20 - 04 - 2024

العنف كحقيقة لا تدركها الصفوف الخلفية

العنف كحقيقة لا تدركها الصفوف الخلفية

في كتابه "سندباد إلى الغرب" يحكي السندباد المصري "حسين فوزي" عن صاحبه الإنجليزي "مكفرسون"، هو جندي من جنود الامبراطورية البريطانية في سنواتها الأخيرة، حين أصبحت امبراطورية في طور المحاق تغرب عنها الشمس. "مكفرسون" هو الجندي الذي خاض غمار الحرب الأولى العالمية المهولة وحصل على وسام الشجاعة فيها، والقائد الذي خدم في صفوف الجيش البريطاني في غمار الانتفاضات الجماهيرية الكاسحة لثورة 1919 أيضا.

يسخر "مكفرسون" في حديثه للسندباد من كل أدبيات البطولة الحربية ويصمها بالهجص والشنشنة: "فالحرب لا يتعدى وصفها ما أقوله لك: أنت في الحرب تحيا باحثا عن ركن تنام فيه، ولقمة تتبلع بها، وتهتم بالدفاع عن جيفتك..". رأى جندي الامبراطورية كيف تنصهر كل مثاليات القتال الدينية والدنيوية، وسائر أناشيد الاستبسال في أتون الحرب المحرقة إلى "طبل وزمر": "لم تكن كتائبنا في الميدان الغربي أكثر شجاعة من قطعان الغنم يسوقها الجزار إلى السلخانة"، ورأى كل تصور رومانسي عن الحرب يخالف حقيقتها الوحشية التي تتجلى ببشاعة في لحظة الخطر كذبة ومهزلة: "الحرب التي شهدتها غير ما تقرأ عن الحروب. كنا نتقدم إلى الأمام عقب صدور أوامر الهجوم لأننا لا نملك النكوص، حتى ولا البقاء في خنادقنا، فالمجلس العسكري وطابور الإعدام خلفنا، وأمامنا الأمل كبير في الحياة رغم كل شيء".

لكن المدهش قبل كل شيء هو أن "مكفرسون" كان في تجنيده متطوعا قدم نفسه للقتال ولم يستدعه أحد إليه، ومن المؤكد إذن أنه في نظر الناس جميعا من أبطال الحرب، غير أن سخريته من أوهام الحروب وبطولتها الكاذبة المدعاة تتجسم في شخصية "آنتي لوسي"، تلك العانس التي لم تستمتع بمجابهة عاطفة الحب الثائرة، ولم تصهرها أذرع العشاق، فصارت لا تحلم إلا باستثارة الجوانب العنيفة من الحياة، وبدلا من أن تتحسر على نصيبها الضائع من حب الحياة، تحوّل غرامها المكبوت إلى انفعال يدور حول فرص الآخرين في الموت، وتظهر بكاءها على عذريتها المزمنة كما لو كان مثالية متشنجة وبكاء مرّا على الشباب الذين يحصدهم الموت: "لا قيمة لتطوعنا، فإنك تجد من الصعب عليك في زمن الحرب أن تتخلف عن جيش بلادك.. فكل يسعى خلف الصفوف لجعل حياتك مريرة ما دمت في شبابك وتستطيع كفاحا، وأشد من يدفعك إلى التطوع أمثال آنتي لوسي من النساء، وأمثالك من الشبان الخياليين قراء الكتب، ومن الرجال من اطمأنوا إلى حماية شيخوختهم من خوض غمار الحرب".

ولعل كلمة "خلف الصفوف" تكون كلمة السر الرئيسية في تفسير المحور الذي تدور عليه أفكار "مكفرسون"، فليس من خاض تجربة الحرب المرّة كمن يتحدث عنها أو يحلم بها في كتاب أو نشيد يقرأه في جلسة مسترخية، ليس من يتقدم الصفوف ليعاني ويعرف كمن يبقى في الخلفية يحرّض ويشنشن. وهو نفس ما شعر به القائد "مكفرسون" عندما صدر له أمر بمواجهة بحر متلاطم من جماهير 1919 الثورية المتحمسة في مصر. "مكفرسون" مع فرقته المكونة من خمسين جنديا وبطارية من "المترليوز" في ميدان الأزهر، أوامره كانت تفيد بأن يلزم موقعه لا يعترض تدفق الجمهور وتجمعه وتظاهره وصخبه في الميدان، لكن الأمر كان صريحا بإطلاق النار لو حاولت المظاهرة أن تتقدم. يشهد القائد الإنجليزي للمصريين بالشجاعة فهم لم يرهبوا منظر جنود الامبراطورية المدججين: "لكني هنا - أعترف لك - شعرت بضعف نفساني غريب عراني في تلك اللحظة، أنا السفاح كما تنعتني، فقد كنت أرجو في قرارة نفسي أن يكون مواطنوك أقل شجاعة". ثم يصل "مكفرسون" إلى بيت القصيد في وصف اللحظة الخطرة، وصفه المشترك للثورة والحرب معا: "نظري لا يفتر يرقب الصفوف الأمامية التي تواجهنا وترقبنا وكأنها ترقب نفسها حتى لا تتقدم. لذا وجدت في هذه الصفوف الأمامية سببا للطمأنينة. أما منظر الصفوف الخلفية فلم يكن ينذر بخير. ماذا يحدث لو أن هؤلاء المجانين الخلفيين دفعوا بالصفوف الأمامية نحو أفواه بنادقي؟".

شجاعة المصريين العزل في مجابهة جيش الإمبراطورية التي خرجت من الحرب الأولى منتصرة في سنة 1919 المجيدة أتى بنتائج مجيدة أيضا وإن لم تكن استقلالا تاما، لأن الأمر كان كما وصفه "مكفرسون": "إننا نهاجم ونمعن في التقتيل لا يدافع البسالة والبطولة، بل لأننا ندافع عن رممنا وحدها، أما حين يطلب إلينا أن نوقف مظاهرة المتهوسين ونحن واثقون من أن نصليهم نارا حامية دون أن تتعرض رمتنا لسوء، فإن روحنا تطلب السلام وترجو أن يعود المجانين عقلاء". لم يكن جندي الامبراطورية سواء في الحرب أو في مجابهة ثورة المصريين يدافع عن وطن أو قضية، لكنه كان يدافع فقط عن جسده ويرجو السلامة: "الرعاع الذين كانوا أمامي في تلك المظاهرة لم يكونوا بريطانيين حتى استطيع استقراء معاني وجوههم، هي كتلة آدمية غير متبلورة لا أفهم من نفسيتها شيئا، ولكني فهمت كثيرا منذ ذلك اليوم عن الحرب وروح الحرب وما يدعونه البسالة والبطولة، وأكرر لك أننا لم نفعل أكثر من الدفاع عن جيفتنا".

كلمات "مكفرسون" تعني أن روح الثورة المصرية الوثابة سنة 1919 هزمت روح الجندية الامبراطورية المكتهلة الشائخة، لكن تجنب هذا الصدام العنيف وتكلفته المرهقة نفسيا وإنسانيا من الدماء والأرواح، هو ما جعل لما استفاده المهاتما "غاندي" من تجربة ثورة 19 أهمية تاريخية وإنسانية كبرى. فقد وضع المهاتما عبر دعوته السلمية لمواجهة جيوش الاحتلال، وعبر نضاله السلبي (اللاعنفي) ضد الوجود البريطاني في الهند، في موقع أفضل المستفيدين من تجربة ثورة المصريين العظيمة.
------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان