20 - 04 - 2024

أمين حداد يكتب عن صلاح جاهين: شكر واجب

أمين حداد يكتب عن صلاح جاهين: شكر واجب

سألت نفسي سؤالًا "من أنا لأتكلم عن صلاح جاهين" ... فكرت قليلًا ثم أجبت:

أنا ابن صديقه وصديق ابنه وزوج ابنته ثم أبو أحفاده.

وأنا شاعر يكتب بالعامية المصرية تأثرت به وأتأثر به. وتشجيعه لشعري كان من الشهادات التي أعانتني على مواصلة الكتابة.

وأنا رفيقه في آخر رحلة له قبل وفاته لما ذهبنا سويًا في يناير سنة ١٩٨٦ إلى الأراضي الحجازية مرتديين ملابس الإحرام من جدة إلى مكة المكرمة وفي حرم الكعبة وبين الصفا والمروة ثم في المدينة المنورة أزور معه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونصلي سويًا في الروضة الشريفة.

وأنا واحد من المصريين من الخلق المخلوقين من طين ولدت مغمض العينين وقضيت الدقائق والشهور والسنين منذ ستينيات القرن الفائت أقرأ أشعاره ورباعياته وأطالع رسوماته وأسمع أغانيه وتأتيني كلماته في الصباح الباكر لتوقظني من نومي ومن غفلتي. وتنير يومي. حتى ولو كانت كلمات من الحزن العظيم.

ساعات أقوم الصبح قلبي حزين

 أطل بره الباب ياخدني الحنين

والإنارة ليست هي السعادة ولكن وضوح الرؤية. والرؤية هي أن

نبص قدامنا 

على شمس احلامنا

 نلقاها بتشق السحاب الغميق

تأتيني كلمات الشعراء العظام من داخلي فهي موجودة في خلايا الأعصاب والمخ تسقي كل نسيج في جسدي لا أبحث عنها ولكنها تخرج وحدها كالأحلام ووجوه الأهل والأحبة. 

تأتيني فأرتج طربًا ودهشة وشجنًا وأنا سائر في الزمن أشتاق إلى ما لا أعرفه فأراه قائلًا

أنا الذي عمري اشتياق في اشتياق

وقطر داخل في محطة فراق

قصدت نبع السم وشربت سم

من كتر عشمي وشوقي للترياق

 عجبي

وتأتيني كلماتهم من الناس الذين يعيشون معها ويعملون بها وتهوّن عليهم حياتهم. فصياد البوري في بحيرة المنزلة يرمي شباكه في مياه ضحلة والماء يصل إلى صدره ويغني "اوعد يا رب اوعد" فأقول أي مجد يا عمي صلاح وأي مجد يا عمي سيد. الليلة الكبيرة فلكلور مصري أعرف مؤلفه وملحنه.

يقول البحتري في الكتاب المدرسي:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا

من الحسن حتى –كاد- أن يتكلّما. 

ونقول له مبتسمين: لقد تكلم فعلًا يا شاعرنا البحتري. تكلم على لسان شاعر عظيم جاء في القرن العشرين واسمه صلاح چاهين. ملأ الحياة بكلماته الربيعية الملونة. وزهوره الفصيحة تسكن في كراسات الشباب وعلى حوائطهم الافتراضية. وأغانيه تصل إلى قلوبهم عبر سماعات يعلقونها على آذانهم وهم يمشون ويجرون ويجلسون في وسائل المواصلات. هذا الشاعر نراه في سبتمبر يعزف أنغامه السبتمبرية. وفي ديسمبر وقت عيد ميلاده والبرد يسكن العظام وشجرة البونسيانا تقف عارية من الأوراق والزهور ... تطرح شجيرة الورد وردة بلدية حمراء تحية له وتقول له ولنا:

لأ يا جدع غلطان تأمّل وشوف

 زهر الشتا طالع في عز الشتا

كان شاعرًا يكلّم البشر كأنهم كلهم أصدقاوه أو زملاؤه في بناء الإنسانية. أراه لابسًا ثوب الفيلسوف منشدًا

إنسان أيا إنسان ما أجهلك

ما أتفهك في الكون وما أضألك

شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم

وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك

 عجبي

ثم أراه مرتديًا جلبابًا بلديًا وكأنه الشاعر الشعبي يغني مع المزمار والناي والرق والربابة

يجعل كلامي فانوس وسط الفرح قايد

يجعل كلامي على السامعين بفوايد

يجعل كلامي ولا ناقص ولا زايد

إحنا في وقت البنا ما احناش في وقت كلام

 يجعل كلامي حجارة ومونة وحدايد

ثم أبصره سابحًا في الفضاء يصيح بصوته الجهير معلنًا انحيازه للإنسان ورافضًا ألمه.

يا قرص شمس مالهش قبة سما

يا ورد من غير أرض شب ونما

يا أي معنى جميل سمعنا عليه

الخلق ليه عايشين حياة مؤلمة

 عجبي

هنا يكلم الطبيعة ويكلم المعاني وهناك يكلم الزمن كأنه يتكلم مع صديقته القديمة.

يا ليلة من غير قمر يا كحل من غير عيون

بل كان هو نفسه جزءًا من الطبيعة.

هات يا برمهات الربيع والعبير 

والخضرة والعصافير ودود الحرير

هاتهم هنا يشوفوني من غير قناع

أنا اللي قلبي استطاع

يعدي من أمشير أبو الزعابير

ويعدي من طوبة أبو الزمهرير

ويجي لك انت يا برمهات يا نضير

يا ابو شمس

 زاعق ما يعرفش همس

صلاح چاهين يا سادة شاب عمره ألف عام منحه الله مقدرة أن يكلم البشر وجميع الكائنات، وان يمتدح الحديد والمقابر وأن يترافع أمام محاكم الظلم وأن يتهكم على التراث البالي وان يشحذ الهمم وأن ينادي على الجماد ويستنطقه

والله زمان يا سلاحي 

اشتقت لك في كفاحي

انطق ... وقول أنا صاحي

 يا حرب والله زمان

اه أيها السامعون من نشيدنا الوطني في المدرسة وانا أصدح به في الطابور الصباحي صارخًا تحت ظل العلم.

 وآه من يا اهلا بالمعارك والمسؤولية وبستان الاشتراكية وبالأحضان وصورة ... والشعب الفرحان تحت الراية المنصورة واللي حيبعد م الميدان عمره ما حيبان في الصورة ... وثوار ولآخر مدى ثوار مطرح ما نمشي يفتح النوار .... والشعب قام يسأل على حقوقه والثورة زي النبض في عروقه

متى كتبت هذه الكلمات يا عمي. كانت أغاني جديدة في الستينيات وكانت أكثر جدة وأبهج في ألفين وحداشر.

هل كنت ترى المستقبل؟ هل رأيت الشعب في الميدان يسأل عن حقوقه؟ أم كتبت ما كتبت عن الثورة بمفهومها الأعم فعبرت عما حدث بعد موتك بربع قرن وستعبر عما سيحدث بعد الآن.

كنت ثائرًا عن حق ليس في تطلعك لتغيير المجتمع فقط ولكن في تغيير الفن أيضًا.

ولأنك صادق تتكلم بلسان كل طبقات الشعب وبلسان شهدائه

إحنا العمال اللي اتقتلوا 

على باب المصنع في ابو زعبل. 

بنغني للدنيا ونتلو 

عناوين جرانين المستقبل

عزيزي صلاح جاهين

وقفت في شعرك مع التحرر الوطني ضد الاستعمار وإسرائيل. وانحزت للفقراء والعمال والفلاحبن والمظلومين من هذا الشعب من أول القمح مش زي الدهب وأنا لوحدي مافيش حاجة مرورًا بساكنين الصفيح وقهاوي سودا من الهباب والهذر حتى حين كتبت أغنية عن كعكة عيد الميلاد قلت ودا مين الحاجة الحلوة دي جابهالنا / وده مين اللي تعب ووضبهالنا / وده مين اللي حنقول له كتر خيرك / اظهر وبان يا عمّنا وتعالى لنا فشكرت الفلاح والطحان والفران والطباخ. كل ذلك في إطار من الفن الجميل الصادق والمتنوع.

فلا عجب أن يحبك الشعب.

عزيزي صلاح چاهين

أمشي في شوارع طفولتي في الإمام الشافعي والحلمية الجديدة وشوارع مراهقتي في مدينة الطلبة وشبابي في منيل الروضة مرددًا

الشوارع حواديت حوداية الحب فيها وحوداية عفاريت

وأسير في المسيرات والمظاهرات في سنين ملأتنا أملًا وعلمتنا معنى الشعب. فأقول:

أنا مش تبع مخلوق يا سيدنا البيه

أنا حر في اللي يقول ضميري عليه

وان كنت تحكم جوه ملكوتك

 الشارع الواسع فاتح لي إيديه

وأجمع أغاني الحب في ألبوم أسمعه ويملأني بالنشوى والحنين فأسمع نجاة تقول:بان عليا حبه من أول مابان وصباح تصدح: أنا هنا يا بن الحلال وأرى حبيبين في حدائق المنتزه يرددان : ولد وبنت ولد وبنت كل الجنينة ولد وبنت يا حب حاسب ده هنا وردة ولد ووردة بنت.

وأرى طفلًا في القناطر الخيرية يركب عجلة ويصيح: 

أما فسحة جميلة

وخصوصًا في وجود الأهل

نلعب على كيف كيفنا

 ضامنين المية والأكل

وحين يغلبني الحزن أقول : ابعدوا وشكو عني شوية كفاياني وشوش أو أقول باكيًا :

مرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل

لا دخلتها برجليا ولا كان لي ميل

شايليني شيل دخلت أنا في الحياة

وبكرة حاخرج منها شايلينني شيل

 عجبي

عزيزي صلاح چاهين

انت معنا بحكاياتك

تقريبًا لم أر فنانًا أو كاتبًا مصريًا أو عربيًا عاش في مصر في الستينيات والسبعينيات ألا والتقى بك ويحفظ لقاءك وحديثك في قلبه ويحكيه للجميع.

عزيزي صلاح چاهين

أسأل نفسي أيضًا لماذا أقول ما يعرفه جميع الحاضرين الآن.

طيب.!

أنا أتكلم هنا لأشكرك.

أشكرك لوجودك معنا ولوجودي معك.

وانضمامي لعائلتك وانضمام أبنائك وأحفادك لعائلتنا.

أشكرك على الدهشة التي منحتني إياها في كل لقاءاتنا.

وأشكرك على يوم زيارة المسجد النبوي عندما كان الزحام شديدًا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت لك: لن نستطيع الوصول إليه فقلت لي: خليك في ظهري وفجأة وجدتنا أمام قبره نقرأ الفاتحة وأنا مذهول من سهولة الوصول ولما سألتك بعد ذلك: كيف وصلنا قلت لي : "قلت لنفسي لو كان عايزني حيخليني أوصل له". رحمك الله يا شاعرنا وصلى الله على سيدنا محمد.

عزيزي صلاح چاهين

أرجو ان ترتاح في رقدتك فقد أطال الله في عمرك . روحك تغمرنا محبة وجمالًا. وأحفادك في القرن الواحد والعشرين يعرفونك ويحبونك ويقرؤونك. مازال الربيع يأتي وسعاد حسني تغني في عيد الربيع وعيد الأم ومازالت رباعياتك تلهم الشباب والرسامين والموسيقيين 

ومازلنا نقرأ معك عناوين جرانين المستقبل التي لم تتحقق بعد.
------------------------
بقلم: أمين حداد
(نقلا عن صفحة الشاعر على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

أمين حداد يكتب عن صلاح جاهين: شكر واجب





اعلان