أتذكر حكايات وآراء الشاعر والكاتب الصحفى الكبير. الصديق الرائع أحمد إسماعيل، أحد أهم أبناء جيله وأكثرهم موهبة وأحد "منتسبي اليسارالنظيف". أتأمل ألآن أحاديثه عندما كان يفسر لي كثير من الأشياء الغامضة والتصرفات الملغزة للبعض حيث كان الراحل صديقا حميما لكبار للكبار سنا ومقاما رغم صغر سنه: محمد عودة. هيكل. شريف حتاتة. محمد سيد أحمد. لطفي الخولي. مكرم محمد أحمد. وأخرين من رموز الوطن. رأيت كراهيته للأبنودي بعيني ورفضه مصافحته. نتيجة حب أحمد لأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وحكايات أخرى... نفسنته على البهي حلمى سالم. إفتنانه بالنساء الجميلات. أناقته المفرطة. لو ذهبنا إلى صحراء الواحات سنجد أصدقاء له. كان كاتب اليوميات الأمهر فى الصحافة المصرية. كنا ننتظر مقاله "بجريدة الأهالى" صباح الاربعاء، أيام مجدها الغابر ونعاين أسماء محترمة أخرى حينها ونقرأ لهم باهتمام.
كان يتصل بى فور وصوله الجريدة أيام التليفون الأرضى.
- بتعمل إيه؟
أعرف هدفه.
- ولا حاجة!
- طيب. تعال اتبناني النهاردة.
كان قد كف بصره فى سنواته الأخيرة نتيجة تعاطيه خمر مغشوشة فى أحد بارات وسط البلد. لم تنجح كل المحاولات لإنقاذ نور عينيه، سافر الى المانيا للعلاج أيضا، وعاد ضوء بسيط جدا؛ كنت أقول له لماذا لا ترفع قضية على البار و كان يرد جادا:
- لما البار يتقفل الغلابة يسكروا فين؟
- منطق برضه.
اقول ضاحكا.
أذهب إليه، على مكتبه كل الجرايد، لديه كتب لاحصر لها، مهداة إليه للكتابة عنها. رغم حالته، كان يفعل ذلك بمحبة. نجلس قليلا. ثم نبدأ يوما كاملا مبهجا. مشي. مقهى. سندونشين. شاى. قهوة. وأحاديث ساحرة. هو حكاء لايبارى . تجربة السجن فى السبعينيات وهو مازال طالبا فى الجامعة. حكاياته عن شكرى مصطفى زعيم التكفير والهجرة.صداقته له وهو الماركسي العتيد. الضرب الموحش الذى ترك في رأس أحمد علامات دامية. حضور كل معتقلى سبتمبر1981 - خطيئة السادات القاتلة- وهو مازال سجينا وقتها. فؤاد باشا سراج الدين. ميلاد حنا. هيكل. محمد عودة. 1500 شخصية من كل التيارات السياسية. أيضا مجموعة الأنتلجنسيا المصرية- وحشتنى الكلمة دي- ربما كان أقرب المصادر دقة للتأريخ لكثير من حياتنا، واكثر المصادر مبالغة وسخرية عندما يريد النيل من أحد عن طريق الشر الجميل غير المؤذي. يحدثنى عن سعدى يوسف وأدونيس والبياتى و درويش وكل شعراء وكتاب الصحف العر بية الكبرى كصديق مقرب لهم؛ وكنت أعرف ذلك جيدا. رأيته فى احتفاليات كثيرة و رأيت محبة المبدعين العرب له.
مرة سألته إحداهن عن رأيه فى شاعر طليعى تقدمى كبيرجدا. زميل له فى الجريدة ورفيق في التجمع.
- ده موظف شاطر عندنا فى الحزب.
- كنت فاكراه شاعر.
- لا أبدا.
- حرام عليك، دمرت الرجل. اقول.
سألته مرة. لماذا لا يريد الكتابة عن رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسوانى، أيام رواجها المذهل، وغير المسبوق فى تاريخ الرواية العربية: إنت الوحيد فى مصر الذى لم يكتب عنها. كنت استشعر رغبة علاء لكتابته تحديدا.
رد على:
- طوب الارض كتب عنها.
هذه المقولة نقلها شخص ابن حلال لعلاء، فتسببت فى غصة مريرة له. وعلاقة فاترة باسماعيل حتى وفاته.
كنت أندهش؛ كيف كان ينشيء مقالة كاملة فى رأسه ثم يمليها على أحدهم، وكيف كان يبني القصيدة، بيتا بعد بيت، فى عالمه الداخلي لعدة ايام، ثم يطلقها من عقالها مكتملة، متأسيا بالعظيم بورخيس الذى أجبره العمى المبكر على هذه الحيل.
أندهش أكثر، كيف لا يكون من كتاب الأهرام بعدما انفتحت على كتاب الصحف الأخرى.
رغم أنى شاهدت فاروق حسنى يهاتفه أكثر من مرة، لكنها مصر التى تفرط فى الألماس من اجل الاحتفاظ بالصفيح.
-------------------------
بقلم: صابر رشدي