25 - 04 - 2024

احتفالية بمرور 8 سنوات على رحيل أحمد فؤاد نجم .. الضمير الحي و"الشاعر البندقية" (1 من 2)

احتفالية بمرور 8 سنوات على رحيل أحمد فؤاد نجم .. الضمير الحي و

* د.كمال مغيث: لعب دورا كبيرا في تشكيل الوجدان.. ومن سجنوا لعبوا الدور الأنصع في إحياء صمود مصر بعد 67
* سوزان حرفي : امتداد لعبدالله النديم وبيرم التونسي تقمص روح ابن عروس ولم يستطع أي نظام بناء سور حوله 

شاعر مصري أصيل تكلم بلسان الشارع ولغته، عاش فقيرا لكنه كان غنيا جدا، ليس فقط بحب الناس لكنه كان غنيا بمبادئه وقيمه التي عاش مؤمنا بها ، وعاش ومات يطبقها، كانت ثلاث كلمات أساسية هي مفاتيح شخصية أحمد فؤاد نجم (الحرية – مصر – الثورة) هو لا يمثل مصر بكل مافيها من تاريخ وتراث وإبداع وحضارة فقط ، بل كان من طين هذه البلد ، ظل أحمد فؤاد نجم البسيط الذي يتنقل من المصانع للسكة الحديد للغورية ومساكن الزلزال ، هو نبت من وسط الناس وعبر عن كل الناس .. احمد فؤاد نجم.. فؤاد مصر ونجم مصر، ليس موجودا لأن كلماته فقط موجودة، بل إحساسه أيضا موجود وحبه لبلده، كان امتدادا لعبدالله النديم وبيرم التونسي ، سار على نفس النهج وأخذ لسان ابن عروس لذلك سيظل حيا مهما تبدلت الأنظمة أو استمر الطوق الخانق، فقد مرت الأيام وعندما حدثت الثورة عاد نجم وإمام وعادت أغانيهما بكل القيم والأحلام، لم يستطع نظام أن يبني حوله سورا لأنه صوت الناس.

 في مرة من المرات كان يوسف السباعي وزير ثقافة مصر ودعاه إلى ارتداء بدلة لأنه سيحضر ندوة بها سفراء أجانب ، وحينما أبلغ مساعد يوسف السباعي نجم بهذا الطلب قال نجم هو لا يشترط علي وأنا من يشترط عليه، إذا كان يريد أن يكون ابنا لمصر وممثلا لها فليأت هو بالجلابية، ولم يرتض لنفسه أن يغير ثوبه، وكان مغزى رسالته للوزير: أنا مصري، فمن تمثل أنت، كان مغرما باللغة العربية لكنه كان مغرما أكثر بالعامية المصرية، واستطاع الإضافة للعامية التي تبلغ مفرداتها نحو 6 الاف كلمة، لم يكن متعلما لكنه ثبت على مصريته وقيمه واستطاع أن يمثل اليسار الحقيقي المؤمن بالإنسان والمؤمن بالبشر.

بهذه الكلمات استهلت الإعلامية اللامعة سوزان حرفي احتفالية نجم التي أقيمت بالمنتدى الثقافي المصري (19 ديسمبر الجاري) بدعوة من محبيه وعلى رأسهم الناشطة والفنانة حياة الشيمي وتضمنت ندوة تحدث فيها الدكتور كمال مغيث والسفير أحمد الغمراوي والمخرج مجدي أحمد علي وأعقبتهم كلمات لكمال أبو عيطة المناضل ووزير القوى العاملة السابق وأستاذ الفلسفة الدكتور أنور مغيث والمرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان جورج إسحق وآخرون. 

بعد الندوة استمتع الحاضرون بفقرة فنية شاركت فيها الفنانة عزة بلبع رفيقة دربه في سنوات النضال والمحن، والفنان زين العابدين والفنان أحمد نبيل على العود ، ثم عرض فيلم عن حياة نجم للمخرج مجدي أحمد علي، كما قرئت قصائد من شعره تلاها عدد من محبيه.

في البداية تحدث السفير أحمد الغمراوي رئيس المنتدى الثقافي المصري قائلا: طه حسين بدأ هنا وأحمد فؤاد نجم كان ضيفي شخصيا هو والدكتور سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب، وحين جاء بالجلباب سألته أليس عندك بدلة؟ قال أنا ابن مصر أنا فلاح، قلت له : أنت بفنك أكبر موديل وأحسن موديل للمصريين.

أضاف السفير الغمراوي: كنت سفيرا في العراق وحضر نجم إلى هناك، وكنت أعتبر خصما، لأن السادات وقع اتفاقية كامب ديفيد وقابلني، وسمعه العراقيون وكأنه كان يتكلم عن كل العرب، فهو يمثل السهل الممتنع وهو ابن اللغة العربية وإن كان يتكلم بالعامية. وإذا تكلم في أي مجتمع كان يصبح هو النجم فعلا . نحيي ذكراه وأنا سعيد بأنه بعد هذه المدة له عشاقه وله محبوه وأدعو الله أن تظل مصر كما هي حاضنة لكل اختراع، فأحمد فؤاد نجم اختراع لايتكرر، لتظل مصر أم الدنيا.

وألقى د. كمال مغيث المثقف الكبير والخبير بالمركز القومي للبحوث التربوية كلمة مطولة شرح خلالها الظروف التي ترترع فيها الشاعر الراحل في الوجدان العام فقال: 

"وجدت من العيب أن أجهز نقاطا مكتوبة لأحاضر في ندوة عن نجم ، لذلك سأتحدث عن ثلاثة أشياء أساسية ، أولها: قيمة أحمد فؤاد وسط جيلنا الذي كان بين 13 و16 عاما سنة 1967، هذا الجيل في الحالة الوطنية التي صنعها عبدالناصر ، وكلنا كنا ناصريين بشكل أو بآخر، نعيش الأحلام ونتصور أن الدنيا دانت لنا ، حتى فوجئنا بالهزيمة المريرة وأصبح فينا من يسمع أن هذه ليست نكسة بل هزيمة مذلة، وأن هناك من ماتوا ولا يعرف أحد أين ذهبت جثثهم والخسائر أكثر مما كنا نتصور، الأغاني الكبيرة فقدت لحظتها مصداقيتها بالنسبة لنا، أحسسنا بوجدان مجروح وروح مكسورة ، في هذه الظروف جئنا القاهرة في اول عام 1970 من المنوفية ، كان أخي ناشطا في الاتحاد الاشتراكي ومسؤول التثقيف في منظمة الشباب ، لكنه كان اشتراكيا ويعتقد أن الناصرية هي الخطوة الأولى للاشتراكية العلمية بالمعنى الماركسي، لهذا أحضر لنا شريطا لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وبدأنا نستمع وصوت الكاسيت منخفض حتى لايسمعه أحد، ولم نكن قد سمعنا شعرا كهذا من قبل: 

في الزمالك من سنين / و في حما النيل القديم / قصر من عصر اليمين / ملك واحده من الحريم. 

ثم أخذ يهاجم أم كلثوم ، ويقول : اللي صاحبه يا جماعة/ له أغاني ف الاذاعة/ راح يدوس فوق الغلابة/ والنيابة/ بالبتاعة. أحسسنا أن هناك صوت جديد وحين سمعنا كلماته وغناء الشيخ إمام وهو يقول: مصر يا امّة يا بهية / يام طرحة و جلابية / الزمن شاب وانت شابة / هو رايح وانت جاية، أحسسنا كما لو كانت هذه مصر الحقيقية التي من المفروض أن تنهض من أجل الهزيمة لتكون مصر ملك الناس بالفعل، والتي كنا نتمنى أن نستطيع صنعها. أظن أن الهزيمة حين حدثت وفقدت الإذاعة الوطنية مصداقيتها أفسحت المجال لثلاثة اتجاهات في الغناء، الأول السمسمية وهي آلة قديمة في مدن القناة ، بعضهم يرجع أصولها لليونانية وآخرون يرجعون أصولها للفرعونية ، كانت آلة أفراح لكنها بعد الهزيمة كانت بتكوينها البسيط وسلمها البسيط مناسبة، فأي ولد كان يأتي بطبق من الخنادق وخشبتين ويغني عليها: فاكرينك ياسينا يا قصتنا الحزينة / لا نلون حصاكي بدم أعادينا / وعضم اخواتنا نلمه نلمه نسنه نسنه ونعمل منه مدافع / وندافع ونجيب النصر هدية لمصر / ونكتب عليه أسامينا" هذا نوع من الغناء كان سهلا أن يتفاعل معه أولاد الفلاحين والصعايدة في الخنادق.

النوع الثاني من وجهة نظري محمد حمام وسيد مكاوي وفؤاد حداد ، والمفارقة الجميلة أن محمد حمام وفؤاد حداد كانوا في السجون لمدة 5 سنوات وخرجوا قبل الهزيمة بثلاث سنوات ، وهما من يحاولان لملمة مصر التي ضاعت وهما مسجونان بأي حال من الأحوال، وتنبت "الأرض بتتكلم عربي" أو يقول سيد مكاوي مواويله العظيمة " يا مصر حضني فردته ع الغيطان شالها / ودراعي لما نطرته حطها وشالها / وقطعت حر الجبل نجم السما لحافي / ومشيت طريق الشقا ع الشوك عليل حافي / لا طلعت يوم نخلتي ولا زرت صفصافي / لكن عشان بسمتك يا بلدنا نشقالك" (سمير عبدالباقي). والثالثة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام.

سأقول أيضا كيف يكون الشاعر معبرا عن الناس سواء رآهم أو لم يرهم، هذا هو الفرق بين الأغاني التي عاشت لأنها تعبر عن الوجدان ، هو ليس الشاعر الذي يود أن يراه الرئيس أو يستفيد مالا فيكتب . تعرفون طبعا أن أحمد نجم كانت قضيته بعد "مصر ياما يابهية" كيف نعبر؟ وكيف نسترد سيناء وننقم لكرامتنا الجريحة؟ لذلك كتب أشياء جميلة: " فين آخر الصبر ياشيخ أيوب / و لأمتى الحر يبات مغلوب / الجو ضباب / الوقت غروب / الديب ع الباب / الباب موروب / الحرب الحرب الحرب / و لا غير الحرب سبيل / و الضرب الضرب الضرب / على ناصية كل ذليل / النار و العار لعدو الدار / و الموت للخاين والغدار" ، وفي ذلك الوقت كتب واحدة من تحفه التي تم غناؤها على المسارح الرسمية – غصبا عن السلطة – التي تخيل فيها أن ولدا صعيديا يطلب منه والده الأخذ بثأر أخيه " واه يا عبد الودود / يا رابض ع الحدود / و محافظ ع النظام / كيفك يا واد صحيح / عسى الله تكون مليح / و راقب للامام / امك ع تدعى ليك / و ع تسلم عليك / وتقول بعد السلام / خليك جدع لابوك / ليقولوا منين جابوك / و يمسخوا الكلام / واه يا عبد الودود / ع اقولك وانت خابر / كل القضيه عاد / ولسه دم خيك ما شرباش التراب / حسك عينك تزحزح يدَّك عن الزناد / خليك يا عبده راصد لساعة الحساب / آن الآوان يا ولدى ما عاد الا المعاد / تنفض الشركه واصل / وينزاحو الكلاب / ان كنت واد لابوك / تجيبلى تار اخوك / و الاهل يبلغوك / جميعا السلام".

 طبعا كتب من خياله رسالة للأولاد الموجودين على الجبهة، سأحكي لكم حكاية وأخبركم من حكاها لي، واحد من أبطال معركة رأس العش، يقول إن ولدا صعيديا تم تجنيده وبدأ تسلم مهامه العسكرية وتدرب، كان مهذبا لكنه منعزل لايشارك في سمر ولا في جلسات، بعد مرور فترة أخبروه أن له إجازة حتى يرى أمه وخطيبته، يخبرهم أنه لايريد.. شهرا وراء شهر وهو يرفض بينما يتسابق زملاؤه على الإجازة ويتذرعون بأي حجج للحصول عليها، ظل يرفض حتى بدأت حرب أكتوبر وكان من الفوج الأول الذي عبر، في 22 أكتوبر توقفت وبدأ منح الجنود إجازات، فوجئوا بهذا المجند الذي ظنوا أن عليه ثأرا يتقافز ويبكي من الفرحة، ويقول جايلك يابا وجايلك يامه، أثناء خروجه رفض تفتيش حقيبته بعناد شديد ، فاتصلوا بقائده الذي حضر وسأله هل في حقيبتك سلاح أجابه: وشرفك ياباشا ليس فيها سلاح، هل بها مخدرات أجاب المجند: وشرفك ياباشا ليس فيها مخدرات، قال له القائد: بشرفي ستمر دون تفتيش ، لكن نعرف ماذا فيها؟ وجدوا بالحقيبة جمجمة جندي إسرائيلي وقال لهم: أخي استشهد في سيناء منذ ست سنوات وقال أبي إن لم تأخذ بثأر أخيك ، لا أريد أن أراك!! أما من أخبرني بذلك فهو الشاعر والكاتب عبدالعزيز موافي بطل رأس العش.

نجم شكل وجدان كل الناس ، فقد كتب قصائد عن فلسطين كانت تملؤنا حماسا وبهجة ، وتدفعنا لنرمي أنفسنا في النار، كان أحمد فؤاد نجم ابن نفسه وابن شكله وكتبت مقالا بعنوان أهل المغني بين نجم وبيرم التونسي ، كان بيرم ابن الطبقة وابن الثقافة كلها بوجه عام ، لذلك حينما اختلف مع عبدالوهاب كتب: " يا اهل المغنى دماغنا وجعنا / دقيقه سكوت لله / داحنا شبعنا كلام ماله معنى / ياليل وياعين ويااّه / طلعت موضه غصون وبلابل / شابط فيها حزين / شاكى وباكى وقال موش عارف / يشكى ويبكى لمين / واللى جابت له الداء والكافيه / طرشه ماهش سامعاه / يااهل المغنى دماغنا وجعنا / دقيقه سكوت لله / ردى عليه ياطيور بينادى / وارمى له الجناجين / وانت كمان يا وابور الــــوادى / قل له رايح على فين / قل له اياك يرتاح يابابـــــوره / ويريحنــــــــــا معــــــاه / ياهل المغنى دماغنا وجعنا / دقيقه سكــــــوت لله" إنما حين يختلف نجم مع صلاح جاهين يكتب كلاما قليل الأدب " شاعر بيتخن من بوزه، ممكن تخوّف بيه عيالك، وخلّي بالك من زوزو، وخلّي زوزو من بالك" أو يقول لأم كلثوم: "ياولية عيب اختشي ياشبه إيد الهون / ده انتى اللى زيك مشى يا مرضعة قلاوون / مدحتى عشرين ملك وميت وزير ورئيس / مروان، وعبد الملك والمفترى، وعتريس / بتغنى بالزمبلك؟ ولا انتى صوت إبليس / من أول المبتدأ حتى نهاية الكون؟" أو يكتب "لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت / الليلة هـ يتنهد ويغنى ويموت / يشيلوه قال على لندن علشان جده هناك / من بعد ما يتلايم على دخل الشباك / ويهرب أموالك ويقولك أهواك / يا شعب يا متلوع ع الهدمة وع القوت". عرفت نجم عام 1974 وتساءلت لماذا لايكتب قصائد أحن من ذلك؟ لكنه كان في عداء مع هذه الطبقة ، لكن لا حرمنا الله من طول لسانه وقلة أدبه، ذات مرة اتصل بي ليقول لي: عارف إنك بتحبني يا ابن الكلب !!"

وعقبت سوزان حرفي بمقطع لصلاح عيسي " في كتابه " تباريح جريح" يقول فيه: " أما الذي حدث في تلك الليلة التي أسمعنى فيها أحمد الخميسي من أحمد نجم والشيخ إمام، وكنا في سجن طرة، فليس مما يسهل وصفه، أمواج من الماء الدافيء غسلت روحي، أذاب الحزن واليأس والفجيعة وأزهر النوار بين حطام الآمال المحترقة، مازالت الحياة جميلة تستحق أن تعاش، لم يعقم الوطن ولم تتحطم روحه، وها هو ذا يغنى فى شعر (نجم). يحزن حزن الرجال الأقوياء الذين يخجلون من مقولة آه، ويخفون دموعهم لحظة الوجيعة. لذلك غنى نجم غناء مختلفا عما غناه آخرون من جيلنا حين أدركتهم الهزيمة، لم يتوقف طويلا ليرثى العمر الجميل أو ليندب الذات، بل اندفع يغنى بالسكين ويشهر عصاه فى وجه الذين عجزوا عن الحلم".

أضافت سوزان حرفي: هكذا يصف صلاح عيسى نجم وكيف يكون مختلفا عن الآخرين ولا ينهزم أمام اليأس ، يكتشف أن الشاعر العميق العظيم الذي استطاع أن يخرج مرة أخرى ويبني حضارة، راهن على من لايخسر الرهان عليه ، على الشعب ، راهن على الرجولة التي يظهرها الشعب وقت الأزمات .. كانت 1967 فارقة في حياة نجم وتأثيره على الناس، لكن في 1962 كان ميلاد نجم الشاعر المصري ، فقد صدر له أول ديوان "صور من الحياة والسجن" وهي تلخص مسيرة نجم كلها ، فقد قضى من عمره 18 عاما وراء الجدران ، وحتى داخل السجن كان ينبض بالحياة ، يعلم الناس كيف تعرف أن تحب وتعيش الحياة، وكان يطلق عليه "متنبي العامية" أما هنا فكان يقول: "نفسي أكون المتنبي .. المتنبي مدح، نفسي أجد حاكما أمدحه حتى أكون المتنبي".

(في الحلقة المقبلة : ماذا قال المخرج مجدي أحمد علي وكمال أبو عيطة وأنور مغيث وجورج اسحق وحمدين صباحي وآخرون عن أحمد فؤاد نجم)

------------------
تقرير: هيباتيا موسى

من المشهد الأسبوعي






اعلان