20 - 04 - 2024

سمير جريس: إنجاز مصطفي ماهر في الترجمة عن الألمانية أهم من إسهام عبد الرحمن بدوي ومكاوي

 سمير جريس: إنجاز مصطفي ماهر في الترجمة عن الألمانية  أهم من إسهام عبد الرحمن بدوي ومكاوي

مصطفي ماهر رغم شهرته وأستاذيته لم يكن سلطويا مع طلابه  
** ليس من حق المترجم تغيير النص أو فرض الرقابة عليه
** ماهر لم يحذف فصلا من "العاشقات"  
** لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هسه أهم ترجماته لأديب نوبل 

 ليس للجادين من يكتب عنهم في حياتهم، وليس للجادين من يرثيهم بعد الرحيل .. ففي صمت يليق بالجادين المخلصين رحل عن عالمنا مؤخرا المترجم الكبير الدكتور مصطفى ماهر، أحد ألمع المترجمين العرب عن الألمانية، والذي قدم للمكتبة العربية أكثر من 100 كتاب  من عيون الإبداع الألماني ودشن أول كرسي أكاديمي لتعليم الألمانية في الجامعات المصرية  بكلية  الألسن - جامعة عين شمس. لم تلتفت الصحافة المصرية كثيرا لرحيل أبي الترجمات الألمانية في مصر، كما وصفته المواقع الثقافية والإعلامية الألمانية، ولم تتبع أثره الفكري والثقافي ولم تشر إلى ترجماته بما يليق  بالجهد الذي قدمه في نقل التراث الإبداعي والفكر الألماني للعربية، ربما لأن الرجل كان ممن يعملون في صمت. 

ولد مصطفى  ماهر في العام  1936  في حي شبرا، ودرس اللغة الفرنسية في كلية التربية، لكنه درس  بعد ذلك الألمانية وسافر إلى ميونخ، حيث حصل من معهد جوته  هناك على "دبلوم" اللغة الألمانية  في العام 1959. ثم حصل على  الدكتوراه من جامعة كولونيا  في "فقه اللغة" (الفيلولوجيا)، في العام عام 1962.

قدم ماهر للمكتبة العربية إبداعات الألمان، وكانت أهم  رواية ترجمها " لعبة الكريات الزجاجية"  لهيرمان هيسه، التي كانت سببا في فوز الأخير بجائزة نوبل للأدب عام 1946 وتعد من عيون الأدب العالمي.

 في السطور التالية  حوار مع أحد تلامذة الدكتور ماهر،  هو المترجم المعروف سمير جريس، الذي ترجم للعربية عددا من  الأعمال الأدبية المهمة،  ومنها "عازفة البيانو" للنمساوية ألفريدة يلينيك الفائزة بنوبل للآداب ٢٠٠٤،  و"الكونترباص" للروائي الألماني باتريك زوسكيند صاحب رواية "العطر"، و"الوعد" لدورينمات، وغيرها.  كما قدم كتابا نقديا مهما عن إبداع  الروائي الألماني الكبير جراس  بعنوان "جونتر جراس ومواجهة ماض لا يمضي"..

وهذا نص الحوار الذي نقدمه مرثية متأخرة  تحية إلى روح الدكتور مصطفى ماهر  

التجربة 

في البداية سألت سمير جريس  كيف ترى تجربة الراحل الكبير مصطفى ماهر في نقل الإبداع الألماني للعربية من الستينيات حتى الوقت الراهن،  فقال: إن  الدكتور مصطفى ماهر لم يكن مجرد مترجم كبير ومهم، وأغزر من ترجم عن لغة جوته، وأكثر المترجمين حضورا على الساحة الثقافية العربية منذ الستينيات، بل كان رائدا وعالما كبيرا. فهو عميد الدراسات الجرمانية في العالم العربي كله. ولم تقتصر جهوده  على التأسيس والتعليم والترجمة من الألمانية إلى العربية - نحو ستين عملا - بل نقل إلى الألمانية نحو أربعين عملا من الأدب والفكر العربي.

 ويرى جريس أن  الراحل كان  صاحب معرفة موسوعية، وعطاء علمي هائل، وإنجاز ضخم لا يباريه فيه أحد، "وكأنه كان فريقا من المترجمين والباحثين، يكتب، ويترجم، وينشر المقالات عن الأدب الألماني، وكذلك يطرح  دراسات تنظيرية في علم الترجمة والتواصل الثقافي، ويشرف على المئات من رسائل الماجستير والدكتوراه. والمرء يتساءل حقا: من أين كان يأتي بالوقت لإنجاز هذا كله؟"...

 السؤال الذي طرحه جريس مشروع جدا.  فقد ترجم د. ماهر منذ الستينيات  أعمالا لجوته ولِيسينغ و كلايست، ثم انتقل إلى الأدب الحديث والمعاصر، فقدم للقارئ العربي ترجمات، منها على سبيل المثال رواية "القضية" لفرانتس كافكا، والرواية الضخمة "لعبة الكريات الزجاجية" لهِيرمان هسه، ومسرحية "زيارة السيدة العجوز" لفريدريش دورنمات، ومسرحية "بيدرمان ومشعلو الحرائق" لماكس فريش، ورواية "العاشقات" لألفريدة يلينك (نوبل 2004)، ومسرحية "كاسبر" لبيتر هاندكه (نوبل 2019). "وكان  يزود ترجماته بمقدمات تمهيدية وهوامش عديدة تشرح السياق التاريخي والثقافي للنص المترجم. ولهذا كله،أقول: إن تجربته ضخمة ومشرفة ورائدة”.

 مقارنه وجدل محتمل 

وقد يحلو للبعض أن يضع إنجاز  الدكتور ماهر في مقارنة مع عملاقين آخرين  ترجما الإبداع الألماني، وهما الدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور عبد الغفار مكاوي.. وهنا يعلن سمير جريس بصراحة إنحيازه لمنجز ماهر،  معتبرا أن سؤال المقارنة مشروع تماما، "حيث كان الثلاثة هم المترجمون الأساسيون للأدب الألماني، على وجه الخصوص منذ سنوات الستينيات والسبعينيات. وقد  ترجم الدكتور عبد الغفار مكاوي أعمالا قليلة  لكنها أحدثت صدى جيدا جدا، وتميزت بحساسية لغوية عالية، أتذكر منها ترجماته لبوشنر وبرشت، وكذلك ترجماته لقصائد ألمانية من مختلف العصور الأدبية. أما الدكتور بدوي فهو فيلسوف معروف وأستاذ كبير، وقد  قدم ترجمات عديدة، لا أستسيغ بعضها، إذ إنني أرى أنه لم يوفق في إيجاد مناظر لغوي لما يترجمه، وكثيرا ما كان يستخدم ألفاظا مهجورة بدون داع”. 

أما الدكتور ماهر فهو المترجم الدارس، المتمكن بحق من اللغتين، ويفوق الاثنين بكثير في عدد وتنوع ما ترجمه، كما يشرح جريس.. طبعا القرار هنا جدلي يسمح بمقارنات أخري وتقييمات غير ما قدمه تلميذ الدكتور ماهر. 

 لكن ما أثاره حول عدم قبوله لبعض ترجمات الدكتور بدوي، خاصة في الأعمال الإبداعية، فيدفعنا لسؤال حول إمكانية  إعادة النظر في ترجمات القدامى وتقديم ترجمات عصرية للكتب الخالدة في الإبداع الإنساني . وهنا يقول جريس بحسم: 

"نعم، بعض الترجمات القديمة  تحتاج إلى إعادة ترجمة، إما لأنها تمت عن لغة وسيطة وتفتقد بالتالي الدقة، أو لاحتوائها على أخطاء كثيرة، رغم أنها تمت عن اللغة الأصلية. عن نفسي، أعطي الأولوية دائما للأعمال الجديدة. لكن إذا كان هناك عمل أحبه، ولم يترجم على الشكل اللائق في نظري، فمن المشروع إعادة ترجمته، وهذا ما أفعله الآن مع رواية شهيرة لن أفصح عن عنوانها حتى تُنشر!” 

لن نخمن هنا ولكن السياق قد يقول إنها فاوست لجوتة. لكننا سنحتفظ بتخميننا إيضا حتى لا نحرق مفاجأة سمير جريس لقرائه... 

المتابع للمشهد الثقافي  يرى بوضوح كثرة الترجمات للعربية من الفرنسية والإنجليزية، بينما تعد الترجمات من الألمانية قليلة نسبيا . ويبرر سمير جريس هذا بفكرة التراكم حيث يقول إن الترجمة علم يقوم على التراكم – "نحن لدينا عدد هائل من الترجمات عن الإنجليزية والفرنسية، وبالتالي لدينا منذ عقود عديدة عشرات من المترجمين المتمكنين. أما الترجمة عن الألمانية فهي نسبيا حديثة، وما زلنا في طور تراكم الخبرات وإعداد أجيال جديدة من المترجمين تستفيد من خبرة الرواد".

وعندما قلت له ربما تسربت الروح الألمانية  إلى المترجمين  الكبار عن الألمانية،  من حيث الانضباط والصرامة والجدية، فجعلت الترجمة فعلا ثقافيا صعبا، رد بأن هذه ملاحظة صائبة.. "فالثقافة التي يترجم عنها المرء تصبغ المترجم بصبغتها في بعض الأحيان، وهذا ما ألاحظه في نفسي، من حيث تأثري بالدقة بالمواعيد والانضباط وحب العمل، وأيضا الميل إلى رؤية السلبيات، ومحاولة التغلب عليها وتلافيها، أكثر من التفاخر بالإنجازات”.

 العاشقات ودور المترجم 

في حياة الدكتور مصطفى ماهر أثيرت ضجة كبيرة حول ترجمته  لرواية "العاشقات"، لأنه حذف الألفاظ "الخارجة"، ما جعل كثيرين ينتقدونه ويرفعون سؤالا حول مدي حرية المترجم في التصرف في النص، وهل من حقه  أن يكون رقيبا أخلاقيا على النص. وهنا لا يدافع التلميذ عن أستاذه، ففي رأيه الشخصي لا يحق للمترجم أن يفعل ذلك، "وخاصة بالقدر الذي فعله أستاذي الكبير في ترجمة "العاشقات"، وأنا أعتبر ما فعله تشويها لرواية يلينيك، التي تقدم في أعمالها نقدا لاذعا لتسليع الجنس، واستخدام بعض الألفاظ "الخارجة" أو الصريحة أو الإباحية هو جزء من أسلوبها. في هذه الحالة، إما أن نترجم العمل كما هو، أو لا نترجمه. ولكن  الدكتور ماهر كان له رأي آخر، وهو رأي يُحترم. فقد رأى أهمية ترجمة هذا العمل، ولكن بدون هذه الألفاظ التي اعتبرها "ليست من لغته".”.

ولكن السؤال الذي لم يطرحه البعض هو، هل يمثل موقف الدكتور ماهر موقفا شخصيا باعتباره محافظا أخلاقيا كما يصفه جريس،  أم أنه نسق معرفي في الترجمة من جيل الآباء الذين كانوا يحذفون فصولا بحجة أنها لن تهم القارئ، او أنها تتنافى مع معتقداتنا؟  ويعتقد جريس أنهما الأمران معا. "وعموما، لم يحذف الدكتور ماهر  من رواية يلينك فصولا أو فقرات، بل مجرد كلمات، وكان دائما يشير إليها في الهامش”.

 لعبة الكريات 

عندما يذكر اسم الدكتور ماهر كمترجم تقفز للذهن فورا ترجمته الفذة لرواية " لعبة الكريات الزجاجية"  لهرمان هسه وعنها يقول جريس.. "هي بالقطع من أهم وأضخم ما ترجمه الدكتور مصطفى ماهر. وهي العمل الإبداعي الأساسي لهرمان هسه الحائز على جائزة نوبل عام 1946، وتعتبر خلاصة فكر هذا الأديب الكبير”. وقد صدّر د. ماهر ترجمته بمقدمة ضافية عن هسه وعالمه الفكري، وقدم  ترجمة أخرى لهسه، هي رواية "بيتر كامنتسند"، وهي أول رواية كتبها هسه، وتعتبر حجر الزاوية في نجاحه الأدبي. يقول ماهر عن اللعبة، "هذه رواية ليست سهلة بل هي رواية عميقة ذات أبعاد كثيرة وهي أهم ما كتبه هرمان هيسه وربما اهم ما كتب في زمانها وقد بدأها هيسه عام 1931 قبل سيطرة النازي علي الحكم في ألمانيا،  وانتهي منها في 1943 قبل انتهاء الحرب العالمية الثانيه بعامين وقد منعها النازيون من النشر في ألمانيا  حيث تم نشرها للمرة الأولى في سويسرا ولم تطبع في ألمانيا إلا بعد الحرب وانتهاء الحكم النازي”. 

واقع الترجمة الآن 

وعن المشهد في الترجمة المصرية الآن، خاصة من الألمانية، وإنجاز الجيل الجديد من المترجمين، امتد الحديث مع جريس الذي يعتقد  أن هناك  جيلا جديدا يقدم ترجمات جيدة ومتنوعة إلى القارئ المصري والعربي، ومن أبرزهم  المترجم أحمد فاروق الذي ترجم عدة أعمال بارزة مثل "سنوات الكلاب" لجونتر جراس، و"عند تلاشي الضوء" لأويجن روجه. "ومنهم أيضا الدكتورة هبة شريف التي قدمت في السنوات الأخيرة عددا من الأعمال المهمة، منها عملان لبيتر هاندكه الحائز على جائزة نوبل. وأذكر أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، ومع حفظ الألقاب: هبة الله فتحي، ونيرمين الشرقاوي، وسمر منير، وصلاح هلال ولبنى فؤاد”.

ولكن الجيل الجديد  أقل اقترابا من الفلسفة ويفضل التركيز على الأدب على العكس من الجيل القديم، هكذا قلت لجريس، الذي اعترف بمشروعية السؤال، مبررا الوضع بأن الترجمة المتخصصة مثل الترجمة الفلسفية لا بد أن ينهض بها دراس فلسفة، أو قارئ جيد للفلسفة. "كان لدينا عدد من المتخصصين في الفلسفة الذين يجيدون الألمانية، مثل عبد الغفار مكاوي وعبد الرحمن بدوي. هذا هو ما ينقصنا الآن في مشهد الترجمة الثقافية ”

المحاضر الديموقراطي

 عندما يتذكر سمير جريس أيام الجامعة ومحاضرات الدكتور ماهر لطلبة قسم اللغة الامانيه بكلية الاسن يقول:

"كان لمحاضرات الدكتور مصطفى ماهر مذاق يختلف تماما عن أي محاضرات أخرى عندما درس في كلية الألسن، جامعة عين شمس، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ورغم سمعته الأسطورية كأهم أساتذة الأدب الألماني في العالم العربي، كان بشوشا متواضعا، ليس به أي سمة من سمات السلطوية التي اتصف بها كثير من الأساتذة الأقل منه علما بدرجات كثيرة. لم يكن يتحدث عن "المنهج" فحسب، بل كانت محاضراته أشبه بحديث مفتوح مع أبنائه الطلبة، في موضوعات تبدو بعيدة عن موضوع الدراسة. لكنه كان بلمسة سحرية في نهاية كلامه، يربطها بموضوع محاضرته. 

وكان دائما يحاول الابتعاد بطلابه عن أسلوب "الحفظ" السائد في التعليم المصري، ويدفعهم إلى التفكير الحر، وإلى تبني مفهوم شامل للثقافة.

وبالطبع كنا، نحن تلاميذه، نرنو إليه بإعجاب بالغ، ونود أن نساهم أيضا، ولو بقدر محدود، في حركة الترجمة من الألمانية إلى العربية.

 أتذكر أنني جمعت عددا من القصص القصيرة من الأدب الألماني المعاصر، وترجمتها، وتقدمت بها إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر الثمانينيات، وتم قبولها ووعدت بالنشر قريبا؛ ليس هذا فحسب، بل لقد كُلف الدكتور مصطفى ماهر بكتابة مقدمة لها، وهو ما فعله مشكورا، وكتب مقدمة مشجعة للغاية لي. وكانت سعادتي كبيرة لأن أستاذي كتب مقدمة لأولى ترجماتي. 

لكن للأسف، لم تنشر هذه الترجمة حتى اليوم، وقد باءت كل محاولاتي في العثور عليها أو نشرها بالفشل. ولعلها ما زالت قابعة في أحد أدراج الهيئة، أو لعل الفئران قد أتت عليها كلها”.

ربما يلخص السطر الأخير ما يعانيه الجادون من أمثال الدكتور ماهر والمترجم سمير جريس، وربما يفسر الصمت الذي فرض على ماهر حيا وميتا.
---------------------------
حوار - محمد حربي






اعلان