29 - 03 - 2024

التجربة التي حررت "أينشتاين" من العنصرية وفاقمتها لدى الإسرائيليين!

التجربة التي حررت

صعود هتلر والحزب النازي بأيديولوجيته العنصرية للحكم سنة 1933 كان يعني اضطهادا مؤكدا ليهود ألمانيا، وفي نفس الوقت كان هذا الصعود خطرا محققا على حياة عالم الفيزياء الشهير "ألبرت أينشتاين" الحاصل على جائزة نوبل سنة 1921. كان "أينشتاين" حاصلا كذلك على الجنسية الألمانية ومقيما في ألمانيا حتى هذا التاريخ، لذلك قرر الهروب سرا لأمريكا في نفس سنة صعود هتلر لسدة الحكم في ألمانيا عبر صناديق الانتخاب. وفور اكتشاف السلطات النازية لهروب الفيزيائي اليهودي من ألمانيا رصدت مكافأة ضخمة "لرأسه" أي للقبض عليه حيا أو ميتا!. في انجلترا التي مر عليها سرا في طريق هروبه اضطر "أينشتاين" للإقامة متخفيا لعدة أسابيع ريثما تسمح الظروف بعبور المحيط لأمريكا، أقام خلال اختبائه في كوخ بموقع ناء شرق بريطانيا، كان يملك الكوخ صديق له يعمل جنديا في البحرية الانجليزية ثم أصبح فيما بعد عضوا في البرلمان، واضطر صديقه لتدبير متطوعين لحمايته بالسلاح خوفا على حياته نتيجة رصد النازيين جائزة اصطياده.

والمهم في المغامرة المثيرة لهروب عبقري الفيزياء وصاحب النظرية النسبية من ألمانيا، هو أنها كانت تجربة خلصته من عنصريته الشخصية التي وصفها فيما بعد بأنها "مرض متفش بين الرجال البيض". ولعل الكثيرين يتفاجأون من وصم عالم بحجم "أينشتاين" وسمعته العالمية بالعنصرية، لكن هذا الاتهام - مع كل الدهشة - حقيقي وموثق بدقة، وثّقه "أينشتاين" بنفسه لنفسه وخطّه بيده في مذكراته التي نشرتها جامعة "برنستون" سنة 2018. تتضمن المذكرات وصف عالم الفيزياء لرحلته بدءا من سنة 1922 لدول مختلفة في آسيا والشرق الأوسط، وتكشف النظرة العنصرية التي ميّزت أحكامه على الشعوب غير الأوروبية. مثلا.. يصف "أينشتاين" في مذكراته حركة البشر في ميناء بور سعيد في مصر بأنهم "كما لو كانوا تدفقوا جميعا من جهنم"!، ويخص الصينيين بأقذع الأوصاف العنصرية التي يمكن تخيلها، مما يجعلهم في تصوره أقرب للكائنات الكوكبية غير البشرية، فهو يصفهم بأنهم "أمة تشبه القطيع"، ويصف أطفالهم بأنهم "فاقدو الاحساس ومتبلدون"، ويتساءل بشأن قدرة الرجل الصيني على الدفاع عن نفسه ضد جاذبية النساء، ويعرب عن أسفه لأن الصينيين سوف يحلون بالتكاثر محل سائر الأجناس الأخرى!.

بالوسع هنا القول أن "أينشتاين" كتب هذه البشاعات العنصرية متأثرا باتجاهات الثقافة التي كانت سائدة في ألمانيا وتسببت في صعود هتلر والنازيين للحكم. لكن الحقيقة التي ذكرها "أينشتاين" نفسه أن تلك الميول الثقافية العدائية والمتدنية تجاه الشعوب الأخرى لم تكن تخص ألمانيا بالذات، لكن دوائرها تتسع لتشمل الرجل الأبيض أي عموم الأوروبيين، حتى في مهجرهم الأمريكي أو عالمهم الجديد الذي لايزال الأمريكيون السود من أصول أفريقية يعانون فيه من عنصرية الرجل الأبيض. لكن الخلاصة ذات المغزى من وراء التجربة القاسية والدموية التي خاضها "أينشتاين" ومواطنيه اليهود في ألمانيا خلال حكم النازية، هي أنها تجربة مؤلمة حررت عالم الفيزياء من عنصريته، كما أنها فعلت ذلك بكل تأكيد مع كثيرين غيره، سواء من الناجين والفارين من اضطهاد ومحارق النازيين أو من غيرهم حول العالم. وإن كان الوجه الآخر من الحقيقة يؤكد أيضا أن كثيرين من اليهود - وبالذات من الصهيونيين في إسرائيل - لم تنجح التجربة الضارية في تحريرهم من ميولهم العنصرية الخاصة بهم بل فاقمتها. وهو الأمر الذي ازداد وضوحا مع تزايد وتوالد وتفاقم أشكال الاضطهاد العنصري من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الفلسطينيين، بعد أن انتزعت منهم أرضهم واقتلعوا منها ليتشردوا في أنحاء العالم نتيجة ممارسة الاضطهاد العنصري ضدهم.

ولو تساءلنا عن مغزى هذا التضاد المدهش في نتيجتين مترتبتين على تجربة ألم مشترك في مواجهة فظائع العنصرية، فسنتوقف على الأرجح أمام إجابتين: الأولى هي تفاقم الإحساس بالمظلومية اليهودية القاسية في أعقاب الاضطهاد النازي، وهي خبرة تكتنفها مشاعر القسوة الشديدة، وتدفع بالإنسان إلى أن يحمّل العالم كله مسئولية ما أصابه من اضطهاد، هذه المسئولية الانتقامية الناجمة عن الاحساس بالمظلومية وقع على عاتق الفلسطينيين منفردين - وحدهم ودون كل الشعوب الأخرى - تحمّل نتائج إحساس الإسرائيليين بها. أما الإجابة الأخرى الأشمل فلابد أن تتعلق بتعقيد الوضع والطبع البشري عموما، فالتجربة الواحدة يمكن أن تزيد البشر عقلانية وسعة وتسامحا وتفتحا مثلما حدث مع "أينشتاين"، ويمكن أن تزيد نفس البشر بعينهم توحشا وعدوانية عنصرية ضد آخرين. ويمكننا أن نقرأ نتائج التجربة الإيجابية تلك على عالم الفيزياء اليهودي في كلمته التي ألقاها في نيويورك سنة 1938، عندما عبّر عن أن التوصل إلى اتفاق قائم على أساس العيش المشترك مع العرب أفضل عنده من قيام دولة إسرائيل، وعندما أعرب عن مخاوفه "من ان الضرر الداخلي الذي سيلحق باليهودية سيشتد خاصة نتيجة لتنامي الأفكار القومية المتعصبة في دوائرنا الخاصة، والتي ينبغي علينا محاربتها بقوة، حتى بدون وجود الدولة اليهودية"، وعندما أكد ان العودة الى القومية في مفهومها السياسي بالنسبة لليهود تعني التراجع عن أخلاقية مجتمعهم. ولابد أن تدفعنا كلمات "أينشتاين" الرحبة إلى ضراوة المقارنة بينها وبين موقف الدولة الإسرائيلية اليوم من قضية السلام مع العرب والفلسطينيين.

--------------------------

بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان