10 - 11 - 2024

الدكتور منير القادري يدرس دور التأهيل الروحي للتصوف وكسب رهان الحداثة والتطور

الدكتور منير القادري يدرس دور التأهيل الروحي للتصوف وكسب رهان الحداثة والتطور

اختار رئيس مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورو المتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، الدكتور منير القادري، في الليلة الرقمية السابعة والثمانين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، في إطار فعاليات ليالي الوصال الرقمية "ذكر وفكر في زمن كورونا"، تناول دور التأهيل الروحي للتصوف وكسب رهان الحداثة والتطور.


أشار في بداية مداخلته الى غنى الفكر الإنساني عامة والفكرالإسلامي خاصة بما تزخر به المكتبات العالمية من تراث صوفي ضخم، وبما نشأ حول هذا التراث من حوارات وجدالات مختلفة سواء من حيث منطلقاتها المرجعية أو من حيث غايتها التي تسعى لتحقيقها، والتي تتراوح بين الاحترام والتقدير لجلال التصوف وشموخه، وبين الحقد والكراهية بسبب الجهل بسمو مكانته، أو بدافع الحسد لأهله وأصفيائه الذين تألقوا في سماء الحب الإلهي الخالص وارتقوا في المعراج الروحي والخلقي .


ومثَّل القادري لذلك بموقف الماديين المعادي للتصوف الذين اعتبروه مجرد هراء، مبينا إفلاس مذاهبهم، و مشيرا الى وصف الفيلسوف الروسي  نيكولاي فيتس تلستوي لهم بأنهم "بؤساء روحانيون "، وكذا وصف الكاتب و الفيلسوف البريطاني ألدوس هكسلي لهم  بـ "المنتحرين الضالين"، واللذين أكدا معا على أهمية الجانب الروحي، واعتبر القادري أن هؤلاء الماديين ينطبق عليهم الحكم الرباني في القرآن الكريم: " إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا "

كما تطرق الى موقف الفلاسفة العقلانيين المتعصبين للعقل البشري باعتباره الأداة الوحيدة للمعرفة وإدراك الحقيقة، مشيرا الى انكارهم على رجال التصوف اتخادهم أدوات أخرى للمعرفة تفوق العقل البشري وتتجاوز حدوده وقدراته ومداه، وتابع أن الصوفية رفضوا في حوارهم مع هؤلاء الفلاسفة إيمانهم المطلق بعصمة العقل البشري،  لكونه أداة للتفكير العلمي والمنطقي والتأملي في العالم المادي، وأنه أداة فاشلة وعاجزة عندما تريد أن تقتحم  مجال المعرفة الإلهية التي لا يحيط بها عقل بشري مهما عظمت عبقريته، ولا تصفها لغة بشرية مهما سمت وارتفعت وتطورت، لأنها معاني سامية تستلزم أدوات معرفية روحية وقلبية ، مستشهدا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم  "انا اعلمكم بالله"، و أن المعرفة فعل القلب لقوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " (رواه البخاري  .


ونبه الى إفلاس القوى المادية ومعها جميع المذاهب الفلسفية الغربية في تحقيق السعادة والاطمئنان الروحي للإنسان وإيجاد حلول واقعية ناجعة لحاضرنا المتأزم المريض بانعدام التوازن بين المادة والروح.


و أبرز في نفس السياق قوةَ تيقن الفلاسفة الذين أسعدهم الله فولجوا رحاب التصوف واغترفوا من بحار معانيه وأسراره بأن العقل البشري محدود المكونات، وأن أولي الألباب العارفين بالله فائزون ومنعمون بمعرفة الله تعالى، لأنهم انشغلوا بطهارة القلوب مما سوى الحق تعالى وهذبوا النفوس وجادوا بالأرواح والعشق الإلهي فجاد عليهم الكريم الرحيم بأنوار وأسرار معرفته  مصداقا لقوله تعالى"واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم"( سورة البقرة، الآية  282 ).


و انتقد القادري في نفس المضمار مبالغة بعض الفقهاء في الإنكار على الصوفية ووسْمِهم بالمروق ومخالفة ظاهر الشرع، مُشيدا في نفس الوقت بإنصاف الأئمة الكبار من رجال الفقه الذين أجَلوا رجال التصوف واعترفوا لهم بالفضل والمكانة العالية،  موردا قول الشيخ ابن تيمية في الجزء السابع من( كتابه الفتاوى) : "والصُّوفيَّةُ مجتَهِدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من  الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليه من هو ظالم لنفسه عاصٍ لرَبِّه"، "وأما انتسابُ الطائفة إلى شيخ معين دائما فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون، وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرء له من يعلمه القرآن النحو فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر"، وبقول ابن القيم في كتابه «طريق الهجرتين »: " ومنها أن هذا العلمَ التصوفَ هو من أشرف علوم العباد وليس بعد علم التوحيد أشرف منه وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة" وبقول الإمام مالك رحمه الله: "من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق."


واستدل القادري ببعض المبادئ والأصول التي أعلنها كبار مشايخ الصوفية والمستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي تميز بوضوح بين المنتسب الصادق والمنتسب المنتحل الذي لا يعتد بما يبدر ويصدر منه بل يبرَأ التصوف منه ولا يعترف به، مذكرا بقول  الإمام سهل التستري: "أصول طريقتنا سبعة: التمسك بالكتاب والاقتداء بالسنة وأكل الحلال وكف الأذى وتجنب المعاصي ولزوم التوبة وأداء الحقوق" إضافة الى قول الإمام الغزالي:" اعلمْ أنَّ سالك سبيل الله تعالَى قليلٌ، والمدعي فيه كثير، ونحن نعَرِّفُكَ بعلامَاتِهِ وَهِيَ: أن تكونَ جميعُ أفعاله الاختياريَّةِ موزونة بميزان الشرع موقوتة على توقيفاته إيرادا وإصدارا وإقداما وإحجاما؛ إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟."


ليَخْلُصَ الدكتور منير الى أن التصوف السني هو منهج عملي يقوم على العمل لا على النظر، من خلال الحرص على مراعاة الحدود، فيقف السالك عند المنهيات، ويؤدي الواجبات، فضلا عن الاجتهاد والطاعات، والتوسع بأشكال القربات،   مذكرا بقول العلامة مولاي عبد القادر الجيلاني في كتابه (فتوح الغيب )"كل حقيقة لم تشهد لها الشريعة فهي زندقة، فعِلْمُ الشريعة مفتاح لعلم الحقيقة، ومن أتى الباب بلا مفتاح لا يطمع في دخوله".


وأكد القادري على ضرورة التصوف في المساعدة على تقديم العلاج الشافي لأدواء العصر الحاضر، وقال "فإذا اتفقنا على أن أزمة عصرنا الحاضر هي أزمة أخلاقية بامتياز في صميمها وعلمنا أن التصوف أخلاق أولا يكون، أدركنا عظيم دور التصوفِ -مقامِ الإحْسَانِ-  في إصلاح واقعنا المأزوم"، واستطرد " وإذا كانت رسالة النبي الأكرم صلى الله وسلم عليه تتمثل في إتمام مكارم الأخلاق فإن التصوف وفق ذلك هو روح الإسلام، كيف لا والأخلاق هي دعامة التصوف، ومناط اهتمام المتصوفة"، مشيرا في نفس المضمار إلى "أن الصوفي يعيش الحياة المادية ولكنه دائم التعبد والتفكر والذكر، يقبل على العبادة باجتهاد، لأنه في مقام الإحسان؛ مقام المراقبة،  ويحاول أن يكون أكثر استقامة وأكثر أحسانا وتسامحا ولا يكتفي العناية بنفسه بل عليه أن يخدم الإنسانية بالعلم والعمل والسلوك القويم الذي هو ثمرة العبادة، لأن الطاقة التي تحركه هي المحبة، ولا يمكن أن تكون معرفة إلهية من غير محبة، فالطاقة الوحيدة التي تسمح للكائن البشري أن يصل إلى هذا الطريق ويترقى فيه هي المحبة".


وشدد رئيس المركزالأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم على الحاجة الملحة  في هذا العصر إلى تبادل المحبة، لأنها من روح الإسلام، مذكرا بقوله تعالى : { قلِ انْ كنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ } سورة آل عمران، (الآية:31)، وبالحديث الشريف  « إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أيْنَ المُتَحَابُّونَ  بِجلَالِي؟  اليَوْمَ أظلهم بظلي يوم لا ظل إلا ظْلي»  رواه مسلم عن أبي هريرة.


ونوه إلى دور القيم الأخلاقية في النهوض بالمجتمع الإنساني ومواجهة أزماته، لأن المجتمع قائم بأفراده الذين يضطلعون بأدوار مختلفة في الحياة العامة، لكن قد تعتريهم نقائص وتعترضهم عوائق وتحف بهم منزلقات انطلاقا من طبيعتهم البشرية الموصوفة بالقصور وعدم الكمال، مؤكدا على دور المجتمع في العمل على تجاوز هذه الآفات وتداركها من خلال التخطيط للمستقبل من أجل بناء الفرد أو المواطن تربويا وأخلاقيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومدنيا من خلال مؤسسات تضطلع بأدوارها في التأطير والإعداد والتخليق والاجتهاد في إبداع الأساليب الكفيلة بتحقيق التنمية البشرية المنشودة المبنية على القيم الأخلاقية.


وأشاد بأدوار المؤسسات التربوية وأهميتها الكبرى في ترسيخ معايير الانتماء في النفوس وتعزيزها في المواقف المجتمعية بأشكالها المتنوعة حتى يؤمِن كل فرد بدوره في الحفاظ على أمن مجتمعه واستقراره وتقدمه، مثلما يؤمن المجتمع أو الدولة بضرورة توفير كل السبل التي تجعل من هذا الفرد عنصرا فاعلا في الحفاظ على مجتمعه ووطنه.


وأكد على حاجة المجتمع الملحة إلى تأمين تلك الجهود التربوية في بناء وتشييد كيانه على الوجه الأفضل وإلى تأطير روحي أخلاقي يمَكِّن الفرد من امتلاك أسباب تهذيب السلوك وتشكيل الذات وفق قيم النفع والصلاح والإصلاح وإرادة الخيرية للجميع.


ونبه الى أن التربية الروحية تقوم  بتأهيل المريد روحيا واخلاقيا لإكسابه كفايات الصلاح المتمثلة  في الصدق والإخلاص والأمانة والمحبة وغيرها من كريم الأخلاق وحميد الصفات وذلك من خلال الاجتهاد في الأخذ بوسائل تربوية تناسب العصر وتراعي التغيرات والسياقات التي تطرأ على التطور الفكري والحضاري الإنساني، لأن الصوفي ابن وقته ، وعملا بقاعدة التبشير وعدم التنفير والحكمة والموعظة الحسنة من أجل الدفع إلى التحلي بكل خلق سني وتحصيل التخلي عن كل خلق دني ، واستطرد شارحا أن ذلك يكون باعتماد الذكر كتجربة روحية حية تمكن المشتغل به من إصلاح نفسه ونفع محيطه انطلاقا من المعاني الروحية التي تمده بها تجربة ذكر الله وصحبة الصادقين الأخيار المرشدين الدالين على الله فيصبح مواطنا صالحا نافعا منتجا في مختلف مناحي الحياة يدرأ الفساد عن نفسه وعن غيره ، وأعتبر أن ذلك يسهم في استنهاض همم الأفراد إلى الاشتغال ببناء الذات والتفاعل مع هموم المجتمع تفاعلا إيجابيا يسهم في بناء المواطنة الصادقة الفاعلة الكاملة.