29 - 03 - 2024

الثقل الرمزي لضربة "الهروب الكبير" من سجن "جلبوع"

الثقل الرمزي لضربة

أزمة الإسرائيليين مع عملية "الهروب الكبير" التي قام بها ستة أسرى فلسطينيين أزمة مركبة، وهي أعمق بكثير من ظاهرها الإعلامي الذي تبديه انتقادات الإسرائيليين أنفسهم لإدارة سجن "جلبوع" - شديد الحراسة - ولطاقم حراسته وإدارته التي أُبلغت بهروب سجنائها ولم تكتشفه على الأقل من نفسها!. اتهامات مثل الخلل والترهل الأمني والتقصير والثغرات الأمنية وحتى التواطؤ الأمني (هناك اثنان من حراس السجن قيد التحقيق الآن)...إلخ، لا تعكس وحدها الأبعاد الكثيرة والكاشفة لتأثير عملية "الهروب الكبير". أحد تلك الأبعاد - يمكن وصفه بالتاريخي - انعكس فور إعلان نبأ الهروب، بطريق المقارنة بين النفق الذي حفره الأسرى الستة بملاعق الأكل والأنفاق التي حفرها أسرى قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية واستخدموها في الهرب من سجون النازي. إحدى تلك الوقائع أعاد إنتاجها فيلم هوليوودي مشهور من كلاسيكيات السينما الأمريكية هو فيلم "الهروب الكبير"، وقد أنتج سنة 1963 من تأليف وإخراج "جون ستورجس" وبطولة "ستيف مكوين" و"جيمس جاردنر" و"تشارلز برونسون". والفيلم رغم أنه طُعم ببعض الأحداث الخيالية إلا أنه جسم حدثا حقيقيا لهروب مجموعة من جنود الحلفاء من معتقل "شتالاج" خلال الحرب العالمية الثانية. ولم يكن الحدث الذي اقتبس قصته الفيلم هو الحدث الوحيد من نوعه، بل شهدت سجون النازيين عددا آخر من قصص الهروب لجنود الحلفاء، في سنة 1943 هرب 300 معتقل من سجن "سوبيبور" الألماني نجا منهم حوالي خمسين، وهرب 131 معتقلا فرنسيا من سجن "أوفلاج" تمكن اثنان منهم فقط من الفرار. بالمثل لم يكن حدث الفرار من سجن "جلبوع" هو الوحيد على المستوى الفلسطيني، سبقه هروب 3 أسرى فلسطينيين آخرين في سنة 2003 من سجن "عوفر" القريب من رام الله وأسفر وقتها عن مقتل اثنين من الهاربين ونجاة الثالث.

نقطة التأثير لا تكمن - بالطبع - في مجرد تماثل في هروب سجناء وأسرى حرب أو في طريقة هروبهم، ولكنها تكمن في تبادل الأدوار الرمزي بسبب محض المطابقة ذاتها، حيث تحل السجون الإسرائيلية رمزيا محل سجون النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، ويتخذ الفلسطينيون سمت "سجناء الحرب" أو الأسرى في موقع جنود الحلفاء في قتالهم ضد العنصرية والاحتلال النازي. وهي رمزية تفجرت عبر دهشة عالمية - حتى لو استثنينا منها حالة الفرح لدى الكثيرين - من طريقة الهروب الذكية المثيرة المبتكرة. دهشة سلطت ضوءا غامرا على وضع "أسرى" السجون الإسرائيلية من الفلسطينيين من حيث تشابه وضعهم تحت الاحتلال مع وضع أسرى جيش الاحتلال النازي.

البعد الثاني الرمزي لعملية الهروب يتسم بالثقل النفسي ويعمل بعمق كبير على هذا المستوى. وهو التأثير الذي تجسم كاملا في شخص مهندس عملية الهروب "زكريا الزبيدي" ابن مخيم جنين ومنظمة التحرير الفلسطينية، مهندس "الهروب الكبير" بسيرته النضالية المثيرة لخيال الشعراء والروائيين والسينمائيين، والمثيرة - بالأولى - لآمال الحالمين بالحرية والإخاء والعدل لكل شعوب الأرض وعلى رأسها الشعب الفلسطيني الأسير. "قط الشوارع" كما أطلق عليه الفلسطينيون خلال فترة من حياته هو ابن مناضل من مناضلي منظمة التحرير، توفت أمه وهو لايزال مراهقا برصاص الإسرائيليين، واحترف هو منذ تلك اللحظة الصادمة نضالا لا يهدأ ضد قوات الاحتلال، كافح بالحجر والمولوتوف والإطارات المشتعلة خلال الانتفاضة، وبالسلاح في عمليات ضد الجيش الإسرائيلي، وفي اشتباكات مسلحة مع المستوطنين خلال اعتدائهم على الفلسطينيين، قتل أعدادا من الطرفين وقضى السنوات الطوال من جراء ذلك بين جدران سجون الاحتلال، وفي فترات الهدوء النسبي في الأرض المحتلة كان "الزبيدي" يحترف النضال على طريقة "روبين هود" عن طريق سرقة سيارات المستوطنين (أو أنها التهمة التي ألصقتها به سلطات الاحتلال على الأقل). وهو فضلا عن ذلك معروف بتمرده الثوري على مسلك السياسيين من أبناء الفصائل وفي مقدمتهم سياسيي منظمة التحرير، ومعروف بكونه داعية صلبا من دعاة انتفاضة فلسطينية ثالثة.

نموذج "الزبيدي" مشحون إذن - بفضل واقعيته النضالية وتمرده الثوري - بكل سحر الخيال، تقترن بطولته بأطياف مغامرات الروايات الكلاسيكية العظيمة وتتلون بإيقاعات الأضواء الملونة المنعكسة من شاشات السينما الفضية. ورغم تلك الشحنة النضالية النموذجية عند الأسير الفلسطيني الهارب لكن الخطورة الرمزية في عملية الهروب التي كان عقلها المدبر تكمن في واقعة تفصيلية من سيرته، ذلك أنه قبل عام واحد يسبق اعتقاله الأخير قام بالتسجيل في برنامج الماجستير بجامعة "بيرزيت" الفلسطينية، وكان مقترح رسالته على هذا النحو الذي يبدو في عنوانها: "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968 - 2018". ومنه يتضح أن عملية الهروب لم تكن وليدة خبرة طويلة لمناضل متمرس ومقاتل صقلته خبرة الميدان فقط، ليست أيضا نتيجة ذكاء وجرأة بطوليين وحسب، لكنها عملية تنطبع بطابع الدراسة النظرية الاحترافية والخبرة العلمية المنهجية، وهي المسائل التي تمثل في واقع - كما في تاريخ الإسرائيليين - مصدرا أساسيا من مصادر فخرهم وتباهيهم.

أثبت "الهروب الكبير" عمليا إمكانيات نبوغ ذكاء وتفوق معرفة الأجيال الفلسطينية الجديدة على محتليها في كثير من النواحي، وأهمها نواحي قدرتهم على الاحتفاظ بقضيتهم حية وبنضالهم من أجلها باقيا.

----------------

بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان