18 - 04 - 2024

أيها التاريخ… ترفق

أيها التاريخ… ترفق

عجيب أمر منطقتنا…حقا عجيب…تعج الطبيعة فيها بالتنوع أما الفكر فيعك بالإقصاء…كل ما فيها منقسم مفتت ومبعثر…ومع هذا تغص بالحالمين بتوحيدها على قلب رجل واحد وفكر واحد وفرقة واحدة…فيها ملل ونحل…لغات وعادات…ثقافات ومعتقدات…بالعشرات بل والمئات…ومع ذلك لم يستوعب عقلها طبيعة جسمها…جسمها مليء بالألوان والوسوم والرسوم والوشوم …أما عقلها فما زال يصر على جمع كل ما فيها في حزمة وحيدة بلون واحد وفكر واحد…تسمع في جنباتها أبواقاً تصرخ…أنا الحق فاتبعوني…كل من لا يتفق معي في الرأي سيشقى…أنا النهضة ولا نهضة غيري…انا جبهة الانقاذ الوحيدة فانضموا لها… أما أنتم البعيدين عن نهجي فستهلكون لا محالة...أنا حزب الله وغيري أحزاب إبليس... …انا الناطق الشرعي الوحيد بلسان الوطنية والباقي خونة…أنا صاحب الحق الحصري في البث والحث...ليس لأحد حق سواي...أنا العادل والباقي ظلمة…أنا من يفهم القرآن وأنتم لا تفهموه…أنا الناجي فلا تكونوا مع الضآلين.

في بيئة كهذه، لم يكن غريبا في تاريخ الفكر والممارسة الدينية ان انتشر حديث الفرقة الناجية وأن استعرت حروب الفرق الناجية بين بعضها…حديث استعملته كل فرقة اسلامية لتجريح وتكفير ما عداها من فرق…وليست الفرقة الناجية في تاريخ هذه المنطقة الا المقابل الديني للدولة الناجية في السياسة والطبقة الناجية في الاقتصاد والنادي الناجي في الرياضة والمدرسة الناجية في التعليم والمستشفى الناجي في العلاج ومحطة التلفزة الناجية في الاعلام…إنها منطقة مهووسة لأاقصى حد بالإقصاء والاستبعاد والاستعباد…أهلها مندفعون في البحث عن نقاء متوهم وتطهر متخيل…منطقة غالبية من فيها يعتقد في أحادية الحل وليس في تعدد الحلول…في الشخص الواحد وليس في مجموع الأشخاص…في رساليته المطلقة وليس في حقيقته النسبية…في البطل وليس في الجمهور…منطقة عصية وعنيدة لنفسها وللعلم والعالم…لا أعرف ان كان القهر هو من جعلها كذلك أم أنها من اخترعته…لا يفرق لأن المحصلة واحدة والخلاصة مفجعة…إنها منطقة تسامحت مع القهر مدى الدهر…صادقته وصادقها…قررا ان يعيشا معا فقهيا واجتماعيا ودينيا وسياسيا واقتصاديا…

منطقة كهذه لا يشك أحدٍ في أن مشكلتها عظيمة...وأن مصيبتها في الرأس…في العقل…في صندوق العظم الذي يحمله سكانها فوق أكتافهم……صندوق ليست فيه صورا جميلة عن الآخر…كل ما فيه صورةً وحيدة عن بطولة الذات وعبقرية الذات وطهارة الذات…صندوق مشبع بالشك في الغير وتحقيره وتكفيره وتسخيره…ليست فيه مساحة الا لبطولاتي أنا ولغتي أنا وعقيدتي أنا وتفسيراتي أنا وفرقتي أنا…إنه صندوق يعيش حلم الفرقة الناجية بلا انقطاع.

 أمام ذلك تتكشف منطقتنا...منطقة عصية على الإصلاح…الأمل في اصلاحها بات في يد الصدفة…منعقد على وقوع طفرة فجائية…فهل ستحدثين يوما أيتها الطفرة الغائبة؟…ننتظرك لتنقلي هذه الجغرافيا المتزمتة بعيدا عن عشقها اللاهي العقيم لفكرة النظرية الناجية والفرقة الناجية والايديولوجية النقية الى بحث خلاق عن كل ما يفيد من رأي وفكر…طفرة ترشد أهلها الى أن كل ما يرون أو يسمعون ليس (الـــ) رأي، بل مجرد رأي واحد لا غير من سلسلة طويلة من الآراء….أراء لا يملك أياً منها سوى جزءاً من الحقيقة، أو للدقة، جزءاً من الحق في إدعاء الحقيقة…طفرة تعرّف أهلها ان النجاة ليست في فكرة واحدة وانما في التفكير المستمر…وأن الآراء ليست لها قداسة أو استثنائية أو طاقة أسطورية لأنها من انتاج عقول البشر…إنها حقا منطقة معاندة…لم تبعد عن النجاة إلا لأنها تعج بفرق تزعم أنها الناجية….أيها التاريخ…ترفق بنا…تحنن…عجّل بطفرتك…اقطع بنا عن كل ما فات…دلنا على نقطة مفاصلة مع الماضي... خلصنا من أدعياء النجاة الذين اغرقونا…اتركنا وارحل…كفى.

--------------------------

بقلم: د. إبراهيم عرفات


مقالات اخرى للكاتب

أيها التاريخ… ترفق





اعلان