20 - 04 - 2024

ماذا قال "طه حسين" عن دين الدولة ومنكر الشيوخ؟

ماذا قال

في تناوله لسيرة أول دستور مصري (بالمعنى الكامل) وهو دستور سنة 1923، يكشف د."محمد طه عليوه" في كتابه "العلاقة بين الدين والدولة" عن حقيقتين مترابطتين بخصوص علاقة الدولة بالدين: الأولى هي أن طموح السياسيين وتفاؤل القانونيين غالبا ما يدفعهم إلى صياغات دستورية وقانونية لا تؤدي في الواقع إلى ما بنيت عليه من طموحات، ويتضح بعد وقت يقصر او يطول أنها صيغت طبقا لتفاؤل لا مبرر له في الواقع، ويستحيل ان تؤدي إليه، وهو ما يبدو انه تحقق بحذافيره خلال النقاشات التي اجريت في لجنة صياغة دستور  1923 الخاصة بحقوق الأقليات، حيث دار النقاش حول ما يسمى في الاعراف القانونية والدستورية الحالية بحق "التمييز الإيجابي للأقليات" كالمرأة والأقباط واليهود المصريين (آنذاك لأنه لم يعد لهم وجود تقريبا بيننا اليوم)، وما إن كان هذا التمييز متفقا مع الأعراف والتقاليد الدستورية المؤسسة على قيم المواطنة والمساواة بين كافة المواطنين على اختلاف جنسهم ودينهم وعرقهم وطبقتهم. 

مالت كفة النقاش في النهاية بين "آباء الدستور المصري"، واستقر الاتفاق بينهم -  حسب ما تؤكد مضابط الاعمال التحضيرية لمجلس الشيوخ - على التعويل على دور الزمن في إعلاء دوافع المصلحة المشتركة بغير نظر إلى دين او مذهب، متمنين أن يصل المصريون سريعا إلى "اليوم الذي يجمع كل أسباب مرافقنا حتى في الزواج والطلاق وما إلى ذلك من أحوالنا الشخصية تحت نظام واحد، بحيث نعيش جميعا في ظل حياة مدنية محكمة منظمة"، أي وصولا إلى إنشاء نظام قانوني مدني مستقل عن التشريعات الدينية المختلفة بين المصريين. 

وكما نعلم فإن مآل تطور قوانين الأحوال الشخصية بلغ في مصر دركا سيئا من السوء والتدهور اليوم، بسبب التصاقها بالقيم والمفاهيم الفقهية والشرعية الذكورية (البطريركية) الموروثة، لا بقيم المواطنة والمساواة الدستورية على ما تمنى آباء الدستور، ولم نصل حتى اليوم إلى هذا اليوم المستقبلي الذي توقعه آباء الدستور المصري ورأوا أن موادهم  الدستورية كفيلة عبر التفاعل الكفء مع الواقع بأن توصلنا إليه..!.

الحقيقة الثانية المرتبطة بالأولى هى أهمية خوض المثقفين العقلانيين النشط في النقاش المجتمعي حول نصوص الدستور والقوانين، وهي مشاركة يمكنها تقليص الخطورة التي تكمن وراء طموحات الدستوريين وتفاؤل القانونيين عندما يكون لا محل له في الواقع ولا طريق له إلى المستقبل. 

الشاهد على هذه الأهمية أن مادة مثل "الإسلام هو الدين الرسمي للدولة" (وكان ترتيبها في دستور 1923 في المادة رقم 149 وليس في المادة 2 على ما هو عليه الحال اليوم) لم تلق أي اعتراض لدى عرضها على لجنة الدستور، وقد اقترحها "الشيخ بخيت" في جلسة 19 مايو 1922 وقررت لجنة الدستور الموافقة عليها بالإجماع. غير أن العين البصيرة للثقافة والمثقفين المصريين كانت ترقب وتدقق وتقوم بدورها النقدي المقدس، وكما يمكننا ان نتوقع كانت العين البصيرة للعميد العظيم "طه حسين"، إذ نشر في جريدة "الوطن" آنذاك مقالا حول المادة (وهي نفس المادة التي اضيف إليها في السبعينيات أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للنشريع، أي بعد حوالي نصف قرن من تحذير طه حسين المبكر)، قال العميد في مقاله: "ذلك النص كان مصدر فرقة بين المسلمين، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص، ولم تر فيه على نفسها غضاضة او خطرا، بينما المسلمون لم يفهموه على وجه واحد، ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه" و"إنما وقعت الفرقة حول هذا النص بين فريقين من المصريين المسلمين، أحدهما: المستنيرون المدنيون، والآخر: شيوخ الازهر ورجال الدين"، ولم يكن تشدد رجال الدين الأزهريين قد أنتج في تلك الأيام - إضافة لعوامل أخرى بعدها - جماعات الإسلام السياسي، يكمل "طه حسين": "فأما المستنيرون فهموا أن الدستور حين ينص أن الإسلام دين الدولة لا يريد إلا أن يعلن احترامه لدين الكثرة، وما توارثته من تقاليد، ويكلف الحكومة مقدارا قليلا من الواجبات التي تتصل بهذه التقاليد.. فقالوا: نص فيه إرضاء لعاطفة السواد وطمأنة للشيوخ، فهو لا يضر وأكبر الظن أنه قد يفيد". 

والواقغ الظاهر اليوم أن نص "دين الدولة" أضر أبلغ الضرر وأنه لم يفد أقل فائدة، فلم يعرف المصريون من جرائه غير بلاء مواجهة الإرهاب الدموي الذي يطالب الدولة بأن تعود على أعقابها مئات السنين ليكون الإسلام حقا دينها!، إضافة إلى اعتبار نص "دين الدولة" من قبل المتطرفين والمتشددين "مسمار جحا" الذي تعلق عليه كل نزعات القمع والتكفير والكراهية والإكراه والاستبداد والتمييز بين المصريين والاتجار بالدين. 

يكمل "طه حسين" موضحا: "ولكن الشيوخ فهموا هذا النص فهما آخر، واتخذوه تكئة وعلة يعتمدون عليها في تحقيق ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية. فهموا أن الإسلام دين الدولة، أي: الدولة يجب أن تكون دولة إسلامية بالمعنى القديم حقا"، و"ذهب نفر من هيئة كبار العلماء إلى أبعد حد ممكن، فكتبوا يطالبون بألا يصدر الدستور، لأن المسلمين ليسوا في حاجة إلى دستور وضعي، ومعهم كتاب الله وسنة رسول الله، وذهب بعضهم إلى أن طلب إلى لجنة الدستور أن تنص أن المسلم لا يكلف القيام بالواجبات الوطنية إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام، وفسروا ذلك بأن المسلم يجب أن يكون في حل من رفض الخدمة العسكرية حين يكلف الوقوف في وجه أمة مسلمة كالأمة التركية مثلا"!!.

حقا ما أشبه اليوم بالأمس وكأن "طه حسين" لايزال بيننا وهو يقول بأن الناس فرحوا بما في الدستور من المساواة والحريات المكفولة إلا "الشيوخ" الذين دأبوا منذ صدر الدستور المصري وإلى اليوم على استغلاله استغلالا منكرا في ملاحقة الفكر ومصادرة الحريات ونشر التطرف والإرهاب وتقويض كل أساس دستوري راسخ للدولة المدنية والعلمانية الحديثة في مصر.
------------------------
بقلم: عصام الزهيري

مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان