشاش العنكبوت والأتربة التى تراكمت  منذ سنوات بعيدة، فيحول المنزل إلى مزار ثقافى يعلم فنون التصوير والنحت والموسيقى. 

امتلأت الرواية بالرموزالتى تواءمت مع فكرة التمرد، فالبيت الكبير الذى ورثه النفيس وعائلته وأعاد فتحه وترتيبه وتنظيفه ماهو إلا وطنه ووطن أجداده مصر ونهضتها الثقافية بعد سنين ظلامية طويلة، عاشتها مصر تحت الحكم العثمانى ساد فيها الجهل والتخلف والفقر وعدم الاعتداد بتراثها الحضارى وآثارها التى ظلت مجهولة إلى أن بدأت نهضتها الثقافية، وقد لخص كاتب الرواية ذلك فى سفر بطل الرواية إلى فرنسا ليدرس الفنون ويعود إلى وطنه، فينشيء مركزا ثقافيا فتتغير نظرة ذويه لنحت التماثيل وللموسيقى والتى توجت بافتتاح كلية الفنون الجميلة بدرب الجماميز على يد الأمير يوسف كمال، وهنا يشير الكاتب الى دور البعثات العلمية آنذاك فى نقل النهضة الثقافية من الغرب إلى مصر. 


هوية مصر على درب الدكتور جمال حمدان!

كما جسد الكاتب محمد هلال هوية مصر فى الرواية عبر مكونات البيت الذى تركه جده من الداخل، والذى يحوى مخطوطات عربية ثمينة وأيقونات مسيحية، فقد جعل البيت فى نزلة السمان التى تحوى كنوزا فرعونية لاتقدر بثمن، ونسب أول بيت بنى بنزلة السمان لجده من أصول عربية وهو الوليد ابن حجر السمان، والتى سميت باسمه منطقة نزلة السمان، وهو من رفض عبادة الأصنام وهرب من مطاردة أهله ليستقر فى مصر وقد افترض له اسما وهميا "الوليد بن حجر" كرمز لكل القبائل العربية التى استوطنت بمصر وانصهرت فى النسيج المصرى. كما وجد ضمن محتويات البيت الذى ورثه النفيس عن جده، أيقونات مسيحية على اعتبار أنهم من نسيج المجتمع، وهنا يشير محمد هلال إلى أنه لا انفصال بين فرعونية مصر وعروبتها، كما ذكر من قبل الدكتور جمال حمدان فى موسوعته "شخصية مصر" فإن مصر فرعونية بالجد ولكنها عربية بالأب، وأن العرب هم من أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصرى وأن الموجة العربية لم تزح الأساس القبطى إلى جيب الجنوب المغلق فى الصعيد، على حد ذكر الباحث محمد السيد اسماعيل فى موقع اصوات اون لاين، كما ورد فى الرواية ما يشير إلى اعتزاز البطل بانتسابه لأجداده العرب القدامى ما يلى: "فكرة أكثر من رائعة ياجدي.. كم أتمنى لو أعرف له قبرا يزار حتى يكتمل تكريمنا لذكراه، ولكن بيننا وبينه ألف سنة ونصف ألف درست فيها القبور مرات ومرات وتبدلت الخرائط والأحوال وأغلب الظن أوصاهم بتعهد البيت بالرعاية.. ولولا تعهد أحفاده وأحفاد أحفاد أحفاده بترميم البيت الكبير.. لكان كومة من حجارة لانعرف لها سرا، سوى أنها من بقايا قدماء المصريين". كما ورد أيضا خلال الرواية فى حوارات الجد مع الحفيد ما يشير إلى عدم تنحي الأقباط فى مصر جانبا: "كان أجدادك من الأقباط، ولكن بعض أولادهم اعتنقوا الإسلام ... وسترى الصلبان وتمائم العذراء وأيقونات القديسين فى جنبات البيت"

خرافات الخواجة ينى!

لم ينس القاص محمد هلال العنصر اليهودى فى رواية "رحلة إبراهيم" إلا آنه رفض محاولة نسبة أي أصول يهودية للمصريين. وهو ما نجده من تحذير الجد للحفيد "النفيس" من محاولات اليهود نسبة أصول المصريين إليهم، والذى رمز محمد هلال له "بالخواجة ينى" وما يردده من أكاذيب حول احتواء المنزل على تراث يهودى ممثل فى تماثيل وشمعدان وغيره. وهو ما ذكرهالدكتور جمال حمدان فى كتابه "شخصية مصر" أن المصريين القدماء شعب أصيل وأن اليهود طردوا تماما من مصر ومعهم الهكسوس، وبالتالى فلا وجود لهم فى الهوية المصرية من قريب أو بعيد. 

مناقشات فلسفية حول الدين!!

بالرغم من الآراء المحيرة لمحمد هلال فى مسألة الدين أحيانا، كحديثه عن الشيطان الذى لم يشرك بالله رغم عصيانه له، إلا أنها لا تخرج عن إطار فلسفي، تنم عن إيمان عميق برب الكون خالق كل شيء، غايته الوصول إلى الحقيقة وهى ربوبية الخالق عز وجل والوصول إلى إسلام صاف من الشوائب التى اعترته على مر السنين والتى امتلات بها كتب التراث، إسلام يخاطب العقل لا يقوم بإلغائه، ولعل بطل الرواية يعبر عن مئات المفكرين الذين انتقدوا بل رفضوا التعليم الأزهرى آنذاك، ومنهم عميد الأدب العربى طه حسين ومصطفى لطفى المنفلوطى وغيرهم كثيرون ممن تمردوا على الدراسة فى الأزهرعلى حالته فى ذلك الوقت. يقول الكاتب فى روايته، على لسان والد بطل الرواية "النفيس": إذا توقف الفكر قامت القيامة.. فناء الدنيا قى توقفها عن الجديد، فلا تتوقفوا فتيبسوا وتموتوا.. ماذا لو عاش الواحد منا ألف عام يأكل ويشرب وينام وينجب ثم يرحل ولم يضف فعلا للناس؟" كما ورد فى الرواية على لسان البطل: "حفظى للقرآن الكريم ياجدي الطيب عصمنى من أخطاء كثيرة..عرفت قيمة حفظى للقرآن الكريم فكان يدفعنى لمزيد من المعرفة ولا يجعل الشهوة مبلغ همى ..."

نزلة السمان رمز لعراقة المكان 

  لم ينس الكاتب الاعتداد بعنصري المكان والزمان، فالمكان منطقة أثرية خدمت الرواية وهى نزلة السمان وما تحويه من آثار كانت عرضة للنهب من تجار الآثار الذين لا ينظرون إليها إلا مصدرا للمال، والحلم بوجود كنوز منذ زمن بعيد أسفلها بعيدا عن كونها كنوزا لا تقدر بثمن، فهى تحوي تاريخ الأجداد الذين دونوا على جدرانها ليخبرونا بتفاصيل حياتهم وقصصهم، وعلى الرغم من أن أحداث الرواية وما حوته من قصص متعددة انتقلت إلى أماكن أخرى، إلا أنها تعلقت جميعها  بمصر بلد الكاتب، ولعل اختيار الكاتب لمنطقة الأهرامات ونزلة السمان لم يأت أيضا كشيء عفوي، فهو يشير إلى عظمه وطنه وحضارته العريقة، والتى لا تستحق أن يعشش فيها الجهل والتخلف والاستهتار بالتراث والحضارة. ورد فى الرواية: "قبالة وجه أبى الهول حارس الأهرامات، تقبع قرية لايجوز لغيرها أن تباهى الكون بهذا التميز، اسمها نزلة السمان "أكسبها هذا الاسم أشهر من وفدوا إلى المكان هذا الولى الراقد فى ضريحه المتواضع بزاوية مسجده الكبير وساحته الواسعة التى يعمرها دراويش الصوفية أسبوعا كاملا بمناسبة مولده، إنه "الشيخ السمان"

سيدنا إبراهيم أكبر المتمردين عبر الزمان

 أما الزمان، فقد اختار الكاتب أزمنة قديمة قبل دخول الإسلام إلى مصر وبعده حتى منتصف القرن العشرين، رصد فيها فكرة التمرد على السائد والمألوف إلى أن وصلت مصر إلى مرحلة حديثة، اختارالكاتب زمن سيدنا إبراهيم وفترة الجاهلية قبل الإسلام، كما اختار فترة الحكم العثمانى لمصر وبداية نهضة مصر الثقافية والعلمية، عبر البعثات العلمية إلى أوروبا، وفى تحليلي لأهمية المكان والأحداث التى دارت فى الرواية فجميعها فى وطنه، حتى وإن انتقل إلى أي مكان آخر، فهو يؤول فى النهاية إلى غايته مصر والتى خصها عبر أزمنة مختلفة ليصل إلى تحديد كينونتها وهويتها ومستقبلها الثقافى والعلمي، معتزا بتراث أجداده الفراعنة الذين برعوا فى فن النحت، وعروبته التى استمدها من أجداده العرب الذين استقروا بمصر، إذ يختم محمد هلال الرواية بضرورة عمل أربعة تماثيل لأجداده العرب، وتعهده بإكمال مسيرتهم فى إعادة ترميم البيت الكبير "وإلا كان كومة من حجارة لاتعرف لها سرا سوى أنها من بقايا المصريين القدماء".

وأخيرا، لا يمكنني أن أختم رواية "رحلة إبراهيم" دون أن أشهد أنها وجبة دسمة  ممتعة للقارئ تستحق الإبحار فيها بلا ملل، وقراءتها بعناية لفك رموزها وطلاسمها، فكل كلمة لها دلالتها عند الكاتب، وكل شخصية قام بتوظيفها بعناية لتعبر عن مكنونه وغايته فى وصف هوية وطنه مصر وتاريخها الطويل منذ الأزل.
------------------------------
 قراءة وتحليل: هدى مكاوى 

من المشهد الأسبوعي







اعلان