26 - 04 - 2024

سينما داعش أم سينما السبكي؟!: حتى لا تتحول السينما إلى كبش فداء مضلل في جريمة الإسماعيلية الوحشية

سينما داعش أم سينما السبكي؟!: حتى لا تتحول السينما إلى كبش فداء مضلل في جريمة الإسماعيلية الوحشية

ربما لا تسعف أحدا أي عبارات يتمكن بها من وصف أو إدانة جريمة الاسماعيلية البشعة، وهي جريمة تترك المصدومين بسبب إمكانية وقوعها في ذهول من درك الانحطاط الذي يمكن لغرائز العنف البشرية الوصول إليه. ولأن اي نشر عن تفاصيل الحادث يخالف قرار النيابة، كما انه يستفز مشاعر اسرة الضحية، فلن اتطرق هنا على اي نحو لتفاصيل الجريمة المؤلمة، لكني ساعرض لنقاش مهم دار حول دلالاتها ومعانيها من الوجهة النفسية والاجتماعية والثقافية.

واللافت ان تعليقات وآراء وإدانات متنوعة تدور حول دور "سينما الشباك" - وكنا نسميها قديما "سينما الترسو" - في نشر وترويج سلوكيات العنف والبلطجة، فضلا عن تعاطي المخدرات والتفكك الاسري...إلخ، في المجتمع المصري. ولا املك شخصيا اقل من إعلان الدهشة أمام مثل تلك المبالغة الضخمة التي تربط بين ظواهر العنف وافلام السينما!. لأنها تشبه في محتواها الشائعات التي تنتشر على نطاق واسع ويتداولها الناس على أنها من الحقائق المؤكدة، ويدعمونها اثناء التداول ايضا باسماء نجوم ومنتجي سينما مثل "رمضان" و"السبكي"، وبأدوار معينة في افلام ومسلسلات كانها هي بالذات ما تسبب في وقوع جريمة بتلك البشاعة!. والغريب ان الكثيرين يصدقون هذه الفرضية الساذجة ببساطة ودون أدنى محاولة لفحصها على ضوء العقل والواقع، وهي بساطة توحي بالريبة في وجود رغبة دفينة في الهروب من حقيقة ما أو التستر عليها، حقيقة ساطعة كالشمس ومرئية في وقائع الجريمة المعلنة بالعين المجردة، وربما ليست في حاجة أيضا لأقوال الشهود.

فعلى كثرة ما تداوله الإعلام ووسائل التواصل والصحف من تفاصيل الجريمة، لم يقل احد أبدا ان المجرم هو من مدمني التردد على دور السينما، او أنه من مشاهير متابعي الدراما والمسلسلات، او انه عرف عنه تقليد نجم او نجوم سينمائيين معينين، والسؤال في هذه الحالة يتعلق بوجود أي دليل يجعل احدا يذهب إلى هذا الربط شبه التلقائي - والهروبي نتيجة الصدمة تقريبا - بين الجريمة وأفلام سينمائية معينة؛ إلا لو كان ذلك من قبيل الحيلة النفسية الدفاعية. والحيلة الدفاعية في علم النفس معناها استسلام العقل لأوهام او روابط سببية ملفقة بغرض إخفاء الحقائق والروابط السببية الواقعية والهروب منها. والوقائع والروابط السببية في جريمة مثل جريمة الإسماعيلية لا تؤدي بنا إلى ربط من اي نوع سببي حقيقي بينها وبين أفلام سينمائية، لكنها تربط بشكل مباشر ومنطقي بين جريمة قتل وقطع رأس وحشية وبين مثيلاتها من جرائم قطع الرأس التي انتشرت منذ 2014 مع دخول تنظيم داعش الإرهابي لساحة الأحداث الإقليمية والدولية.

داعش كانت هي الجهة الرئيسية المحرضة بشكل واضح على ارتكاب هذا النوع الهمجي والبربري "السينمائي" من جرائم قطع الرأس بدوافع تعزوها للدين أو للتدين. واقوال الشهود المذاعة - وإن كان التزامي بقرار النيابة العامة بعدم النشر يجعلني لا أوردها تفصيليا - تدعم وتؤكد هذا الربط بشكل تام. وأبسط دليل يمكنني الإلماح إليه لتاكيد ذلك هو صغحة الجاني على موقع فيسبوك، وصفحته ممتلئة بمنشورات وشعارات دينية ذات منحى متطرف وضيق الأفق وعنيف بشكل واضح ودال. والدليل الأبسط من ذلك كله كانت تلك الكلمة التي نسب إليه الشهود ترديدها وهي قوله: أنا سيف الله..!!. لم يقل الجاني أنه كان سيف السبكي أو سيف رمضان إذن!!. من ثم لا مفر من الربط بين جريمته وبين تشوه نفسي له علاقة بنزوع إرهابي عنيف.

وحتى لا يسارع احد ويتهمني بالربط الخاطيء بين جرائم العنف وبين الإسلام، اؤكد اني لا أربط - من الاصل - بين ممارسات جماعات الإسلام السياسي (بما فيها داعش والإخوان وغيرهما) وبين الإسلام، بل ولا أربط بين أيديولوجيا ومقولات الإسلام السياسي الدينية في الظاهر وبين الدين سواء كان الإسلام أو غيره، لكني رغم ذلك حريص على إيضاح ما ليس في حاجة إلى إيضاح، ما هو واضح بذاته كالشمس في رابعة النهار، وهو ارتباط جريمة الاسماعيلية البشعة نفسيا وثقافيا، ومن الجهة الشكلية والمضمونية، ببيئة ومناخ وثقافة العنف الديني، وليست مرتبطة بأفلام السينما والمسلسلات الدرامية.

تبقت مسألة المخدرات ودورها في وقوع أو تفاقم جريمة بشعة كتلك، وأرجو ألا يبدو كلامي في نظر البعض كما لو كان دفاعا عن المخدرات، لأنه مجرد دفاع عن الحقيقة وتصديا للأوهام المضللة. لذلك أقول ان ارتباط الجريمة بالمخدرات ليس في حاجة إلى إثبات حسب كل المقاييس الجنائية والنفسية والاجتماعية العلمية، لكن من قال أن تعاطي المخدرات يمكن أن يتسبب في ارتكاب الجرائم بشكل آلي؟!، الأغلبية ممن يتعاطون المخدرات لا يرتكبون أي جرائم إلا جريمة تعاطيها وهي جريمة في حق أنفسهم ومجتمعهم. ثم من قال إن ارتكاب جريمة تحت تأثير المخدرات يتم ب"إخراج" له كل هذه الوحشية والبربرية بالضرورة؟!، ليس في المخدرات ما يمكن ان يدفع إلى ارتكاب جريمة بشكل معين، شكل الجريمة - سواء كان مرتكبها مدمنا او غير مدمن للمخدرات - مرتبط بنفسية وثقافة ومعتقدات وعنف مرتكبها، ودور المخدرات هو تسهيل ارتكابه لجريمته وليس ابعد من ذلك.  
المسألة المهمة بعد سرد تلك الحقائق عن المخدرات وعلاقتها بالجريمة، هي أن تعاطي مجرم ما للمخدرات لا تبرره فكرة التأثر بنوعية معينة من افلام السينما مهما كانت هابطة أو سيئة، فالواقع أن أفلام السينما لا تنشر المخدرات ولا تروج لتعاطيها، ونحن لم نسمع مرة واحدة من قبل عن مراهق أو مدمن أنه دخل السينما او شاهد فيلما خرج منه ليبجث عن المخدرات ويشتريها ليقوم بتعاطيها!. لكننا نعلم جيدا أن تعاطي المخدرات مثل تعاطي أشكال الجريمة المختلفة (ومن بينها الإرهاب) كلها من أشكال الانحراف العقلي والنفسي والاجتماعي، قد يكون من اهم دوافعها غياب الوازع التربوي والاخلاقي والانهزام النفسي والضعف العقلي وتحريض رفقاء السوء، وكلها في المحصلة امراض تعاني منها المجتمعات، المسئول عن نشرها ظروف وعوامل كثيرة متداخلة اقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية، ومن بينها المناخ الثقافي العام السائد المحرض على الغيبوبة، سواء كانت غيبوبة بالتطرف او بالجريمة او بالمخدرات. وعندما تنقل السينما أنماطا معينة من السلوك الانحرافي فهو مؤشر وجرس تنبيه يدل على خطورة انتشار تلك الانماط، لا يعني تناول السينما لها انها هي المسئولة عن خلقها او نشرها، لكن ذلك يكون صحيحا ففط من وجهة نظر الغافلين عن وجود النمط السلوكي الانحرافي، والذين يصدمون من اطلاعهم عليه عن طريق السينما وليس من خلال الواقع. فالمؤكد ان السينما تقلد الواقع وليس الواقع هو من يقلد السينما.
أخيرا، فقد حملت إلينا اخبار اليوم، بعد اقل من ٤٨ ساعة من حادث الاسماعيلية البشع، خبرا عن متطرف / مهووس / مجنون قام بمحاولة ذبح رجال شرطة في محطة سكة حديد فرنسية بواسطة سكين، واطلق رجال الشرطة عليه النار وهو الآن في حالة خطيرة. والسؤال ايهما اقرب للمنطق: الربط بين نمط سلوك عنف ديني هذياني وبين مجرمي فرنسا والاسماعيلية  ام الربط بينه وبين افلام سينمائية؟!. لن يبلغ عنف افلام السينما المصرية مهما بلغ عنف افلام السينما الامريكية (هوليوود) ولا عنف افلام السينما الهندية (بوليوود)، وكلاهما تنتج افلاما تشاهد على النطاق العالمي ولها معجبون "مدمنون" في كل الدنيا، رغم ذلك لا يخطر على بال احد اتهام افلامهما بالتسبب في نشر العنف لا في بلديهما ولا على النطاق العالمي، ولو حدث ذلك سيعد من قبيل السخف، لأنه من خارج الواقع. اتهام السينما بالمسئولية عن صناعة ونشر العنف في ظل كل هذا العنف الذي تشهده منطقتنا بالذات والعالم، هي تهمة ابعد عن الواقع من اي خيال سينمائي.

-------------------------

بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان