23 - 04 - 2024

عبدالغفار شكر

عبدالغفار شكر

ربما لا يكون لهذا المقال من مناسبة ، سوى أن المعنى به لايزال يعيش بيننا* ، وندعو الله أن يمد فى عمره ، وأن يظل يضئ حياتنا ، فهو كيان إنسانى عظيم التفرد ، يصعب أن نعطى له لقبا ونكتفى به ، وقد فكرت أن أكتب عنوانا لمقالى عنه ، وخطرت فى ذهنى ألقاب بينها "مفتى اليسار" و"معلم الأجيال" و"الرجل الذهبى" ، ثم وجدت عسرا  فى أن أكتفى بأى لقب أو عنوان ، ووجدت الكفاية كلها فى ذكر اسمه الجليل "عبدالغفار شكر" .  

  هو رجل البسالة الإنسانية بلا ضجيج ، وبوسعه أن يضفى حتى على الأشياء الجامدة حيوية متدفقة ، تأمل ـ مثلا ـ مقاله الموسوم "مجتمع الكراسى المتحركة" ، وقد نشرته له "الأهرام" فى 14 نوفمبر 2015 ، مع اكتمال عام بالضبط على اكتشافه إصابته بجلطة فى المخ ، وهو يصحبك من غرفة نومه التى فوجئ فيها بما جرى فجرا ، إلى عيادات الأطباء ، وإلى صالة العلاج الطبيعى ، فقد أصبح من ذوى الكراسى المتحركة على مدى شهور طويلة ، لا تلحظ فيها أنه يشكو من ألم ، أو يتخوف من عجز ، بل تصحبك وجوه أطبائه ، ويرسم لهم صورا مؤثرة ، تجعلهم من أصدقائه وأصدقائك ، مع أقسام العلاج بالماء والعلاج بالعمل فى مركز عسكرى يضج بالمدنيين والمجندين ، وهيئة التمريض من العقيد "سهير" إلى الصول "جيهان" والنقيب "رشا" ، ولا ينسى بطله مساعد التمريض المتفائل "وجيه" ، الذى كان صوت غنائه الصباحى من آخر الممر ينشر الارتياح  فى النفوس الحالمة بالشفاء ، وبينها نفس "راقصة الباليه" التى أصابها فيروس فتخشب جسمها ، وفى نهاية مقطوعة التعاطف الإنسانى العذبة ، يقول لك عبدالغفار شكر خلاصته ببساطة ، ويلخص العبرة والعظة بقوله نصا "ما أعيشه الآن هو تجربة إنسانية . لم أشعر خلالها باليأس أو بالإحباط . ولكنى أتمسك بالأمل فى الشفاء . وعلى استعداد لترتيب أولوياتى وحياتى على ضوء الوضع الطبى الجديد" .

  أعدت قراءة المقال مرات ، وتذكرت أننى جبنت وتراجعت ، ولم أكن من الأصدقاء الذين زاروا عبدالغفار شكر فى رحلة العلاج ، واكتفيت بالاطمئنان عبر هاتف ابنته الوحيدة "أميمة" ، فلم أكن أجرؤ على رؤيته فى وضع الضعف ، وهو الرجل الذى عرفته أكبر من كل ضعف ، كنت طالبا فى جامعة المنصورة ، وانضممت لحزب التجمع أواخر سبعينيات القرن العشرين ، وكنت أسيرا لشخصية عبدالغفار شكر بالذات ، لم يكن الرجل وقتها من الأسماء الرنانة التى تتداولها الصحف والإذاعات ، لكنه كان حزبا فى رجل ، كان طاقة عمل ديناميكى معجزة ، وذهنا مرتبا صافيا ، كان ينطق الكلمات فى سلاسة كأنه يتلوها من اللوح المحفوظ ، وكانت أغلب وثائق التجمع ولوائحه وتقاريره الأساسية من صناعة يده ، لا تلحظ اهتزازا ولا شطبا فى كلماته الناصعة المنسابة فوق ورق مسطر بعناية ، وكان بوسعه أن يكتب بيانا سياسيا ضافيا بليغا دقيقا فى ثلاث دقائق ، كان الرجل فى نصف عمره الآن ، وكان مثالا مبهرا يشدنى إليه ، وسرعان ما وجدت نفسى زائرا مرحبا به فى بيته ، لم يكن بيتا مما تتوقع لابن عمدة قرية "تيرة" الذى مات فى حربه مع الإقطاع ، بل مجرد شقة متواضعة فى المساكن الشعبية المطلة على نيل "طلخا" المواجهة لأضواء "المنصورة" ، كنت أناقش الرجل فى حدة أحيانا ، وكان يرد بوضوحه وهدوئه الذى غلبنى ، وجعلنى معتادا على المشى معه عبر "الكوبرى" العتيق فوق النيل ، وإلى حيث مقر ندوة "الأربعاء" فى حزب التجمع أعلى مقهى "أندريا" الشهير ، كان شكر هو مؤسس الندوة، وقد أسس مثلها فى المقر الرئيسى لحزب التجمع وسط القاهرة ، كان الرجل يقضى نصف يومه هنا والنصف الآخر هناك، ولم ألحظ تعبا على الرجل الأربعينى وقتها ، وإلى أن أصابنى الفزع على السلم متسع الدرجات فى المبنى "الباشاواتى" العريق ، كان شكر يصعد فى تؤدة ظاهرة إلى حيث مقر "التجمع" بالمنصورة ، كانت تؤدة الرجل منضبطة كانتظامه العملى الفائق ، وكنت نادرا ما أعبر عن فضولى ، لكنى تورطت فسألته ، وكان الجواب مفاجأة ، فقد أخبرنى الرجل بهدوء عن السبب فى تؤدته بصعود السلم المضاء ، وقال أنه أصيب بأول ذبحة صدرية فى الثلاثين من عمره ، ولم يكن أمامى سوى أن أصدق الصادق ، برغم أن أحدا كان لا يمكنه أن يتوقع ، فقد كان الرجل يبذل نشاطا لا يستطيعه أشد الأصحاء ، وهو الذى تولى تربية وتثقيف قرابة النصف مليون مصرى بمنظمة الشباب الاشتراكى فى الستينيات ، بدأ الرحلة الشاقة وعمره أقل من الثلاثين ، ولم تمنعه الذبحات الصدرية المتوالية من مواصلة أشواط تثقيف الأجيال وراء الأجيال، وبصورة مكثفة لا تصدق معها أنه يكاد يناهز الثمانين الآن .

  وقد تأثرت بمئات الكتب التى قرأتها ، وبعشرات الكتاب والمفكرين والسياسيين ، منهم من أحب ومن أكره ، لكنى لم أعترف بالأستاذية لأحد سوى لعبدالغفار شكر الذى خالفته مرات ، وقد كتبت ممتنا لأستاذيته قبل عشرين سنة من الآن ، وقبل أن تلهج الألسنة بذكر اسمه ، وتعرف كتبه التى تأخر صدورها باسمه طويلا ، فقد كان الرجل يكتب ويكتب دون أن يضع اسمه ، وكانت كتبه ـ بدون اسمه ـ أشبه بالمقررات الدراسية الأساسية لأحزاب ومنظمات اليسار المصرى العلنية والسرية ، ولم يضع الرجل اسمه سوى فى مرحلة متقدمة من عمره ، وعلى الكتب التى لا يتصور أحد أن تصدر سوى عن عبد الغفار شكر ، ومن أول "التحالفات السياسية" و"تجديد الحركة التقدمية" فى سنوات التسعينيات ، وإلى تجربة "منظمة الشباب" و"الطليعة العربية" فى السنوات والشهور الأخيرة ، فالرجل لا يدبج مقالات ، ولا يؤلف كتبا يبحث لها عن مصادر ، بل يكتب نفسه باقتصاد ودقة ، فهو من أغزر المفكرين والمثقفين إنتاجا وتأثيرا ، لكن أحدا لا يجاريه فى دور المثقف (بكسر القاف) ، وهو الوحيد الذى أنشأ "مدرسة تثقيف" سياسية مصرية بالغة الكمال والامتياز ، لا تغلق أبوابها أبدا فى وجوه الطالبين .

* (سبق نشر هذا المقال في 1/12/2015 ونعيد نشره تحية لروح الراحل الكريم) 

---------------------

عبدالحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان