19 - 04 - 2024

شهر عسل مع مومياء (1-2)

شهر عسل مع مومياء (1-2)

كان شهر سبتمبر يلفظ أيامه الأخيرة من العام ١٩٩٣ عندما وصلت مع زوجتي لقضاء ما ظنناه "شهر عسل" في تلك البقعة الساحرة التي تحمل اسما تستحقه عجيبة، وهي عجيبة  بسحرها. 

في ذلك الوقت من العام يكون غالبية المصطافين وما أقلهم في تلك البقعة قد عادوا إلى محافظاتهم، وهو ما جعل عجيبة تبدو كشاطيء خاص. في اليوم الثاني من وصولنا وقبيل غروب الشمس ذهبت للتريض علي الشاطيء ويبدو أن افكاري استغرقتني فابتعدت عن الشاليه الذي كنا نقيم فيه. فجأة،  تعثرت قدمي فيما بدا حفرة واسعة حمدت الله أني لم أقع بها. 

الحفرة بدت غريبة الشكل وخاصة أنه في عتمة ما قبل إختفاء الشمس بدا لي درجتين في أعلى الحفرة. لم يستغرق الأمر دقائق قبل أن أقرر العودة إلى الشاليه وان أعود إلي الحفرة محضرا كشاف ضوء قوي. بتسليط الضوء علي الحفرة إتضح صدق ما لمحته عيناي في عتمة ما قبل الظلام، فقد كان درجا. بحذر شديد نزلت الدرج فوجدت نفسي أقف في غرفة واسعة وقد كست جدرانها كتابات تصويرية ملونة بديعة الشكل. أما الجدران فبين كل مسافة وأخرى كانت توجد فتحات يرقد في كل منها مومياء، في حين تجمعت في أركان الغرفة أوان فخارية ذات أشكال مختلفة.

كانت الأسئلة تطن في ذهني وأنا افحص محتويات المقبرة التي جمعت ستة مومياءات من عينة: ما هذا المكان؟ ولأي عصر يعود؟ وكيف تم فتحه وتركه لفترة طويلة حيث كان ذلك واضحا من اللون الأخضر علي أرضية المقبرة بسبب مد البحر خلال شتاءات متعاقبة ليغرق أرضية المقبرة؟ وكيف يترك مثل هذا المكان بهذا الشكل من دون حراسة أو سياج ؟ 

لم يكن هناك ما يمكن عمله سوي أن أعاود سيري للشاليه وان أعود للمنطقة التي توجد بها المقبرة صباح اليوم التالي لمزيد من الاستكشاف علِّي أجد اجابات علي بعض الأسئلة التي غمضت إجابتها. 

في الصباح الباكر، حملت كاميرا فيديو وأخرى فوتوغرافيا وكشاف ضوء وذهبت إلى المنطقة مترامية الأطراف. بعد ساعات طويلة، وصل عدد تلك المقابر المفتوحة إلى ستة عشر مقبرة وكان هناك المزيد ولكني كنت انهكت فتوقفت. 

ذهبت إلى الحارس البدوي الذي يحرس الشاليه الذي نزلت به فكان رده: هذه إثارات...

- ياسلام...طب مانا عارف. المهم ما هي قصتها؟

- ابدا منذ خمس سنوات جاءت جرارات ومعدات للحفر والبناء لإنشاء مجموعة شاليهات وأثناء الحفر لوضع الأساسات هبطت عجلة أحد الحفارات في حفرة وبفحصها تبين أنها مدخل لمقبرة. بعد ذلك تم استدعاء رجال " الاثارات" من مصر - يقصد القاهرة - وبداوا يحفروا حتي وجدوا أكثر من عشرين مقبرة وبعد أيام أخذوا بعض الأشياء وغادروا وتركوا المقابر مفتوحة أمام البحر يغرقها المد في الشتاء ويزورها بعض سائقي اتوبيسات الشركات السياحة حاملين معهم "السواح" من وقت لاخر للفرجة وأخذ بعض المحتويات.

كنت استمع للحارس البدوي وأنا لا أصدق ما أسمعه. خمس سنوات مرت منذ هذا الكشف ويترك هكذا؟ 

بالطبع، نسيت أيام العسل والعروس وقررت أن اتجه إلى مدينة مطروح كي أحاول العثور علي إجابات علي تلك الاحاجي، وهو ما قادني إلى الكشف عن قضية فساد لا يقدم علي ارتكابها سوي أناس ليسوا فقط خونة، وإنما وقحين في خيانتهم لوطن مفترض أنه كان في " أمانتهم".

ووضعت ضابط جيش كليوباترا في حقيبة سفري

كان فيصل أثريا شابا متحمسا ويعمل في تفتيش آثار مطروح. عندما طرحت عليه سؤالا حول ما السر من وراء تلك المقابر المفتوحة في عجيبة يخربها مد بحر الشتاء ومتروكة من دون أي حراسة، أحمر وجهه واستشعرت لثوان أنه يرغب في الإجابة الا إنه متردد.

علي الفور طرحت سؤالا مختلفا: هل لك أن تحدثني عن تاريخ هذه المقابر؟

- هذه المقابر تعود إلي بعض من كبار ضباط جيش كليوباترا، أي أنها تنتمي إلى العصر اليوناني الروماني وتحديدا في فترة الـ 100عام قبل الميلاد.

* عظيم، ولماذا بعد أن أكتشفت وفتحت تركت علي هذا النحو البشع؟

- أخاف أن اقول لك...

* ولم؟

- أنا مجرد أثري شاب، ولا أرغب في أن أفقد مستقبلي.

* حماية المصدر والحفاظ علي سريته مبدأ مقدس في هذه المهنة وبالنسبة لي فإن قداسته تصل إلي حد أن أضع حياتي وليس مستقبلي في مقابل الحفاظ عليه. 

- في هذه الحالة، اتقسم علي ذلك؟

* بالتأكيد...

- الواقع أن الواقع بات مزريا...كل هذا الفساد من أجل أناس لا يقيمون وزنا لأي شيء، حتي وإن كان تاريخ وطنهم...

* اسمعك ...أكمل..

- منذ خمس سنوات بلغنا انه تم العثور علي فتحة مقبرة أثناء الحفر لوضع أساسات لمجموعة شاليهات في المنطقة...

( فجأة،  فتح باب المكتب بعنف ليدخل رجل خمسيني ويقف مواجها إياي بيني وبين فيصل وهو يصرخ في وجهي: من أنت ؟ وبأي حق تطرح أسئلة علي أحد موظفي؟ )

كان الرجل مدير مكتب هيئة الآثار في مطروح.

* اسمى يحيي غانم،  صحفي بالاهرام...هل يكفي ذلك؟

- كلا لا يكفي...وماذا تريد؟ (طرح السؤال ولم ينتظر الإجابة، بل التفت لفيصل متوعدا إياه للحديث معي)

- الرجل لم يقل لي أي شيء سوي أنه أوضح لي تاريخ المقابر في عجيبة.

* ولماذا تسأل؟

- وهل هناك مايمنع؟ ومع ذلك دعني أسألك أنت: ما السر من وراء ترك هذه الآثار المهمة نهبا لكل من بحر الشتاء والاجانب؟

* من قال هذا؟

- أنا اقول لك ما تعرفه... ولماذا لم يوضع سياج كأضعف الإيمان حول المنطقة؟ لماذا لم توضع لافتة تحذر من الاقتراب والنزول إلي المقابر؟

* ومن قال إن المنطقة غير محروسة؟ هناك كاميرات مراقبة

- بالتاكيد أنت تمزح، أي كاميرات؟ المنطقة لا يوجد بها أي منشآت ولا حتي أعمدة من أي نوع ...أما غرف الدفن فلايوجد بها سوي مومياءات، إلا إذا كنت تقصد أن المراقبة تتم بواسطة الأقمار الصناعية...

* إذن أنت ذهبت ونزلت ...أنا أحذرك ...أنت ترتكب جريمة يعاقب عليها القانون ...

- قانون؟ أي قانون؟ القانون الذي يسمح بترك مثل هذا الأثر لتخريبه بعوامل الطبيعة والسرقة؟ أي قانون؟

* مرة أخرى أنا أحذرك، فانت لا تعلم ماذا تعبث به...

- مرة أخيرة أطلب منك الإجابة علي سؤال واحد: لماذا؟

* لماذا ماذا؟ المنطقة مؤمنة ولا داع للقلق ...هذا عملنا ونحن أدري به

- متاكد أنت أن المنطقة مؤمنة؟ 

* بالتأكيد...

غادرت المكتب وأنا اتميز غيظا متوجها إلي الشاليه في عجيبة، حيث حملت كاميرا الفيديو والفوتوغرافيا والكشاف وطلبت من زوجتي أن تأتي معي لتساعدني. كانت زوجتي ترتجف وهي تنزل درج أول مقبرة. قلت لها لا شيء يدعو إلي الخوف وطلبت منها أن تحمل الكشاف كي أستخدم كاميرا الفيديو والفوتوغرافيا .. قمت بتسجيل جميع المقابر في غضون ثلاث ساعات، وذلك قبل أن أطلب منها أن تساعدني في حمل إحدى المومياءات. 

كانت نباتات قد نمت من شقوق الصخور الرملية التي ترقد بداخلها المومياءات ملتفة حول ذراعي وساقي المومياء. كان من الصعب أن أرفع المومياء بمفردي. وقفت علي رأس المومياء وقد وضعت كشاف الضوء في فمي وطلبت من زوجتي أن تمسك بقدميه كي انقله إلى حقيبة كبيرة أحضرتها لهذا الغرض. كان هدفي توثيق كل شيء أقوم بتحقيقه ولإثبات كذب مدير مكتب آثار مطروح. وقفت زوجتي ترتجف خوفا، قبل أن أصيح في وجهها: خايفة من إيه؟ الراجل دا مات منذ أكثر من ألفين سنة...ياللا ياللا ...وبعد أن رفعنا المومياء قمت بجمع عدد من الفواخير في حقيبة أخرى.

وعلي الفور،  توجهت إلى مكتب الآثار في مطروح وطلبت من الحارس هناك أن يتصل بالمدير لياتي فورا لمقابلتي. جاء الرجل وهو متأفف ليقول: 

- ها في حاجة تاني؟

* قلت إن المنطقة مراقبة بالكاميرات المخفية ومن إنها مؤمنة...أليس كذلك؟

- يا أستاذ، أحلف لك؟ والله محمية

* طيب، لقد قدمت للتو من هناك وقد سمحت لنفسي باستعارة بعض محتويات المقابر .. إذا كنت تريد استردادها فلتأت إلى صحيفة الأهرام كي تتسلمها بشرط أن تجيب علي كل أسئلتي أولا.

- أنت مجنون...عملت كدة ازاي؟ أنت وديت نفسك في داهية...أنت موش عارف أنت حطيت راسك في "بٌق مين"...

* موش عارف حطيتها في "بُق مين" لكن أنا عارف إني حطيت راسي ولما باحطها مابشلهاش إلا لما حد يشيلها من علي كتفي...سلام...

وهدا كان آخر يوم في " شهر العسل" الذي انتهي قبل أن يبدأ ولكي أبدأ واحدا من أغرب التحقيقات التي قمت بها في حياتي المهنية.
-----------------------------
بقلم: يحيى غانم

الحلقة الثانية من شهر عسل مع مومياء

مقالات اخرى للكاتب

صباح تحت القصف!





اعلان