18 - 04 - 2024

فيس بوك.. "فرانكشتاين جديد" انحرف عن مساره أم وجه قبيح لـ "وادي السليكون"؟

فيس بوك..

لم تكن الحقائق الصادمة التى جاءت في كتاب "An Ugly Truth/حقيقة قبيحة"- الصادر حديثاً فى يوليو من العام الجارى لمراسلتي صحيفة نيويورك تايمز "سيليا كانج" و "شيرا فرينكل"، أمراً مُستغرباً، حيث تعرض "فيس بوك" الذي كان يجسد أحد أعظم قصص النجاح في وادي السليكون، خلال السنوات الخمس الماضية، لانتقادات لاذعة و مستمرة، نظراً للخلافات والأزمات المتوالية. وبعد أن كان يمثل عملاق التكنولوجيا الذى يربط العالم، أصبح هناك مؤشرات متلاحقة على إساءته التعامل مع بيانات المستخدمين، ونشر أخبار زائفة، وتضخيم خطابات الكراهية والاستقطاب. أما المفارقة فهى أنه فى الوقت الذي صب فيه المستهلكون والمشرعون جام غضبهم على وقائع انتهاكات الخصوصية والمعلومات المضللة، عزز "فيس بوك" دوره، من خلال دوائر الضغط المختلفة، كأحد أنشط أجهزة التنقيب عن البيانات في العالم، مُحققاً أرباحًا قياسية.

“رجل يجلس أمام جهاز الحاسوب الخاص به، يتصفح بيانات فيس بوك لـ "امرأة" كان على موعد معها، ولكن ليس من خلال ملفها الشخصي العام، بل من خلال المعلومات الحميمة، حيث يمكنه معرفة الأشخاص الذين تحادثهم على فيس بوك، والاهتمامات التي تنسبها إليها المنصة. يمكنه أيضًا تتبُع مكان وجودها في الوقت الفعلي عبر الموقع. ما يفعله هذا الموظف بشركه فيس بوك ممنوع وفق سياسات المنصة المعلنة. لكن المتاح وما يمكن فعله غير ذلك، مع الأسف “.

تصدر هذا المشهد الوصفي الفصل الأول من كتاب "الحقيقة القبيحة داخل فيس بوك ومعركة من أجل الهيمنة"، حيث تتبعت كل من "Sheera Frenkel" و "Cecilia Kang"، في كتابهما، تطور شبكة التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، حيث تكشفان، من خلال عمل استقصائي عميق، عن القوة التي تتمتع بها المنصة الأن في حياتنا. كما تصطحبان القٌراء فى جولة مثيرة وصادمة حول السياسات المعقدة والتحالفات والمنافسات داخل أروقة شركة فيس بوك، فى محاولة تسليط الضوء على الثغرات القاتلة في بنية التكنولوجيا العملاقة، فقد قادتهم التقارير الحصرية إلى استنتاج صادم، ألا وهو :"لم تكن عثرات السنوات الخمس الماضية أمراً غير مقدر له الحدوث، بل كانت نتيجة حتمية. فهذه هي طريقة الأداء التي صُمِم بها تطبيق "فيس بوك من البداية". هكذا يُشار إلى"مارك زوكربيرج" و "شيريل ساندبرج" كنموذج فريد للمديرين التنفيذيين المَهرة في القرن الحادي والعشرين- لقد تحول "الصبي العبقري" فى مجال التكنولوجيا إلى ملياردير، و صارت "ساندبرج" المرأة الخارقة في مجال الأعمال التجارية.

تُرى، ما الذي كان يحدث خلف الكواليس خلال الـ 17 عامًا الماضية التي قادتنا إلى مثل هذه اللحظة الفوضوية؟ يتم الأن استخدام التكنولوجيا الخاصة بهما من قبل مُروجي الكراهية والمجرمين والأنظمة السياسية الفاسدة في جميع أنحاء العالم، فى ظل توقعات بمزيد من العواقب الوخيمة.

تلك الحادثة التى ذكرتها المؤلفتان فى مقدمة الكتاب، والتى وقعت في كانون الثاني 2014- بشأن موظف فيس بوك الذى يعد واحدًا من بين 52 موظفًا وصلوا إلى معلومات حميمة تخص المستخدمين - معظمهم من الرجال الذين تلصصوا على ملفات تعريف النساء اللاتي يهتمون بهن- تعكس أنه لم يكن هناك أى آلية رقابية صارمة داخل شركة فيس بوك ترصد إساءة استخدام البيانات بشكل منهجي، آنذاك.

 لكن الأمور تطورت، ولم يعد مُفاجئاً ما آلت إليه الأوضاع مؤخراً. تتلاءم الأخبار، بصورة منطقية، مع جميع القصص التى تم تداولها عن الشبكة الاجتماعية الأكثر انتشاراً واستخداماً فى العالم خلال السنوات الأخيرة، فيما يخص المعلومات المضللة على المنصة، ومحاولة التلاعب بالانتخابات فى بعض الدول، وتجاهل خصوصية المستخدمين، والثغرات الأمنية، وإساءة استخدام السلطة وغيرها من الانتهاكات الرقمية.

يشرح الكتاب أيضاً للجمهور الآلية المعقدة والثقافة التجارية المتشابكة التى يعمل بها فيس بوك، التى صارت بالأساس شركة إعلانات، حيث يرغب المُعلِنون في فهم اهتمامات مستخدمي المنصة بشكل أفضل، حيث يساعد مستخدمو فيس بوك هؤلاء المعلنين في التعرف على المستخدمين، بشكل أفضل، من خلال المشاركة الكثيفة: كل نقرة أو مشاركة أو تعليق يتم جمعها داخل هذا الخزان الهائل من المعلومات عن كل مستخدم. يحتاج المعلنون إلى هذه المعلومات حتى يكونوا أكثر قدرة على استهداف الأفراد كـ "مستهلكين محتملين". يعرفون الكثير عن المستخدمين، ليس فقط من واقع ملفاتهم الشخصية، بل استنادًا إلى بياناتهم الخاصة التى يجمعها التطبيق، وصولاً إلى ما يسمى بـ "التحليل التنبؤي" ، ببساطة، يكتسح فيس بوك فى سباق الهيمنة، لأنه يبيع هذه البيانات الهامة للمُعلنين.

مرآة عاكسة لما يحدث فى وادى السليكون

لقد أصبح فيسبوك، خلال السنوات القليلة الماضية، رمزًا عاكساً لكل ما يحدث بمنهجية سلبية داخل شركات التكنولوجيا العملاقة في وادي السليكون: صار كثيرون يعتبرون "فيس بوك" شبكة لانقسام المجتمع. ففى البداية كانت الغاية المُعلَنة للمنصة منح الناس إمكانية الوصول إلى المعلومات. لكنه أصبح، فيما بعد، يؤجج نيران المعلومات المضللة؛ فلا تزال الشركة التي تدير المنصة يسيطر عليها شخص واحد بصورة شبه مطلقة: وهو المؤسس والرئيس التنفيذي "مارك زوكربيرج"، بمصاحبة مشاركة محدودة من نائبته الفعلية (شيريل ساندبرج).

وفي الواقع يبدو كتاب "الحقيقة القبيحة داخل فيس بوك" كأنه ملخص توثيقي لجميع الفضائح الكبرى التى وقعت خلال السنوات القليلة الماضية عبر المنصة. فهو يعطي لمحة عن الواجهة الهشة لـ "فيس بوك"، كما يدق ناقوس تحذير بأنه لا يزال ينتظرنا ما هو أسوأ من التوقعات الحالية. فعلى سبيل المثال، كان مطورو البرمجيات قادرين على ملاحقة حالات إساءة الاستخدام منذ البداية. ولكن ما حدث أنه لم يتم استجواب المنتهكين على مر السنين - أراد "زوكربيرج" توفير قدر من البيروقراطية لـ "مطوري" برمجياته. ووفقًا للكتاب، أبلغ موظفون بشركة فيس بوك،مرارًا وتكرارًا، زوكربيرج بهذه المشكلة، لكنه تجاهلها لفترة ليست قصيرة، بينما تغير سلوكه فقط عندما تم تعيين الباحث الأمني الشهير "أليكس ستاموس" كرئيس أمن  للمنصة في عام 2015 وقدم أرقامًا صادمة عن حجم المشكلة.

يحدد الكتاب الهيكل التنظيمي للمنصة باعتباره مركز إثارة الأزمات. فهومصمم "دائمًا لصب الزيت على النار وإثارة المشاعر، وتحديداً مشاعر الغضب والكراهية"، لأن خوارزمية فيس بوك تقدم إثابة للمشاركين على مدى التفاعل - فهي لا تميز ما إذا كان شخص ما يحب أو يعلق على منشور بدافع الفرح أو الغضب، بدافع الحب أو الكراهية، إذ يتم التعامل مع مقاطع الفيديو المضحكة أو الساخرة التى تحقق عددًا كبيرًا من التفاعل والإعجابات، بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع منشورات بها إثارة معادية. ويمكن تخيل حجم انتشار تلك المشاعر السلبية على نطاق واسع، حيث يستخدم 2.85 مليار شخص منصة Facebook كل شهر، وأكثر من ملياري شخص يستخدمون الدردشة على WhatsApp ومليار شخص ينشرون الصور ومقاطع الفيديو على Instagram

والسؤال الأهم؛ ما هو المحتوى الذي يسمح به فيس بوك وما الذي يحظره، وما هي البيانات التي يجمعها؟ وما يمكن لموظفيه الإطلاع عليه؟ وكيف يتم التعامل مع الشعبويين على المنصات؟ وكيف يتم التعامل مع الأخبار المزيفة؟ كل هذه الممارسات لها تأثير مباشر على الناس وحياتهم اليومية.

بالطبع، لا يزال الأفراد يقررون بأنفسهم ماذا يشترون، ومن يتبعون، وما يختارون؟ لكن بدون"فيس بوك" ربما لن يصادفوا بعض العروض أو بعض الأفكار التى تقدمها المنصة لمستخدميها بمجرد قراءة اهتماماتهم عبر خوارزمياتها. والواقع سيصبح للأمر وجه أخر أكثر تعقيداً عندما يتعلق بالقضايا السياسية أو الاجتماعية.

سلطوية "زوكربيرج"

أحد المفاهيم التي ظهرت في الكتاب بقوة هو أن فيس بوك أعطى الأولوية "للمشاركة قبل كل شيء". فقد حرص "مارك زوكربيرج"منذ البداية على أن يستند تطبيق "فيس بوك" إلى غزارة الاستخدام، فمن ثم تتمكن خوارزمياته من فهم المستخدمين أكثر فأكثر. لقد فطن "زوكربيرج"- من البداية- إلى مدى قوة المشاركة، باعتبارها تؤدي إلى توالد المزيد من البيانات؛ لقد كان يعلم أن قوة وسائل التواصل الاجتماعي ستكمن فى "المشاركات". لذلك، عندما طورت الشركة المزيد من الأدوات، كان الأمر يتعلق بتعزيز المشاركة وتشجيعها فى الأساس. وأفضل مثال على ذلك، إضافة "Newsfeed" للتطبيق، حيث أدركت الشركة أن المحتوى العاطفي يلهم المشاركات. فالأشياء التي تحرك مشاعر الخوف والغضب والسعادة إلى أخره، هى التى تغذي آلية الربح على فيس بوك.

يطرح الكتاب فكرة أنه من الممكن حل العديد من هذه المشكلات المتعلقة بالمحتوى المتداول على "فيس بوك" إذا لم تكن هناك مشكلات هيكلية ضخمة، حيث يمتلك "مارك زوكربيرج" ما يقرب من 60 في المائة من حقوق التصويت في Facebook ، وبالتالي يمكنه اتخاذ العديد من القرارات بمفرده. باختصار: ما يحدث على"فيس بوك"والشركات الفرعية "واتساب" و"انستجرام" يخضع لتقدير المدير الأوحد. إذا غير رأيه، سيتغير المسار أيضًا.يمكن أن يكون Facebook مختلفًا إذا أراد "زوكربيرج" ذلك. ولكن يبدو أنه لا يريد. هناك فقرة هامة فى الكتاب تقول: "يرى الكثير من الناس أن فيس بوك شركة انحرفت عن مسارها الصحيح، مثل قصة فرانكشتاين الكلاسيكية و الوحش الذي انقلب عن صانعه.. ولكن على ما يبدو أنه في اللحظة التي التقى فيها زوكربيرج وساندبرغ في حفلة عيد الميلاد في ديسمبر 2007، كان لديهما فكرة عن إمكانات الشراكة بينهما وتحويل "فيس بوك" إلى القوة العالمية التي هي عليها اليوم .فمن الأرجح أن الأمر برمته ليس مصادفة أو إنحراف مسار".

لا يدعو الكتاب إلى هجر شبكات التواصل الاجتماعي، بل يدعو الناس أن يكونوا على دراية بالكيفية التى تعمل بها خوارزميات هذه المنصات، للتوقف للحظة قبل مشاركة شيء ما علي فيس بوك، كي يسألوا أنفسهم: من أين يأتي مصدر هذه المعلومة؟ هل هي موثوقة؟ إذا لم أسمع بها من قبل ، فربما لن أشاركها. وربما أيضاً لن أصدقها. كذلك عندما نتأمل شعورنا حيال استخدام البيانات الشخصية التى أصبحت- شئنا أم أبينا-  منتجا رقميا، ربما سنفكر بشكل مختلف، وربما لن نفكر. لكن علينا أن نكون أكثر استنارة، كمستخدمين وكمواطنين، للتفكير في دورنا في هذا النظام البيئي لنشر المعلومات التي غالبًا ما تكون ضارة أو خاطئة.

لا تمثل أيضاً المسؤولية الفردية سوى جانب واحد من المشكلة، بينما يتوجب أن يكون هناك نوع من الرقابة التنظيمية والتحقق فيما يتعلق بالحدود الفاصلة المتعلقة بمقدار البيانات التي يمكن استخدامها وكيفية استخدامها. تقول شوشانا زوبوف، مؤلفة كتاب (The Age of Surveillance Capitalism): "لا شيء يمكن أن يتغير ما لم نعالج نموذج العمل. تحتاج الحكومات حقًا إلى فهم كيفية عمل التضخيم الخوارزمي، وكيف تعمل آلية جمع البيانات، وكيف يعمل نشاط الإعلان السلوكي، وكيف يمكن أن يكون ذلك مبهمًا ومعقدًا للغاية". 
------------------------
عرض: ليزا هيجمان - ترجمة: شيرين ماهر
عن موقع "Die Zeit
/ دى تسايت"الألماني
رابط الموضوع الأصلي






اعلان