18 - 04 - 2024

صحفي نبيل يرحل وحيدا.. علي إبراهيم .. اليساري الزاهد يكتب سطر مأساته الأخير

صحفي نبيل يرحل وحيدا.. علي إبراهيم .. اليساري الزاهد يكتب سطر مأساته الأخير

- د. إبراهيم نوار: ظلمته الحياة من كل جانب فقد عمله وأصدقاءه وأقاربه وكاد أن يفقد بصره ولم تتبق له إلا بصيرته القوية 
- فريد زهران: حزين لأنه لم يترك إنتاجا ثقافيا وفكريا ينسجم وحجم الموهبة والقدرة والثقافة الموسوعية التي كانت لديه 
- مدحت الزاهد: نبيل شريف صاحب قلم نزيه ملتزم بالمباديء ظل مرفوع الرأس في حياته وفي مماته ونعترف بتقصيرنا تجاهه 
- مجدي عبد الحميد: عاش حياة بائسة ونحن مسؤولون جميعا عما وصل إليه من عزلة وفقر بعد أن منح حياته لقضيته 
- د. زهدي الشامي: كثيرون تغيروا بشكل دراماتيكي وظل نموذجا لمن تمسك بمبادئه وأفكاره على امتداد الزمن 
- أمينة النقاش: هو من اختار حياته بعزلتها واستغنائها شخص شديد البساطة لا يحمل عداوات لأي أحد 
- خالد محمود: رحيله الموجع أثار أفكارا سيكون  تحقيقها أفضل تحية له وأفضل إنجاز تركه بالرحيل كما أنجز في الحياة 
- عمر مرسي: نموذج من طراز فريد لايصلح أن نتناوله أو نقيمه بمقاييس عموم البشر 
- حميد مجاهد: شخص ملتزم جدا منضبط وفي نفس الوقت مستغن عن الدنيا عملا بقاعدة "المستغني هو الغني الكامل" 
- د. إلهام عبد الحميد: يحمل سمات العلماء البسطاء متواضع مستغن قليل الكلام لكن إذا تحدث تحدث بثراء شديد 
- مهدية صقر: خلوق وأمين يسمو على الصغائر وكنت أقول له أن المثالية المفرطة لاتصلح في الحياة الواقعية

"في زرقة الفجر يستيقظ الحالمون / خفافا ويمشون في ماء أَحلامهم / مرحين / إلي أَين يأخذنا الفجر، والفجر جِسْر، إلي أَين يأخذنا؟ / قال لي صاحبي: لا أريد مكانا لأدفَنَ فيه. أريد مكانا لأَحيا" أبيات محمود درويش هذه خير تمثيل لصحفي مر من هنا، كان اسمه علي إبراهيم. 

إنسان حالم، لكنه لم يقاتل عن حلمه، لم يستطع تغيير ما حوله ومن حوله، فاختصر في ذاته مأساة جيل وانطوى، امتلك كل أدوات الصحفي والباحث وأسلحة المثقف، لكنه نحى كل ذلك جانبا، وعاش عيشة الزاهد المستغني عن كل شيء، والذي يغلبه الحياء فلا يطلب حتى حقوقه، من الصحيفة التي أمضى بها سنوات ولا من النقابة التي لم يحس أحدا فيها أن زميلا نبيلا يعاني شظف العيش وقسوة الحياة، وحين مرض وأوشك بصره أن يضيع، توارى وحيدا حتى فوجيء جيرانه بوفاته، ولم يصلوا لأحد من أهله، فدفنه أحد الجيران في مقبرة عائلته!!

من هو علي إبراهيم وما هي قصته، وكيف تقلبت به الأحوال من زعيم طلابي وناشط سياسي واعد في كلية الإعلام بجامعة القاهرة خلال السبعينيات إلى رجل ضرير فقير يموت وحيدا، ذلك ما يكشف عنه محبوه الذين اجتمعوا لتأبينه بنقابة الصحفيين، السبت 11 ديسمبر في ذكرى الأربعين لرحيله.

المهندس مجدي عبدالحميد الذي أدار الحوار، يتذكر كيف كان علي إبراهيم ناشطا طلابيا واعدا بإحدى الحركات اليسارية في السبعينات، حيث تعرف عليه في الجامعة التي كانت تغلي وقتها بالمعارضة ضد سياسات الرئيس السادات، وعنه وقتها يقول عمر مرسي: تقابلت مع علي ابراهيم عام 1975 وعزمني في غرفة فقيرة بالجيزة، لكني كنت أحس بالغيرة منه، فهو نموذج من طراز فريد لايصلح أن نتناوله أو نقيمه بمقاييس عموم البشر، لانه كان شخصا مستغنيا عن كل ما يبهرنا أو يجعلنا نجري وراءه، كما كان حال جمال حمدان، هناك أشخاص لايركضون وراء متاع الدنيا ، يمكن أن يكون تصرفهم غريبا لكنهم من طراز فريد، ولا يصلح ونحن نؤبنهم أن نقيسهم بمعاييرنا فهذا لايليق، كنت أغار من قدرته على الاستغناء، واستغربت بعد ذلك من عمله في الأرشيف رغم قدراته العالية. 

فيما يقول زميل ثالث له هو الكاتب الصحفي حميد مجاهد: تقابلنا أنا وعلي في السنة الأولى بكلية الإعلام وكان معنا أسامة عفيفي ومجدي رياض رحمهما الله، بدأنا عملا سياسيا واكتشفت أن علي شخص ملتزم جدا، منضبط، وفي نفس الوقت مستغن عن الدنيا، عملا بقاعدة أن المستغني هو الغني الكامل، كان هو الوحيد الذي نقترض منه رغم أنه كان أفقرنا، تشاركنا في تكوين جماعة "مناهضة الاستعمار والصهيونية" وكان الدكتور عبدالملك عودة، عميد الكلية وقتها، معجبا بها. في يوم من الأيام حاولنا دعوة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام فرفض موضوع الندوة، لكن علي استطاع الحصول على موافقة، فسألته كيف حصل عليها؟ قال إنه صعد إلى مسؤول إدارة الشباب الذي خيل إليه أن الشيخ إمام سيحضر لقراءة القرآن، فوافق.

يستكمل حميد مجاهد قائلا: حين حضر الشيخ إمام، جاء العميد مهرولا وقال: أنتم بذلك تضربوني تحت الحزام، أنتم تورطوني مع الحكومة، كما احتجز أمن الجامعة نجم على الباب ورفضوا دخوله بسبب جلبابه البلدي وعدم تسريح شعره، وقالوا لايمكن أن يكون هذا شاعرا، فأقنعتهم بإدخاله، وكانت ندوة حاشدة بشهادة حتى من كانوا يعادوننا في العمل السياسي بالكلية.

عن نفس الفترة يقول د. زهدي الشامي نائب رئيس حزب التحالف الاشتراكي للشئون السياسية: جايلت علي إبراهيم ، كنت في اقتصاد وعلوم سياسية وكان هو في الإعلام ، تشاركنا في الحياة الطلابية والسياسية ونادي الفكر الاشتركي، الذي كان يتميز بالزخم الشديد في ذلك الوقت. ذكرياتي مع علي ابراهيم أننا اتفقنا لاصطحاب نجم والشيخ إمام واستضافتهما في دمنهور – وكانت معرفته بهما جيدة – وحين سافرت كانت لدي صورة ذهنية للزملاء ، كان علي إبراهيم أبرزهم . كثيرون تغيروا وبعضنا تغير بشكل دراماتيكي، علي نموذج لمن تمسك – بمثالية مفرطة – بمبادئه وأفكاره على امتداد الزمن.

بعد تخرجه عمل علي إبراهيم لفترة في دار الكتب، وعن هذه الفترة تقول د. إلهام عبدالحميد: تجربتي مع علي كانت تجربة إنسانية أقول من خلالها إن من يرى علي إبراهيم مرة واحدة لايمكن أن ينساه ، أول معرفتي به في أوائل الثمانينات مع بداية رحلتي العلمية .. صادفته في دار الكتب وكنت لا أدري كيف أتصرف، سألني رغم خجله إن كنت أحتاج شيئا، أخبرته بموضوع رسالتي، فأخذنا في إخراج كتب عن الفلسفة ، دار بيننا حديث طويل ومن أول لحظة أحسست أني أمام كنز، شخص له سمات العلماء البسطاء، التواضع الشديد جدا مع عدم لفت نظر أحد مع الاستغناء وعدم التطلع لشيء، عميق جدا وبسيط جدا، قليل الكلام لكن إذا تحدث تحدث بثراء شديد، صعب جدا أن نقابل نماذج بهذه الصورة، هو متفرد ومتميز، لايمكننا فعلا وضع معايير عامة لقياسه بها، كنز لم نكن نعرفه، به سمات إنسانية متفردة، ذكي جدا ومحبط جدا كحالنا جميعا، لكنه أعلى درجة منا في إحباطة لحساسيته الأشد ولرؤيته أن البشر يفترض أن يكونوا متميزين وعطائين كما هي حاله. 

 لكنه لم يستمر في العمل بدار الكتب، ويقول محمود الحضري مدير عام التحرير في البوابة نيوز: هو من الناس المحترمين الذين تعرفت إليهم في فترة مبكرة، ويرجع الفضل في معرفتي بعلي إبراهيم إلى الصديق المرحوم سيد زهران، كنا نعمل معا في مكتب يديره الأستاذ يوسف الشريف وتعارفنا قبل عمله في الأهالي، وعمل في إعداد الدراسات، وكان يرفض أن يكتب اسمه على دراساته وللأسف كانت تنشر بأسماء آخرين، ثم انتقل بعدها للأهالي. 

عن فترة عمله بالأهالي تقول مهدية صقر مسؤولة قسم الأرشيف الصحفي بالأهالي وزميلته بالصحيفة: إن علي إبراهيم، مع نادية جرجس وماجدة مبارك وإيمان بيضون، كونوا الفريق الذي يتولى مهمة شاقة هي الأرشيف الصحفي في صحيفة أسبوعية تحت الحصار، لو استعرنا عنوان كتاب المرحوم حسين عبدالرازق عن الأهالي ، كانت المعلومات شحيحة ومصادرها مغلقة، لكننا كنا نحفر لنحاول أن نواكب بإمكانيات فقيرة، نجلس في مطبخ مقر الصحيفة، فكيف الملفات أو العاملين فيه أو الصحفيين الذين يريدون الاستفادة منه؟ ونجحنا رغم كل الصعوبات ولم يكن ذلك أن يتم بدون مساعدة علي إبراهيم، تعلمت منه كيف أحصل للصحفي على معلومة مفيدة موثقة في أقل وقت ممكن، كان هذا شعارنا، لن أتحدث عن الجانب الشخصي، فكثيرا ماحضر في منازلنا احتفالات وأعياد ميلاد، ولدينا صوره وهو يحمل أولادنا، كان خلوقا زاهدا بمعنى الكلمة، معلومته كانت تعني الكثير له، لايتفوه بها إلا بعد التوثيق. تعلمت منه كيف أكون صحفية ولست موظفة وأحدث فارقا كثيرا بإرشاداته في مناقشاتنا، تزاملت مع زميل وصديق خلوق وأمين على الناس وعلي وعلى الجريدة، كان أحيانا يحبط من الزملاء – غير المحترمين – الذين يتنمرون عليه ويسخرون مرة من نظارته ومرة من صلعته، وكان الساعي حينما يتنمر به أحد يأتي لي ويقول الحقي ابنك ابراهيم. كان يسمو على الصغائر وكنت أقول له أن المثالية المفرطة لاتصلح في الحياة الواقعية، كل يوم كنت اكتشف فيه مهارة جديدة، كان عبقريا متواضعا تعلمت منه الكثير، وساعد في أن يكون أرشيف الأهالي الفقير ماديا مصدرا لرسائل ماجستير ودكتوراة، وكنت أجلس معه أستنير برأيه ، دون أن يجعلك تحس أنه يقدم الكثير لمن حوله.

غير أن أمينة النقاش رئيس مجلس إدارة جريدة الأهالي كان لها رأي آخر، تقول: علي ابراهيم كان محررا في الأهالي، هو من اختار حياته بعزلتها واستغنائها، هو شخص شديد البساطة ، كان محبا وصديقا للجميع، لا يحمل عداوات لأي أحد، بسبب رغبته في العزلة انقطع عن عمله بالأهالي فاضطر عبدالعال الباقوري رئيس التحرير آنذاك أن يتخذ الاجراء القانوني تجاهه ويفصله، ليس عدم الدفاع عن الحقوق من الفضائل ، وفي مناقشة معه أكد التزامه بريجيم النوع الواحد، هذا لم يكن إلا بسبب قلة الإمكانيات، هو أيضا كان مترجما بالإضافة إلى عمله في الأرشيف، لكن عقله في الفترات الأخيرة كان مشوشا ولم يثابر على مشروع، وأجمل مافيه أنه كان طيب القلب إلى أقصى مدى، وهذه الطيبة قيمة أخلاقية عليا لابد أن نقدرها. 

وعن رحيله عن الأهالي يقول مدحت الزاهد: للحقيقة والتاريخ أن عبدالعال الباقوري حينما كان رئيسا لتحرير الأهالي أخبرني أنه وجه خطابات كثيرة لعلي ابراهيم بسبب انقطاعة لعدة شهور، وبدأت الإدارة تطبيق القانون ، فحاولوا أن تتصرفوا، وقام الزميل مصطفى الحفناوي ومهدية بالبحث عنه لكنه لم يستجب بسبب الوطأة النفسية ، واقترحت على الباقوري اعتباره أجازة مرضية، وكانت الأهالي يمكن أن تبذل جهدا أكبر، وكذلك النقابة التي كان لديها موارد أكبر.

شهادات 

يقول المهندس مجدي عبد الحميد: علي ابراهيم كان إنسانا على خلق، ذكيا، يحب مهنته لدرجة العشق، محب لكل الناس، على درجة عالية من التسامح رغم مبدئيته وعناده حينما يقتنع بفكرة ويصر عليها، لكن هذا الإصرار لم يكن ينعكس في خلافات أو مشاكل مع أحد، وفاة علي إبراهيم أثرت فينا كثيرا وأوجعتنا بسبب الطريقة التي رحل بها، فقد أمضى سنوات وحيدا، وكثيرون حاولوا البحث عنه، وذهبوا الى مكان إقامة سابق له في بين السرايات ولم يستطيعوا الوصول إليه، حتى فجعنا جميعا برحيله، بعد أن فقد البصر وعاش حياة بائسة، نحن مسؤولون جميعا عما وصل إليه من عزلة وفقر، سواء زملاؤه في الحركة أو نقابته، لذلك كان رحيله قاسيا ومؤلما وترك جرحا فينا، لذلك فإن وجودنا اليوم فيه درجة من درجات العرفان والاعتذار، لزميل منح حياته وعمره وكل طاقته الإنسانية لقضيته، هو من الشخصيات المكافحة، الحالمة بشكل يفوق الواقع ومعطياته. 

لكن أمينة النقاش ترى أنه يتحمل جزءا من مسؤولية ما آل إليه حاله وتقول: حين أمرض لدي نقابة بها مشروع علاج لا بد أن أطلب هذه الخدمة وأعالج على أعلى مستوى، حين نعرف أن النقابة قصرت نتحرك، ليته يرانا، فهذا الجمع يؤكد أن المجتمع المصري لا تزال به أخلاق وأناس يحسون بالمسؤولية تجاه الآخرين، أحس أني افتقده.. أفتقد طيبته وحماسه.

ويقول محمود الحضري: كان منغلقا على نفسه بشكل كبير تحول لديه إلى حالة من الإحساس بأنه مراقب ومطلوب ، لكنه كان شخصا افتقدناه، لم يلتقطه أحد في المهنة ليعبر عن نفسه بالشكل اللائق. أحيي الأستاذ محمد حسن البنا زميله ومن أصدقائه المقربين، فقد قام بدور كبير جدا مع النقابة، وتطوع صاحب المنزل الذي كان يسكن فيه بدفنه في مقابر عائلته بدلا من أن يدفن في مقابر الصدقة، لا أعرف الطريقة التي يمكن أن نخلد بها اسم علي، ومستعد لطباعة دراساته إن كانت موجودة على نفقتي الخاصة، المهم أن نعثر على منتج يستحق أن يكتب عليه اسم علي إبراهيم.

أما شهادة خالد محمود الكاتب والباحث السياسي فيقول فيها: لم تكن تربطني صداقة بعلي ، لكني قابلته مرة أو مرتين بشكل عابر، وأكتملت صورته بالروايات عنه ، منذ الدعوة لهذه الجلسة وتطرح أفكار حول مايسمي بمساندة الجنوب الصحفي مثل شراء مقابر للصحفيين الذين لايمتلكونها ، كما حدث في وفاة ابنة أحد الزملاء وحالة علي، بدأ ذلك يكتب ويرفع ذلك لمجلس النقابة، وبدأ يُطرح سؤال ماذا لو توفي صحفي لايمتلك مقبرة؟ والأفكار من هذا النوع أكبر إنجاز تنجره روح الفقيد. طرحت أيضا فكرة تكوين لجنة إنسانية في النقابة، وطرح من يكون المسؤول عنها. علي يمثل نموذجا معاكسا للصحفي المقرب ، الحكومي، إشكال الصحافة وهذا النوع من الصحفيين أن الصحفي يكتسب رزقه من كلمته، وحين تصبح الكلمة - في الأجواء التي نعيشها – تتعرض لأنواع من التدخلات والهندسات ، فكلما زادت مساحة المبدئية كلما قلت مساحة المسموح به للحصول على دخل وامتيازات إلى أن تتقلص المسألة لأناس يعيشون على البدل وإعانة البطالة التي لاتتجاوز ألف جنيه، كانت وفاة علي فرصة لإثارة كل هذه المسائل ، وتقديري لو خرجت الجلسة بمجرد إثارة هذه الأفكار سيكون ذلك أفضل تحية له وأفضل إنجاز تركه برحيله كما أنجز في حياته.

ويقول فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي: أؤكد على كلام الصديق عمر مرسي أن علي إبراهيم كان مستغن وزاهد وأود أن أضيف أنه كان شخصا شريفا، لم يعمل كثيرون بالعمل العام والعمل السياسي بهذا الحس النزيه، والبعيد عن النفعية والمصالح الشخصية، كان زاهدا ومترفعا عن الصغائر والحياة الدنيا، وتقديري أن المعيار الذي يمكن أن نقيس به هو هذه الجلسة، كون شخص يموت وليس له علاقات مصالح بأحد ويتداعي لتأبينه هذا العدد، معناه أنه نجح في حياته ، وكثيرون ممن أعرفهم يمكن ألا يجدوا نفس الذكرى الطيبة المنزهة عن الغرض، وهذا من حسن الختام أن يهتم أحد بتأبينه ويحضره المنزهون عن أي غرض. على أيضا كان مثقفا جدا، وأنا حزين لأنه لم يترك إنتاجا ثقافيا وفكريا ينسجم وحجم الموهبة والقدرة التي كانت لديه، فقد كان صاحب ثقافة تكاد تكون موسوعية وبتواضع جم، وأشيد دائما بمن لديه إصرار على الإنتاج. يثير الأسى والحزن أن هذا الجمع من أبناء تجربة ساسية مشتركة يرحلون واحدا وراء الآخر مثل محمد شكري، ودوائر ضيقة هي من تعرف وتهتم، هذا الجيل بما يمثله لابد أن يحافظ على علاقاته الإنسانية ويلتقي. 

ويقول د. زهدي الشامي: موضوع علي إبراهيم يعبر عن حالة مأساوية ، وفاته كانت فجائية وصادمة، وحتى غير أبناء تجربتنا أحسوا أن هناك شيء مأساوي، جميعنا يحس بتأنيب الضمير والمسؤولية بدرجات مختلفة، والإطار المهني له يتحمل المسؤولية، الرحلة انتهت به كما بدأ، هذا التمسك بالمباديء في ظروف سلطوية لا تتيح ذلك، كان جزءا من النهاية المأساوية وظروف المعاناة التي عاشها وجزء آخر هو مسؤولية بعض الأفراد عن مفاقمة أزماته، شخصيا أشعر بتأنيب ضمير، رغم عدم مقابلته لسنوات طويلة، ويظل نموذجا لشخص نبيل ومثالي ونهايته كانت أبلغ تعبير عن ذلك.

ويضيف مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي: مغزى هذا التكريم لإنسان كانت صلته قد تقطعت بهم ، هذا التكريم لشخص نبيل شريف ، صاحب قلم نزيه ملتزم بالمباديء مرفوع الرأس في حياته وفي مماته، نحن نستخلص الخبرة حتى لو بالنقد الذاتي، ونعترف بتقصيرنا. فكرة الدعم النفسي مهمة ، سواء منا كأفراد أو من مؤسساتنا كنقابة، جميعنا يتعرض لظروف صعبة ومحبطة والوضع ينتجها طوال السنوات الماضية والآن من حصار واختناق، استجاباتنا تختلف لهذه الظروف، منا من يكون إحساسه مرهفا ويتعامل بمثالية زائدة فتكون هذه الظروف أقوى منه وهؤلاء يحتاجون رعاية منا، لا نتصور أن أحدا كان ضحية سواء لليسار أو للظروف ، فكلنا عشنا ذلك لكن استجاباتنا تفاوتت، بسبب التكوينات النفسية المتنوعة. إذا كنت أقول إن الجماعة لديها مسؤولية في الدعم النفسي ، لكن لا أستطيع بنفس الصورة أن أتصور أن الوضع التسلطي يمكن أن يجعل الإنسان يعيش بشعور أنه تحت الرقابة ، فيتجه للتباعد والانزواء في عالم منفرد. 

وتلى المهندس مجدي عبدالحميد رسالة حرص د. إبراهيم نوار المستشار السياسي السابق في الأمم المتحدة والباحث المتخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية على أن تتلى على الحاضرين في التأبين يقول فيها د. نوار:" كم كنت أتمنى أن أكون بينكم الليلة، أشارككم في رثاء زميل رحل عنا وحيدا بعد أن عاش وحيدا وأخلص لمهنته وأصدقائه وكل القريبين منه، من الذين عرفوه أو تعاملوا معه، كان على إبراهيم رحمه الله صديقا مخلصا لحلم ملايين الناس، الذين يعرفهم بقلبه الطيب وعقله الواعي ونفسه العفيفة الغارقة في ثوب من الحياء الشفاف والرغبة الصادقة في تحقيق الحلم، حلم الحرية والعدالة والتنمية، تعلم علي إبراهيم أصول الصحافة أكاديميا، لكنه في ممارسته للعمل الصحفي تجاوز حدود ماتعلمه، وفتح ذراعيه وعقله لاحتضان رؤية عن العمل الصحفي يتوحد فيها الحلم والعمل والإنسان ، وتلك كانت رؤية أكبر كثيرا من مؤسسات الصحافة التي عمل فيها، وهو ما أدى إلى حالة من الاغتراب عاشها في تجارب عمله، ومع ذلك فإنه قاوم هذا الاغتراب بكل مايستطيع ، على الرغم من قسوة المعاناة وصعوبات الحياة.

على إبراهيم كان نموذجا لحلم يناضل من أجل أن يتحقق، لكن قدرته كانت أقل من أن تجعل الحلم ينطلق على طريق التحقق، أي أن يتحول إلى حقيقة حية نابضة ، لذلك كانت معاناة علي إبراهيم على عكس ما كنا نراه على وجهه ، فقد حافظ دائما على أن يكون وجهه دائم الابتسام صريح البراءة، كثيرا ماتأملت ملامح وجهه في الفترة القصيرة التي عرفته فيها ، فرأيت في هذه الملامح رقة البراءة وابتسامة التفاؤل التي لاتغيب، وذلك قبل أعرف مدى المعاناة التي كان يعيش فيها.

تحية لروح علي إبراهيم الذي مات وحيدا بعد رحلة عناء شديدة شاقة في النضال ضد السلطة ، كان سلاحه فيها قلمه وكلماته وسعيه الدؤوب من أجل كشف الحقيقة وتقديمها للناس ، علي ظلمته الحياة من كل جانب ,, فقد عمله وفقد أصدقاءه وفقد أقاربه ، وكاد أن يفقد بصره، ولم تتبق له إلا بصيرته القوية وشقته الصغيره التي يعيش بين جدرانها متظللا بسقفها ، ومعاشه الضئيل الذي يقتات منه ويحميه من الموت جوعا، فمات وحيدا غريبا لا يعرفه أحد إلا جيرانه ذوو القلوب الرحيمة الذين قلقوا عليه لما غاب عن الظهور ، وفتحوا شقته فوجدوه ميتا وحاولوا البحث عن أقارب له للتشاور في دفنه فلم يجدوا أحدا، فكانت الحيلة هي الكشف في تليفونه عن رقم يمكن الاتصال به ، فوجدوا رقم إحدى زميلاته القدامي في صحيفة الأهالي ، فكانت هي التي أعلنت خبر وفاته.

علي إبراهيم كان صحفيا واعدا في مجال الصحافة الاستقصائية ذات التوجه الاجتماعي والانحياز الطبقي للمحرومين والمظلومين ، لكن الزمن الذي عاش فيه لم يكن زمن صحافة الحقيقة، ولكنه كان ومايزال زمن الرقص على مزامير الأكاذيب . تحية لروح علي إبراهيم. 
---------------------------
من المشهد الأسبوعي
(صور علي إبراهيم من أرشيف الكاتبة مهدية صقر)






اعلان