23 - 04 - 2024

ترنيمة عشق| حين ارتعشتِ الفنانة شادية وبكَت

ترنيمة عشق| حين ارتعشتِ الفنانة شادية وبكَت

"فاطمة شاكر" أو الفنانة "شادية"؛ والتي حازت ألقابًا عدّة؛ فهي "دلوعة السّينما" عند الجمهور، و"صوت مِصر" كما أطلقت عليها "جيهان السّادات"، و"البارعة" كما أسماها "نجيب محفوظ"... ثم "الحاجّة" ذلك اللقب الذي أرادته لنفسها وأكرمها الله به لصِدق نواياها.

 حظيتْ حُب الجماهير على اختلاف الأعمار، ورغم رحيلها مذ أربع سنوات؛ واعتزالها الفن طيلة ست وثلاثين سنة، إلا أنّها مازالت تعيش بيننا... ليس بصوتها العذب فقط؛ أو بروحها وطيبتها التي تُشعرك وكأنّها واحدة من أفراد أسرتك؛ أو كلما جاءتنا مناسبة وطنية أو غادر بعضنا الوطن هلّت بأغانيها تُزجي الحنين والشّوق للوطن والأم والحبيبة... بل برحلتها الإيمانية المتميزة. 

في عمر الستة عشر دخلت المجال الفني لتمثل أول أفلامها: "العقل في إجازة"؛ وفي عُمْر الخمسين قررتْ إنهاء "إجازة العقل" وبدء مرحلة التّفكير في الحياة ورسالة الإنسان الحقيقية المنوط بها. 

قدّمت أكثر من مائة فيلم؛ وعشرة مسلسلات إذاعية؛ ومسرحية واحدة؛ ومئات الأغاني؛ وكانت أبرز نجمات السّينما؛ وأكثرهن خِفّة ظل؛ وذات شعبية كبيرة ومازالت، لكن شيئًا ما كان يحوك بصدرها... فلم يمنحها كل ما حازته السّعادة والاطمئنان المنشودين رغم الشّهرة والمال والجَمال ومحبة النّاس. 

كانت تشعر بالقلق الدائم، وبالرّغبة المُلحّة في تناول جرعات مكثفة من التّأمل والعبادة والقراءة والمعرفة. 

تاريخها الفني يُبين كيف كانت الدّجاجة التي تبيض ذهبًا لمنتجي أفلامها... وكما قال عنها الفنان كمال الشناوي: "إيراد أفلامها جاب للمنتجين عمارات وأراضي"... ورغم أفلامها المرحة التي أجادت فيها تمثيل البنت الدّلوعة حلم كل شاب، رفضها "نجيب محفوظ" لأنّها بعيدة كل البعد عن مواصفات بطلة رواياته -على حد تعبيره- لكنّه فوجئ بها في دور "نور" فتاة الليل في "اللص والكلاب"، تيقّن حينها أنها ممثلة "بارعة".

 تابعتْ بعد ذلك تجسيدها لعدد من رواياته أغنتِ الكثيرين عن قراءتها... مثل: زقاق المدق، والطّريق، وميرامار، كذلك مثّلت: شيء من الخوف لثروت أباظة، ونحن لا نزرع الشوك ليوسف السباعي. 

ورغم خجلها الشّديد في مواجهة الجمهور مباشرة مثّلتْ "ريّا وسكينة" مدة ثلاث سنوات متواصلة، وحققت نجاحًا وفيرًا ومعها صديقتها التي اعتزلت بعدها "سهير البابلي" سيدة المسرح اللافتة (التي تمنّت من الله أن تموت على خشبة المسرح، لكنّها حينما اعتزلتْ وحجّت وارتدتْ الحجاب دعتِ الله أن ينزع حُب المسرح من قلبها، وقد كان، وماتت وهي بعيدة عن الأضواء متعبّدة محجبة تعوض ما فاتها كما أعلنت).

في تمام عمرها الخمسين اعتزلت "شادية" الفن؛ بعد أن التقت صدفةً بفضيلة الشّيخ "محمد متولي الشّعراوي" في مصعد أحد فنادق السّعودية أثناء رحلتها للحج... وطلبتْ منه أن يدعو لها، بعدها ارتدت الحجاب وغنّت بعض الأغاني الدّينية للشّاعرة "علية الجعار"، كان من بينها أغنية "خد بإيدي" ساعتها ارتعشت وبكت وهي تُردّدها، وبعدها فقدتِ القدرة على حفظ أي أغنية ولو دينية، فذهبتْ تشكو لـ "الشّعراوي" أنها غير قادرة على الوفاء بوعدها للجمهور؛ فأجابها: "الوفاء بالوعد لله أَوْلَى"... فخرجتْ من عنده بقرار الاعتزال دون رجعة، ورفضت الظّهور تحت الأضواء تمامًا.

كانت "قديسة" في ابتعادها، فلم تذكُر المجال الفنّي وأصحابه بالسّوء كما يفعل الكثيرون حال اعتزالهم... بل صمتت، ومنحتنا جرعات من الشّوق لأخبارها وأعمالها في مجال البِر والإحسان، وتبرعتْ بكل ثروتها لصالح الجمعيات الخيرية، واعتبرتْ تلك خطوة أولى في رحلتها إلى رحاب الله كما كانت تُردد.

بعد وفاتها أقامت لها "منظمة الأمم المتحدة" للفنون احتفالية كبيرة للاحتفاء بذكراها!! وقام "معرض القاهرة للكتاب" بتغيير اسم مخيم الفنون ليحمل اسم الفنانة الرّاحلة.

كَم ناوشها أهل الفن ليكرّموها في مهرجاناتهم أو لإعادتها للتمثيل ثانيةً بالحجاب كما فعل بعضهن، لكنّها رفضتْ بحزم بناء على نصيحة الشّيخ "الشّعراوي" خوفًا عليها من أن تعود أدراجها شيئًا فشيئًا... ومن ثَمّ رفضت تسجيل أدعية شهر "رمضان" للإذاعة خوفًا من أن يشغلها شيء عما قرّرت ألا تنشغل عنه. 

للطلاب الأفارقة حكايات كثيرة يحكونها عن أياديها البيضاء عليهم، ليعودوا إلى بلادهم يدعون لها حال حياتها وموتها، حين تَولّت الإنفاق عليهم من مأكل وملبس ومعيشة ودراسة بل وزوّجت بعضهم دون أن تعرفهم بل دون أن يَروها، وعشرات البيوت كانت تعيش على رواتب شهرية منها، وغيرها من الأعمال التي باتت نهرًا من العطاء الإنساني.

 حرَمها ربي من نعمة الأمومة؛ فعوضها بأن سكب بقلبها حنانًا جعلها تُحوّل فيلتها بالهرم لمجمع خيري ومسجد ودار أيتام ودار تحفيظ قرآن ومشفى خيري، وتبرعت بشقتها بالمهندسين لجمعية "مصطفى محمود" لإنشاء مركز لعلاج الأورام... لتبقى سيرتها العَطرة لسان صدق لها في الآخرين يذكرونها بالخير.

ارتضت أن تكون بمعية الله... حتى أنها كانت تختم القرآن مرة كل شهر، وكانت تُردّد دومًا أنها لا تجد سعادة إلا في قراءة القرآن.

في ذكرى رحيلها ندعو الله أن يرحمها ويغفر لها ويثقل موازينها ويهدينا جميعًا.
------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | صفحة من تاريخ الأفاعي الأسود





اعلان