كشف تحقيق استقصائي غير مسبوق، يعد الأكبر من نوعه على الإطلاق نحو 12 مليون مستند في إطار ماعرف بوثائق باندورا، والذي يكشف عن ثروات سرية، وتهرب ضريبي، وفي بعض الحالات، غسيل أموال من قبل بعض زعماء العالم وأثريائه.
وشارك في التحقيق أكثر من 600 صحفي في 117 دولة لحساب الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) في العاصمة الأمريكية واشنطن، لإنجاز واحد من أكبر تسريبات الوثائق المالية، وتظهر فيه أسماء حوالي 35 من القادة الحاليين والسابقين، وأكثر من 300 مسؤول حكومي، في ملفات الشركات التي تتخذ من الملاذات الضريبية مقرا لها.
وكشفت الوثائق أن ملك الأردن يمتلك سرا عقارات في بريطانيا والولايات المتحدة قيمتها 70 مليون جنيه إسترليني، وأن شبكة من الشركات المملوكة سراً استخدمها الملك عبد الله الثاني بن الحسين لشراء 15 عقاراً، منذ توليه السلطة في عام 1999، وتشمل القائمة ثلاثة منازل مطلة على المحيط في ماليبو بولاية كاليفورنيا الأمريكية بقيمة 50 مليون جنيه إسترليني، وممتلكات في لندن وأسكوت في المملكة المتحدة، فيما يقول محامو الملك عبد الله إنه اشترى العقارات من ماله الخاص.
كما أوضحت الوثائق كيف تمكن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وزوجته من التهرب من دفع 312 ألف جنيه إسترليني، من رسوم الدمغة عندما اشتريا مكتبا في لندن كان شركة تتخذ من ملاذ ضريبي مقرا لها، وتملك تلك الشركة المبنى. وقالت السيدة بلير إن البائعين أصروا على شراء المنزل من خلال شركة أجنبية. وقالت إنها وزوجها أخضعا العقار لقواعد المملكة المتحدة مجددا، وسيكونان مسؤولين عن دفع ضريبة أرباح رأس المال إذا قاموا ببيعه في المستقبل. وكان المالكون الفعليون للعقار عائلة ذات نفوذ سياسي في البحرين، لكن كلا الطرفين يقولان إنهما لم يعرفا في البداية مع من يتعاملان.
وتشير بعض الحالات، إلى غسيل أموال من قبل بعض زعماء العالم وأثريائه، عبر 14 شركة خدمات مالية في دول من بينها جزر العذراء البريطانية، وبنما ودولة بليز وقبرص والإمارات العربية المتحدة وسنغافورة وسويسرا.
ويربط التسريب أيضا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأصول سرية في موناكو، ولم يرد ذكر أسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة في الوثائق إلا أنه يرتبط عبر شركاء بأصول في موناكو لا سيما دارة على الواجهة البحرية اشترتها امرأة روسية يقال إنها أنجبت طفلا من بوتين وفق ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية.
ملاذات ضريبية
ويعد أحد أكبر الاكتشافات هو كيف أنشأ الأشخاص البارزون والأثرياء، شركات بشكل قانوني لشراء العقارات سرا في بريطانيا، وتوضح أن مالكي نحو 95 ألف شركة، تتخذ من الملاذات الضريبية مقرا لها، كانوا وراء عمليات الشراء.
ولم تقم الحكومة البريطانية بإعداد سجل لأصحاب العقارات من أصحاب الشركات التي تتخذ من الملاذات الضريبية مقرا لها، على الرغم من الوعود المتكررة للقيام بذلك، وسط مخاوف من أن بعض مشتري العقارات قد يخفون أنشطة غسيل الأموال، كما في حالة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف وعائلته، الذين اتُهموا بنهب بلدهم. وأثبت التحقيق أن آل علييف وشركاءهم المقربين، متورطون سرا في صفقات عقارية في بريطانيا، تبلغ قيمتها أكثر من 400 مليون جنيه إسترليني. ويبدو أن آل علييف قد حققوا ربحا قدره 31 مليون جنيه إسترليني، بعد بيع أحد ممتلكاتهم في لندن إلى كراون ستيت، وهي إمبراطورية الملكة العقارية التي تديرها وزارة الخزانة وتجمع من خلالها الأموال للأمة.
ويعتقد الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أن التحقيق "يفتح صندوقا يحتوي على الكثير من الأشياء"، ومن هنا جاء اسم أوراق باندورا (في إشارة إلى أسطورة صندوق باندورا). في الميثولوجيا الإغريقية، أهدى زيوس كبير الآلهة صندوقاً لسيدة تدعى "باندورا" وأمرها ألا تفتحه، وضع فيه كل صور الشرور البشرية، لكن باندورا عصت الأمر وفتحت الصندوق فانتشر الشر في أنحاء الكون.
ومن بين الأشياء الأخرى التي كشفتها وثائق باندورا، عمل الرئيس الكيني أوهورو كينياتا وعائلته على تكديس ثروة شخصية تقارب 500 مليون دولار من خلال شركات خارجية ، وكذلك امتلاك أعضاء الدائرة المقربة من رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، بمن فيهم وزراء وعائلاتهم، شركات وصناديق ائتمانية بملايين الدولارات. كما تكشف أن شركة المحاماة التي أسسها الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، قد ادعت وجود مُلّاك وهميين لإخفاء المالك الحقيقي لسلسلة من الشركات الخارجية، وهو سياسي روسي سابق اتُهم بالاختلاس، لكن شركة المحاماة تنفي ذلك ، وأيضا نقل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حصته في شركة خارجية سرية قبل فوزه في انتخابات 2019
كما يكشف التحقيق أن رئيس الحكومة اللبناني ورئيس وزراء التشيك، أخفوا أصولا مالية طائلة عبر شركات خارجية لأغراض من ضمنها التهرب الضريبي. ونشر موقع مجلة دير شبيغل الألماني أن رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي وسلفه حسان دياب تعاملوا أيضا مع هذه الشركات، مرات عديدة. أما رئيس وزراء تشيكيا اندريي بابيس فقد استثمر 22 مليون دولار في شركات وهمية استخدمت في تمويل شراء قصر بيغو، وهو دارة شاسعة في موجان جنوب فرنسا.
ومن بين الشخصيات العامة خارج عالم السياسية الواردة اسماؤهما في التحقيق الإستقصائي المغنية الكولومبية شاكيرا وعارضة الأزياء الألمانية كلوديا شيفر ونجم الكريكت الهندي ساشين تندولكار.
العرب حاضرون بقوة
حفلت الوثائق بأسماء زعماء وسياسيين عرب، وشخصيات نافذة كانت على علاقة وطيدة برؤساء وملوك. كان من ضمن ما تناولته الوثائق قصة تأسيس شركة Larkmont Holdings Limitedفي "جزر العذراء البريطانيّة" في 13 ديسمبر 2016 والتي تشير الأوراق إلى أن مديرها هو السعودي محمد بن عبد الكريم الحسن.
وبحسب تحقيق منشور، فإن الشركة تأسست بعد أقل من عام واحد من شن التحالف العربي "عاصفة الحزم" ضد جماعة "أنصار الله الحوثي" في اليمن، وأن من أنشطة الشركة شراء أسلحة من شركة "ّGIM" وهي شركة صربية مملوكة لوالد وزير الدفاع الصربي نيبويسا ستيفانوفيتش، لكن مجموعة من تلك الأسلحة وصلت إلى يد تنظيم "داعش" الإرهابي في اليمن.
وتشير الوثائق إلى أن الحسن عندما سجل كمدير للشركة سجل عنواناً له، تبين بعد تدقيق وفحص أنه عنوان شركة عسكريّة سعوديّة تدعى "ريناد الجزيرة Rinad Al Jazeera LLC"، ومقرها الرياض، لكن تمّ وقف موقع الشركة خلال فترة العمل على التحقيق.
وكان العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز قد أصدر في الأول من سبتمبر 2020، أمراً بإعفاء الأمير فهد بن تركي بن عبد العزيز من منصبه كقائد لقوات التحالف في اليمن، وإعفاء نجله عبد العزيز، نائب أمير منطقة الجوف، وتحويلهما للتحقيق بتهمة تعاملات ماليّة مشبوهة، بعد بلاغ مقدم ضدهما من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وكان من بين الأسماء الذين شملهم الأمر الملكي أربعة سعوديين في وزارة الدفاع السعوديّة، من بينهم محمد بن عبد الكريم الحسن ويوسف بن راكان بن هندي العتيبي.
وبحسب ما جاء في التحقيق، تظهر صور مأخوذة من ملفات فيديو نشرها تنظيم الدولة في محافظة البيضاء صوراً لأسلحة صربية كانت من ضمن الصفقات التي اشترتها وزارة الدفاع السعوديّة من مصنع "كروسيك" الصربيّة، ومن غير المعروف كيف وصلت تلك الأسلحة إلى التنظيم.
وكان من ضمن صفقة الأسلحة الصربية، تسليم ما يزيد عن سبعة آلاف قطعة عيار 82 ملم من قذائف الهاون M74 (الفوسفور الأبيض) من مصنع كروسيك الصربي موجهة للسعودية بقيمة تتجاوز 217 مليون دولار. وفي تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" ووسائل إعلام أخرى، فإن السعودية استخدمت الفوسفور الأبيض في عملياتها في اليمن (وهو من الأسلحة المحرمة دولياً)، وأشارت تلك التقارير إلى أن الولايات المتحدة هي من زودت السعودية بالفوسفور الأبيض، وبناء عليه فربما استعانت السعودية بصربيا لتزويدها بالفوسفور، تحسباً لانتقادات إعلاميّة تستهدف توريد الولايات المتحدة لأسلحة محرمة دولياً إلى السعوديّة، بحسب ما جاء في التحقيق.
ومن غير المعروف إلى الآن ما اذا كانت تهم الفساد التي يتمّ التحقيق فيها مع الأمير فهد بن تركي ونجله والسعوديين الأربعة -بما فيهم الحسن- هي بسبب شركات الــ "أوف شور" التي استخدمت في شراء الأسلحة خلال حرب اليمن، خاصة وأن القائمين على التحقيق أكدوا أن وزارة الدفاع السعودية لم ترد على تساؤلاتهم بهذا الشأن.
وبحسب ما نشر موقع دويتشه فيله باللغة الإنجليزية فقد كشفت الوثائق السرية أيضاً عن أن الأميرة المغربية "للا حسناء" - باعتبارها صاحبة إحدى تلك الشركات العابرة للحدود - اشترت منزلًا بقيمة 11 مليون دولار في لندن وبالتحديد في المنطقة الراقية بالقرب من قصر كنسينغتون.
بحسب الوثائق فإن الأميرة للا حسناء اشترت منزلًا بقيمة 11 مليون دولار في لندن عبر إحدى الشركات العابرة للحدود.
وأجرت الأميرة عملية الشراء بأموال من "العائلة المالكة المغربية" بحسب الوثائق المسربة التي ذكرت أن مهنتها "أميرة". ولم يرد القصر الملكي المغربي على أسئلة وجهها لو ديسك، الشريك الإعلامي للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.
كما تشير الوثائق أيضاً إلى أسماء لشخصيات عربية شهيرة مثل محمد بن راشد آل مكتوم ، رئيس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة وحاكم دبي، وأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، حيث تقول الوثائق إن الأول يظهر اسمه كمساهم في 3 شركات تقع مقراتها في ملاذات ضريبية وأن الثاني استخدم إحدى شركات (اوف شور) للقيام باستثمارات وإدارة ثروته وحمايتها لصالح عائلته، وأن يخته الخاص والذي يبلغ ثمنه 300 مليون دولار قد تم شراؤه عبر إحدى تلك الشركات.
(انفوغراف توضيحي نقلا عن BBC )
الجهة الراعية للتحقيق
الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أنشأه المركز الأميركي للنزاهة العامة في العام 1997، ثم أصبح كيانا مستقلا في 2017. وتضم شبكة الاتحاد 280 صحافيا استقصائيا في أكثر من مئة دولة ومنطقة فضلا عن حوالى مئة وسيلة إعلام شريكة. وبرز الاتحاد مطلع أبريل 2016 مع نشره تحقيق "وثائق بنما" الذي استند إلى حوالى 11,5 مليون وثيقة سربت من مكتب محاماة ببنما.
وأدت فضيحة "وثائق بنما" التي بدأت في الثالث من أبريل 2016 مع تسريب 11,5 مليون وثيقة رقمية من مكتب المحاماة موساك فونسيكا. وهذه الوثائق الحساسة التي حللتها المجموعة الدولية للصحافيين الاستقصائيين أدت الى سلسلة صدمات في العالم بينها استقالة رئيس الوزراء الايسلندي سيغموندور ديفيد غونلوغسون، ثم رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف. وبعد تسرب الوثائق، فتح 150 تحقيقا على الأقل في 79 بلداً في قضايا التهريب الضريبي أو تبييض أموال، حسب المركز الأميركي للنزاهة العامة. وقامت بنما منذ ذلك الحين بسلسلة إصلاحات لتعزيز الرقابة المصرفية ومعاقبة التهرب الضريبي بالسجن وتبادل المعلومات مع منظمة التعاون والتنمية في المجال الاقتصادي.
أما الملفات الجديدة (وثائق الباندورا) فهي مرتبطة بنحو 35 زعيماً من زعماء الدول الحاليين والسابقين، وأكثر من 330 سياسياً ومسؤولاً عاماً - وحتى فنانين ورياضيين - في نحو 100 دولة وإقليماً لديهم أصول في حسابات خارجية أو مؤسسات سرية أو شركات وهمية. ولا يعرف حتى الآن الكيفية التي حصل بها الاتحاد على هذا الكم الهائل من الوثائق السرية.
-----------------------
تقرير - فدوى مجدي