19 - 04 - 2024

الثوار الذين حكموا أسوان وأفشلوا تدمير السد بمساعدة أورطة من الجيش المصري

الثوار الذين حكموا أسوان وأفشلوا تدمير السد بمساعدة أورطة من الجيش المصري

الخطأ التقليدي الذي نرتكبه مع التاريخ المصري هو دراسته كما لو كان عناوين مبتسرة، مجرد أحداث سياسية غالبا ترتبط بتواريخ معينة بالسنين والشهور والأيام، لا نراه ولا نحاول رؤيته كما وقع، تاريخا من دقائق وساعات وأيام وسنين، ومن لحم ودم وأنفاس، ونمطا من الحياة اليومية المعاشة لأجدادنا وجدود جدودنا. وقد يكون هذا النمط التاريخي من الحياة في أحيان كثيرة هو بذاته النمط المالوف لنا من الحياة بجريانها المعتاد بالإضافة إلى التأثير الذي يتركه الحدث التاريخي، وقد يكون في بعض الاحيان - بالذات خلال أحداث الحروب والثورات - نمطا مختلفا تماما أو مقلوبا راسا على عقب، لكن التاريخ في الحالتين يكون مختلفا عن تلك العبارات المدرسية المحنطة التي لا يمكن النفاذ إلى طبيعة ما تركته في حياة الناس في مصر من تأثير عميق بعضه يستمر فيما بيننا ويمتد للمستقبل. 

هذا التاثير العميق يمكن استقاؤه ليس من كتب التاريخ المدرسية وإنما من المذكرات التي تركها أهل التاريخ وراءهم، إما مذكرات أبطال تلك الاحداث التاريخية مثل مذكرات أبطال تاريخنا الحديث كعرابي أو مصطفى كامل أو محمد فريد أو سعد زغلول أو طلعت حرب مثلا، أو عن طريق أرشيف الصحف القديمة التي نشرت تفاصيل الأحداث الكبيرة والصغيرة في تلك الفترات التاريخية والنزاعات ووجهات النظر والمواقف المختلفة المقترنة بها، أو من الشهادات الحية - سواء كانت مكتوبة أو مروية - التي تركها بعض من هؤلاء الذين عاشوا تلك الاحداث وشاركوا بقدر ما في صنعها أو تاثروا بها تأثرا مباشرا. تلك المصادر هي ما يمكن أن تعيد إلينا - أو تعيدنا إلى - حرارة التاريخ كأحداث حية وقطع ملتهبة من لحم ودم، وتعيد تجسيم الأحداث وتصور معانيها على وجهها الحقيقي - الوطني والإنساني - الذي وقعت به.

إلى هذه المصادر التاريخية المهمة يعود كتاب "سجين ثورة ١٩" للدكتور "محمد مظهر سعيد"، الذي أعادت نشره الهيئة العامة لقصور الثقافة، بمناسبة الاحتفال بمئوية الثورة الشعبية العظيمة التي شكلت أحداث القرن العشرين بأكملها في مصر، وغيرت مسار التاريخ المصري من يوم وقوعها وحتى يومنا هذا وإلى الابد. 

"محمد مظهر سعيد" لم يعش أحداث ثورة ١٩ فقط لكنه شارك بنصيب في صنعها، من حيث كان يعمل في أسوان وليس من القاهرة حيث انفجرت الثورة، ورغم أن القاهرة كانت مركز الثورة وبؤرة احداثها، إلا أن مصر كلها كانت مسرحا عظيما لها، وشاركت فيها كل مدن وقرى مصر بنصيب حاسم، وكان للثورة في كل قرية ومدينة قصة عظيمة - بل قصصا كثيرة ناصعة ومدهشة - تستحق أن تروى. 

ومن تلك القصص قصة مدينة اسوان التي انضم فيها الجيش المصري إلى الثوار، مما مكنهم من تقويض السلطة الانجليزية الاستعمارية فيها، وفرض الاقامة الجبرية على ممثلي تلك السلطة سواء كانوا انجليز او مصريين، وسواء كانوا عسكريين او موظفين تحت سلطة الاحتلال، لتقضي اسوان عشرة ايام من ازهى ايام تاريخنا الحديث كإقليم تحكمه سلطة مدنية مصرية، ومحرر من الحكم البريطاني المفروض على مصر كلها.

من اغرب الاحداث التي توردها مذكرات "د. محمد مظهر سعيد" قصة تتشابه مع قصة الكاتب الروسي العملاق "فيدور ديستويفسكي"، حين جرب هذا الاخير النفي لسيبيريا كمعتقل سياسي، ثم حكم عليه بالإعدام مما جعله يخوض تجربة الموت ويراه بعينيه، قبل ان يصل في اللحظة الاخيرة أثناء تنفيذ الحكم امر عسكري آخر بالعفو عنه واستبدال السجن بعقوبة الإعدام. وهو ما تكرر بحذافيره مع ابطال مذكرات "سجين ثورة ١٩" العظماء. هؤلاء الابطال الاربعة - كان من بينهم صاحب المذكرات "مظهر سعيد" نفسه - بعد أن قاموا بتنظيم ثورة أهالي اسوان يوم ١٥ مارس ١٩١٩، واستطاعوا الاتصال بأورطة الجيش المصري التي كانت تعسكر خارج المدينة وحصلوا على تأييدها، ومن قبلها حصلوا على تأييد الشرطة الصامت بضغط رئيسها، وهو مدير مديرية أسوان الحاكم باسم السلطة الاستعمارية والذي اضطر للاستسلام لهم بعد انحياز الجيش المصري للثورة وإعلان قائد الاورطة الضابط "بدر الدين" أنه يتلقى أوامره من المجلس الوطني الذي قام الثوار بتشكيله لإدارة المدينة. بعدها قام الجيش المصري بحصار مساكن الموظفين الإنجليز في سد اسوان، وإفشال مؤامرتهم لتفجير السد بعد ان قاموا بتلغيم الخزان بالديناميت لإغراق أسوان ومصر كلها!.

بعد نحو عشرة أيام من نجاح الجيش والثوار في الاستيلاء على المدينة وإدارتها، وفي فجر يوم ٢٧ مارس وصلت باخرة إنجليزية مسلحة للشلال بقيادة البريجادير "جريج" (وهو السير جريج الحاكم الانجليزي لأوغنده فيما بعد)، على رأس ثلاث كتائب من الجيش الإنجليزي، إحداهما انجليزية والأخرى هندية والثالثة سودانية، وعلى رأس الكتيبة السودانية كان السفاح "شاهين" قاتل الطلبة والنساء والأطفال في مظاهرات القاهرة فيما بعد. الهدف كان إعادة مديرية اسوان لحكم التاج البريطاني، وبالطبع سلم الثوار المدينة حقنا لدماء أهلها، ولأن الأسلحة التي كانت في حوزتهم، بما فيها أسلحة الأورطة المصرية نفسها، ما كانت تكفي للصمود دفاعا عن المدينة ولو لساعة واحدة.

ولندع كاتب المذكرات يصف لنا بنفسه تلك اللحظات الرهيبة بعد أن تلي على الأسرى من أبطال الثورة الذين شكلوا المجلس الوطني في المدينة الأمر العسكري بإعدامهم، يقول: ٠وقف أوين باشا وأدى التحية العسكرية لنا وأشار إلى ضابط إنجليزي يحمل في جرابه مسدسا ضخما، فأمرنا أن ندور للخلف وتقدمنا في السير تجاه سور ووراءنا سرية ضرب النار ببنادقها، ودرنا مرة أخرى لنواجه المنصة ووقف أمامنا جنود السرية صفا واحدا. وفتش الضابط البنادق، وجاء بأوراق مستديرة بيضاء ثبتها فوق القلب تماما، وربط على عيني كل منا عصابة سوداء فانتزعتها بغضب والقيتها على الأرض ودستها بقدمي. ثم ربط أيدينا من الخلف.. وأخرج مسدسه ووقف باعتدال متجها للمنصة منتظرا إشارة الضرب من الباشا. وطال انتظار الإشارة وقتا ما".

في نفس اللحظة دخلت إلى ساحة تنفيذ الإعدام سيارة حربية غبراء اللون في سرعة جنونية ويرفرف عليها العلم البريطاني، يقف في وسطها جنرال إنجليزي أركان حرب صاح بأعلى صوته لضابط السرية: قف. وكان هذا الجنرال يحمل خطابا مختوما بأمر جديد من سلطة الاحتلال العسكرية يقضي بمحاكمة الثوار قبل تنفيذ العقوبة فيهم.

قد يتصور قاريء مذكرات  "سجين ثورة ١٩" أن وراء مشهد تنفيذ الإعدام ثم نجاة الثوار منه في اللحظة الاخيرة "تمثيلية" تهدف لكسر إرادتهم وجعلهم ممتنين لسلطات الاحتلال، لكن يظل احتمال ذلك مستبعدا، لان من حكم على الثوار بالموت - وعلى مصر كلها - هو سلطة الاحتلال العسكرية، ومن تراجع هو نفسه سلطة الاحتلال العسكرية، كما أن الأمر بالتراجع عن تنفيذ الإعدام أتى في مدن أخرى بعد فوات الأوان وإعدام الثوار فعلا. ولو صدق وأنها لم تكن معجزة حقيقية تلك التي انقذت ثوار أسوان في لحظاتهم الاخيرة، فهي ليست في هذه الحالة أكثر من حيلة ساذجة لا ولم تحقق الهدف منها، فالموت نفسه ليس قادرا على مواجهة إرادة ثوار وطنيين انعقدت إرادتهم على تحرير انفسهم ووطنهم من دنس الاحتلال الأجنبي. 

الملاحظة الاخيرة هي أن المذكرات لم تخبرنا عن مصير الضباط الوطنيين في أورطة الجيش المصري الباسلة بعد أن ساعدوا الثوار على تحرير بلدهم، وليس ذلك بالطبع إلا لأنه لم يتنامى لعلم كاتب المذكرات مصيرهم، فتحية منا لهؤلاء الأبطال المجهولين في مسيرة مصر الوطنية باتجاه الحرية والاستقلال، وتحية للتاريخ المصري العظيم الذي يستحق منا الكفاح لاستكمال مفاخره العظيمة التي بدأت قبل آلاف السنين، ويستحق منا الكفاح لاستعادة صفحاته العظيمة بكل ما فيها من حرارة الحياة وبطولتها.
---------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان