25 - 04 - 2024

للقادمين الجدد إلى عالم السياسة

للقادمين الجدد إلى عالم السياسة

تريد أن تفوز بالانتخابات؟ تتطلع لأن تصبح مشرعاً؟ تراودك رغبة في الوزارة؟ تتمنى أن يصادفك حسن الطالع وتتبوأ منصباً تنفيذياً مرموقاً؟ تسعى لدخول عالم السياسة؟ كل هذا من حقك. لكن من واجبك أن تعرف أنه عالم صعب ومليء بالتحديات. عالم قادر على أن ينقلب عليك مهما حسنت نواياك عنه. عالم وعر مهما احتطت له ومنه وفيه.  يستطيع أن يلدغك في أي وقت، أو يجرفك إلى رذائل الفساد والتلف، أو يلقي بك في بحر من الظلمات. عالم احتمال كراهية الناس لمن فيه أكبر بكثير من احتمال حبهم لهم. ألم يقل الشاعر: "إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل"؟ 

لكن سنن الحياة لا تتوقف. فكل بضعة أعوام تنفتح الأبواب لتدخل إليه وجوه جديدة تخوض تجربة تقديم خدماتها إلى الناس. عالم يحتاج إلى ضخ دماء جديدة واستقبال قادمين لأول مرة يتولون مواقعاً سياسية إما بالتعيين أو بالانتخاب. ولا بد من قول مرحباً لكل القادمين الجدد إلى هذا العالم. فهذا حقهم. لكن من واجبهم أن يتدبروا في طبيعة المجال الجديد الذي سيدخلونه. وفيما يلي عشرة برقيات تلغرافية قد تساعدهم على الدخول الآمن إلى والبقاء الآمن في والخروج الآمن من هذا العالم المحفوف بالمخاطر.

البرقية الأولى: احرص على الوصول الآمن safe access. صمم على أن يكون دخولك من الباب الشريف. بلا تزوير. بلا رشاوي. بلا واسطة. لا تقترب من هذا العالم دون مقومات النجاح واكتساب حب الناس عن جدارة. فالوصول الخاطئ أو الدخول عبر طرق ملتوية لن يكون إلا مقدمة للوقوع في أزمات. الوصول الآمن إلى أي منصب سياسي هو الضامن الأول للنزاهة وحسن السمعة والسيرة.

البرقية الثانية: لا تنس الشرعية legitimacy. وصولك الآمن ليس نهاية المطاف. فبعد أن تصل ستكون في اختبار مفتوح أمام الناس. قبولهم بوصولك لا يكفي للاطمئنان. رضاءهم عنك هو الأهم لكي تواصل البقاء. ولا تنخدع. لا تصدق كلمات الناس المعسولة لك أو عنك. فالناس تخشى من في السلطة أو من هم قريبين منها. تابع نبض الناس. أشعر بما في وجدانهم. تلك هي الشرعية الحقيقية. الشرعية لا تقاس بالكلمات وإنما بالمشاعر والأحاسيس. الشرعية هي اقتناع الناس بك. هي إحساس الناس بأن ما تقوم به يعبر عنهم. اعتقادهم في أن كل قانون وضعت تصديقك عليه يمثلهم. أن كل موقف عبرت عن رأيك فيه يعكس تطلعاتهم. اعلم أن كثيرين دخلوا عالم السياسة وهم مستوفون لكل متطلبات القانون. لكنهم برغم ذلك لا يتمتعون بأي شرعية. شرعيتك ليست ورقة عليها أختام. شرعيتك هي المعاني الحسنة المستقرة عنك في ضمائر وقلوب الناس.

البرقية الثالثة: تحرر من عقلية الغنيمة spoil mentality. لا تنس أن السياسة مسؤولة عن توزيع الموارد وتخصيص المنافع. والموارد دائماً ما تغري الرجال وتسيل اللعاب. عليك ألا تعتبرها غنائم أتت إليك. إنها موارد للناس، لكل الناس. اعلم أن موارد السياسة ليست للمزاحمة والمقاسمة والنفع الشخصي. وتذكر أن التاريخ حفل بأسماء حول العالم دخلت السياسة بعقلية الغنيمة وخرجت منها بذكريات أليمة. أسماء كسبت المال لكنها فقدت الشرعية. 

البرقية الرابعة: احتفظ بتوازنك النخبوي elite equilibrium فبمجرد دخولك عالم السلطة ستكون صاحب موقع رسمي. سيذكر أنك عضو في نخبة الحكم. ونخب الحكم ليست موحدة في كل شيء أو متفقة على كل شيء. نخب الحكم تضم بطبيعتها قطاعات وأراء وأفكار ووجهات نظر وتصورات مختلفة عن كل شيء من المبادئ إلى المصالح. تذكر أنك ستقف وسط هذه المعمعة وفي قلب ذلك التنوع. وعليك في هذه الأجواء أن تقوم بواجبك ليس فقط نحو الناس بل ونحو النخبة التي انضممت إليها وواجبك أن تحافظ على فعاليتها وتوازنها حتى تؤدي وظيفتها العامة. فلا تنحاز بدون مبدأ أو اقتناع لفصيل إلا لأنه يخدم المصلحة العامة. وتذكر أن التاريخ يحاسب كل قادم إلى السياسة بمعيار وحيد: أين يقف قياساً بزملائه في النخبة حيال المصلحة العامة.

البرقية الخامسة: اهتم بصناعة صورتك العامة public image building. فأنت وجه جديد لا يعلم الناس ما يكفي عنه. سيمهلونك وقتاً حتى يعرفوك. سيتابعون ما تقوله وكيف تقوله ولماذا تقوله. هل تجيد الحديث؟ هل أنت واثقاً في نفسك صادقاً أمام وسائل الإعلام؟ هل تناقض أفعالك أقوالك أم تتسق معها؟ صحيح أن جزءاً من صورتك العامة سيكون مصنعاً بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي باتت تشتري وتبيع في وعي الناس. لكن عليك أن تعلم أن الناس ليست ساذجة. أن تعرف أنهم يكونون صورتك العامة بأنفسهم بعيداً عن أي حملة إعلانية أو دعاية تقوم بها لمصلحتك شركات أو قنوات أو مواقع أو مغردين. باختصار، سمعتك بين يديك وعلى ألسنة الناس.

البرقية السادسة: احسب حساب التوقعات المتزايدة increasing expectations.  فأنت جديد والناس تأمل كثيراً في كل جديد. يتمنون أن يحقق لهم القادمون ما عجزت عن تحقيقه الوجوه القديمة. سيطلبون منك كل شيء. فلا تعدهم إلا بما تستطيع. بما تعرف عنه لا بما تجهله. بما تقدر عليه وليس بما تتمناه. أما لو تركت الناس يزيدون توقعاتهم فيك فستكون غالباً أول ضحايا لتمنياتهم. سيمنحونك شهر عسل ثم يحاسبونك عن كل كلمة قلتها وكل وعد قطعته. فلا تعد إلا بما تستطع.

البرقية السابعة: احذر من الكنس السياسي political mopping up . فالحياة السياسية التي ستدخلها ستجد فيها بقايا ومخلفات يجب تنظيف المسرح منها بين فينة وأخرى. وتلك عملية خطيرة لأنها تؤذي مصالح وتتحدى مراكز وتهدد قوى لا تحب أن تتغير الطريقة التي تجري بها الأمور. اعلم أن توقيت الكنس مهم. وتحديد ما يجب أن يُكنس وكيف يكنس في غاية الأهمية أيضاً. واعلم بالمثل أن الطموح الجارف مهلكة مثلما أن الانصياع التام مذمة. فلا تجعل طموحك أمام المتمترسين يفنيك ولا الوجل منهم يحيلك إلى تابع لهم. 

البرقية الثامنة: اهتم بقبولك المؤسسي institutional acceptance. لا تنس وأنت تسعى لنيل رضاء عامة الناس أن تضمن كذلك قبول المؤسسات المركزية بك لأن عملك سيكون معها ووسطها ومن خلالها. قبولها بك سيسهل لك النجاح. ولن يكون الأمر سهلاً لكنه ليس بالمستحيل. قد تستنزف بعض المؤسسات طاقتك وتهلك وقتك وتحرق أعصابك. فكن صبوراً. تقبلها لتتقبلك وقابلها دائماً في المساحة الآمنة التي يملأها القانون ويراقبها الناس.

البرقية التاسعة: لا تنس أبداً أنك ستدخل يوماً أرشيف النصوص textual archive. فأنت كمن سبقك ستكون منذ أول يوم لك في عالم السياسة قصة قيد الكتابة. سيسجل اسمك في ملفات ووثائق ونصوص تُحفظ في أرشيف وذاكرة الوطن. أيها السياسي الجديد اعلم أنك ماض مؤجل إلى المستقبل. كل ما ستتقدم به من مقترحات وكل ما توقع عليه من أوراق وكل مقابلة تقوم بها وكل قرار تشارك فيه ستتحول إلى وثائق تحدد مكانتك في التاريخ. فاهتم بما تكتب وما تصدره من قوانين أو تضعه من سياسات. تذكر أن النصوص التي سيظهر فيها اسمك ستبقى من بعدك. إما لتدافع عنك أو لتدينك.

البرقية العاشرة: لا تغب عن أجواء المطارحات السياسية political discourse. لا تتجاهل الجدل العام ولا النقاش المجتمعي مهما احتدم، بل كن جزءاً منه لتضمن أمانك. لكن لا تخض فيه إذا كان عبثيا عقيما. واعلم أن السياسة تصور قبل أن تكون تصرفا. وأنها فكرة قبل أن تكون حركة. وأراء قبل أن تكون سياسات. هي كلام وجدل قبل أن تكون نتائج وعملا. لهذا فإن خوض غمار النقاش العام فيها بشجاعة وحكمة فرض عين. عليك أن تخوض فيه من أجل الوطن وليس لفصيل فيه. للناس وليس ضد الناس. لا بد وأن يشعر الناس بوجودك في الحيز الفكري العام دون لغو وأن يدركوا أن كلماتك تصنع فارقاً وأن لها وزناً وقيمة. 

إلى كل قادم جديد إلى عالم السياسة. حظا سعيدا. ستدخل دنيا مليئة بالوعود والقيود. محفوفة بالأماني والمخاطر. وتلك البرقيات العشرة ليست وصفة مضمونة للسلامة والنجاح وإنما مجرد تذكير ببديهيات. والبديهيات بكل أسف أول ما ينسى وأصعب ما يقتنع به الناس. ولعل تلك البرقيات تلفت انتباهك إلى طبيعة عالم السياسة وخصائصه ووظائفه ومشكلاته. ستطأ اقدامك أرضاً جديدة عليك أن تعيش كل ما فيها من تجارب. فمرحباً بالقادمين ولعلكم تكونوا من الموفقين.  
------------------------
 بقلم: د. إبراهيم عـرفات
 
أستاذ العلوم السياسية بجامعتي قطر والقاهرة

 

مقالات اخرى للكاتب

أيها التاريخ… ترفق





اعلان