28 - 03 - 2024

عاصفة بوح | فراق (2 من 3)

عاصفة بوح | فراق (2 من 3)

حدث ماتخوفت منه العمر كله، لم تتخيل حدوثه رغم أنهما فى المحطة الاخيرة من عمرهما ومع ذلك صدمت للفراق المفاجىء، أنكرته، أغمضت عينيها وقالت إنها سوف تستيقظ الآن من هذا الكابوس المرعب، ستضحك فى وجهه وتحتضنه بعنف متمسكة بتفاصيل جسده للتأكد من وجوده.. فالأموات لايشيعون دفئا ولا التصاقا طلبا للحب والأمان، ستستيقظ الآن وتجرى نحوه  فرحة بانتهاء الكابوس وتحمد الله لأنهما ما زالا هنا فى بيتهما معا كما بدآ حياتهما، بعد خروج أبنائهما إلى عش الزوجية والحياة تاركينهما بمفردهما.. كل شاب وفتاة فى علاقة حب مجنونة وأمل كبير ألا تهزمه الأيام، ومسؤولية فى إقامة أسرة صغيرة تعيش سعادة ربما غابت عن الكثيرين.

أما هما ، فكان الأمل أكبر لأنهما استعدا له بخطة محكمة خرجت من فورة شباب مغرور بقدرته على تحقيق المستحيل، فإن لم يكن تلك قدرة شباب فى حالة عشق بين .. فمن يفعلها حقا!

ها نحن فى آخر العمر وحدث ما تخوفت حدوثه العمر كله، تصورت دائما أن سخافات تحدث دائما للآخرين، من خيانة وإهمال وخذلان وإنكار للعشرة وانفصال فعلى فى بيوت صامتة ميتة تفتقر لأقل مشاعر العشرة والمودة أو الانفصال الفعلي بورقة رسمية تعلن فشل مشروع زواج كان الجميع يتمنون له الاستمرار.

لم يحدث لها أي من ذلك، وشكرت ربها عليه لسنوات طوال.. ولكنه فعل أشد من كل ما سبق، بمنتهي البساطة، مات وتركها مع أنها دعت فى سرها لسنوات طوال أن تذهب قبله فى طلب أنانى بعيدا عن طبعها وشخصيتها ولكنه الحب الأناني، فماذا تفعل فى الحياة بدونه؟

بدونه لا حياة فى الأصل، فقدت الحياة لونها وطعمها وبهجتها وحزنها وقلقها.. 

انتهى صراعها مع الحياة لتنتزع منها لحظة صدق أو فرح أو أمل يتبغدد عليهما أحيانا فيستعينان بكثير من الامل والحب.. فما داما معا باطفالهما يملأون حياتهما حبورا وتحققا .. ماذا يمكن أن يكدر صفو حياتهما؟

حدث ما خشيت حدوثه العمر كله.. كانت تغمض عينيها مستعيذة بالرحمن الرحيم عندما تسمع عن موت أحد الأزواج أو الأبناء.. تصرخ من أعماقها داعية أن يعفيها ربنا مما ابتلى به الآخرين: لا يارب، إلا حبييها وأبا أولادها وصديقها وسميرها، لن تتحمل أبدا أن تعيش بدونه لحظة واحدة. ستجف الحياة فى جسدها وتلحقه فى ثوان؟ فكيف يارب خذلته و لم ألحق به فى ثوان كما تعهدت له؟ لماذا عافيتنى من الوباء الذى أطاح ىحبيى وبقلبى وبخلايا الطمانينة والحب الذي اغرقته به وبى العمر كله؟

أطفئت الأنوار كلها فلم أعد أجد موطيء قدم لحياتى فى ذلك الفراغ الذى خلّفه، لا يملؤه شيء، حتى صلاتى ودعائي تعانق قلبي، فيهدأ للحظات شاكرة فضله أنه انتزع منى حبيبى، وليس أحد أولادنا، فلا هو ولا أنا قادران على تحمل تلك المصيبة والكارثة.. ومع ذلك لاتمضى لحظات الإيمان و التقبل لقدر الله، حتى تفاجأ باسياخ ملتهبة تكوى قلبها وخلايا جسدها لأنه هو ببساطة ليس موجودا.

اذن .. لاحياة بدون صحبته الهينة السلسة واحتوائه وحنيته وإخلاصه لعائلته الصغيرة، كان يضحك ويقول: بعيدا عن حبنا .. لايمكن أن اخطيء فى علاقة يكون ثمنها تكدير حياة أولادى.. هكذا كان تدينه سهلا وبسيطا؟ يتقى الله فيجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب .. وقد رزقه الله، فما بغى أو تكبر أو غدر،  حمد الله على نعمته وكانت تلك  النعمة تأخذ طريقها إلى جيوب الآخرين فى المحن ولحظات الفرح المكلفة.. كان يقولان معا: ما رزقهما إلا رزق هؤلاء الآخرين وما نحن إلا وسيلة، فجزاه الله حب الناس واحترامهم و ترحمهم عليه من القريب والبعيد، كلهم شهدوا له بالمعرووف والجدعنة، لكنه خذلنى ورحل!

أنفاسه الراحلة تملأ المكان الذى جف من بعده.. أتنسم ملابسه التى تحمل رائحته الخاصة، آثار رأسه على كرسيه الأمريكانى المفضل تشبع حاجتى لوجوده المادي, وتعذبنى أنها آثار، أما الأصل صاحب البهجة والفرح و الصحبة فلم يعد موجودا! فراغ ووحدة لايملؤها الأولاد ولا حتى الأحفاد، هدية آخر العمر ومكافأة ترك الخدمة، هبة الرحمن للأجداد، ومع ذلك لا شيء يملأ فراغه.. الوحدة القاتلة, الاشتياق الموجع، الذكريات التى تنهش جسدى بعملية تعذيب فاقت اقسى المعتقلات، فراغ، جنون، بكاء، إنكار للفقدان، ثم استغفار لمشيئة الذى بيده كل شيء وإيمان برحمته التى وسعت كل شيء وحكمته التي قد لا تصل إليها  عقولنا فى تلك اللحظة.. ولكننا سندركها ونشكر الله عليها لاحقا، أما الآن فلا أرى أمامي إلا الوحدة والوجع!

أنادى عليه بين الجدران الصامتة فأجن.. كان ظلى وونيسى وتوأمي السيامي.. لم يرنا أحد إلا معا لمدة خمسين عاما، تعجبوا من حبنا الذي لم تهزمه الأيام ولا المغريات.. وكنت أتعجب فعلا، كانت عطية الرحمن لمن اتقى ربه ورضي بمنحة الحب الحقيقي.. فلم البطر؟

تتراءى فى مخيلتي الذكريات، أول لقاء، أول ضحكة، أول همسة وأول لمسة، ليلة الزفاف، ثمرة حبنا، جهادنا فى الجياة، مسؤولياتنا المشتركة، أعباء حياتنا، صعوباتنا، مشاكلنا، خصامنا، تبغددى وتدللي و احتواء لحظات غيرتي وجنوني، سن اليأس الكاذب فى حضور مشاعر فياضة وتفهم لجنون هرموناتي، صمودي فى مواجهة علامات الشيخوخة الواضحة على  جسدى وجسده، الغائبة تماما عن مشاعرنا واستمتاعنا بالحياة بحلوها ومرها لأنها نابعة من أعمق مكان فى قلوبنا، لاعلاقة لها بالزمن ومرور السنين وبياض شعرنا .. الشيخوخة ضيفة ثقيلة لم نرحب بها، لكن تقبلنا تواجدها ضيفة غير عزيزة على حياتنا، وصاحبناها فى الدنيا معروفا، ثم تجاهلناها تماما.. فى عشرتنا الدافئة. 

فى مقابل كل هبات الرحمن لي، أعظمها أنه رزقنى حبه وإخلاصه .. فإنه أخذ منى شيئا عزيزا، أتمنى من الله أن أنجح فى اختبار الصبر حتى ألحق به فى جنات النعيم، باذن الله وأنا معه، فالحياة بدونه جحيم.. فهل أعاقب على ذنوبى مرتين ؟ لا والله فأنا أثق فى الرحمن، لا يأتى منه إلا الخير.. دنيا وآخرة.
-------------------------
بقلم: وفاء الشيشيني

مقالات اخرى للكاتب

عاصفة بوح | حسابات دقيقة وحسابات قبيحة





اعلان