26 - 04 - 2024

ورطة جيش الحلول

ورطة جيش الحلول

أي جيش يحتل أرضا غريبة يجد نفسه في ورطة كبرى. وما لم تكن هذه الأرض خالية من السكان يكون هذا الجيش قد وضع نفسه في متاهة كاملة الإغلاق وبالغة التعقيد. 

لم تكن ورطة الجيش الأمريكي في أفغانستان هي الأولى أو الثانية أو الألف من هذه الجهة. الجيش الإنجليزي عندما احتل مصر في سنة 1882 وجد نفسه في نفس الورطة وداخل نفس المتاهة مع اختلاف كامل طبعا في السياق والوقائع والتفاصيل. 

كان هدف الإنجليز من احتلال مصر هو تأمين خط المواصلات إلى الهند في سياق منافسات الدول الاستعمارية على خطوط وشبكات التجارة والمواصلات، وكانت حجة الاحتلال الحاضرة في ذلك الوقت هي حماية المصالح الإنجليزية والأوروبية في مصر، وعلى رأس ذلك حماية أموال الدائنين لحكومة الخديوي إسماعيل، تلك الديون بلغت بمقاييس وقتها المالية 126 مليونا و354 ألفا و360 جنيها مصريا، يعني مبلغ مهول ولا يصدق بمعايير تلك الآونة موزع ما بين ديون حكومية خارجية وداخلية وديون سائرة، وهي الديون الشخصية للخديوي بضمان أرض الدائرة السنية (أي أملاك الخديوي نفسه). والسؤال كان وقتها كيف يمكن للإدارة والجيش الانجليزين رد تلك الديون الضخمة؟!. 

أول قرار اتخذته الإدارة الإنجليزية في مصر وقتها، ولابد أن يذكرك بقرار إدارة "بول برايمر" الحاكم الأمريكي زمن احتلال العراق 2003 كان حل الجيش المصري..!!. لماذا؟! لأن الجيش المصري ساند ثورة عرابي سنة 1882 واعتبره البريطانيون لذلك جيشا معاديا للأجانب الأوروبيين في مصر ومسئولا عن (مذبحة) الاسكندرية ضدهم (رغم أن الإنجليز أنفسهم لا عرابي ولا الجيش هم المسئولين)، كما عدّه الخديوي توفيق والباب العالي العثماني في اسطنبول معاديا لسلطتهم بالطبع. 

لكن الأهم هنا كان توفير نفقات الجيش كباب هام من الأبواب التي رأت الإدارة الإنجليزية إغلاقها في ميزانية الحكومة المصرية للصرف منها على سداد الديون!. وبإيعاز بريطاني أصدر الخديوي توفيق مرسوما بإلغاء الجيش المصري وتسريح جنوده وضباطه. وبناء عليه قام الجيش الإنجليزي باختيار جنود مصريين جدد - وقلائل طبعا - من بين الأهالي، وأتم تدريبهم بسرعة واستلم الرئاسة عليهم ضباطهم الشراكسة البارعون (!!) حسب ما كان عليه الحال الذي ثار عليه العرابيون، وأثنت الصحف الإنجليزية على هذا النجاح العظيم بما فيه من سرعة الآداء وحسن النظام وتمام الانضباط!. 

لم يكن المصريون في ذلك الوقت يملكون صحافة وطنية خارجة عن سيطرة القصر وقبضة الاحتلال باستثناء صحيفة واحدة يصدرها الأستاذ الإمام "محمد عبده" - بمشاركة "جمال الدين الأفغاني" - من منفاه في باريس وهي صحيفة "العروة الوثقى". 

كان "محمد عبده" ينعي على الجيش الإنجليزي وسياسة الاحتلال تخبطهما في شأن الجيش المصري في مقالات نارية، ولم تكن كلمة جيش الاحتلال قد عُرفت في ذلك الوقت، وكان الأستاذ الإمام يسمي الجيش الإنجليزي في مصر "جيش الحلول"، وتندر على تخبطه أمام الجيش المصري عندما قام الإنجليز أنفسهم بعد أشهر قلائل بطرد الجنود الجدد المدربين الذين أثنوا عليهم، بناء على تقرير لجنة جرى تشكيلها برئاسة اللورد "جرانفيل" وزير خارجية بريطانيا، واللورد رأى في تقريره أن مصر ليست في حاجة إلى جيش كبير للدفاع عنها - وهي نكتة استعمارية طبعا - وأن مهام الجيش المصري يجب أن تنحصر في إقرار الأمن والنظام داخل البلاد وألا يتجاوز عدد جنوده الستة آلاف!. 

لذلك جرى تسريح الجيش القديم الجديد واستأنف الجيش الإنجليزي مهمته في بناء جيش مصري آخر ويكون بالطبع "محندق" على المزاج الجرانفيلي!. إنما السؤال هو: هل نجح الجيش الإنجليزي في مهمته؟. 

الإجابة التاريخية حصلنا عليها بتاريخ 23 يوليو 1952، عندما قام الجيش المصري بإجلاء الاحتلال الانجليزي من مصر، وإن حدث ذلك بعد سبعين عاما وفي أعقاب نضال طويل للمصريين تغيّرت خلاله طبيعة الجيش أو أنه استرد طبيعته العرابية الأولى على خلفية ثورة 1919 الوطنية ونضالاتها. لم يعد الجيش المصري جيشا محندقا ومهندسا على المزاج الاحتلالي كما أراد الإنجليز، وإنما جيش وطني قوامه ضباط وجنود يفتدون مستقبل بلادهم ويفتشون عن طريق خلاصها نحو الاستقلال. 

هذا التخبط التاريخي للإنجليز مع الجيش المصري لابد أن يذّكر بتخبط الجيش الأمريكي في بناء الجيش الأفغاني الذي انهار قبل أيام من خروج الاحتلال الأمريكي ولم ينتظر على الأقل خروجهم، والفارق بين تجربة الجيش المصري (ولك أن تضم إليه الجيش العراقي بالطبع) والجيش الأفغاني ظاهر غاية الظهور، فالجيش الإنجليزي في مصر (والأمريكي في العراق) وجد نفسه أمام شعب بالمعنى الحقيقي أو الحديث، ليس أمام مجموعة من القبائل المفككة كما هو الحال في أفغانستان. ورغم البراعة التي يمكن أن نلمسها في موازنة سلوك الاحتلال ما بين الجيش الإنجليزي قديما والجيش الأمريكي حديثا، وهي لصالح الجيش الإنجليزي خصوصا لو أخذنا تجربته الاحتلالية للهند في الاعتبار، لكن يبقى مع ذلك تخبط "جيش الحلول" واحدا في كل الاحتلالات.
--------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان