(19 مايو 2021 – الثانية ظهرا)
توعدنا نتنياهو بالأمس بليلة ساخنة، وبشرنا أن هذه الليلة ستكون ليلة الجنوب وأن أهدافه تم انتقاؤها وهي جاهزة. أحد الأصدقاء كتب على صفحته أن أهل الخليل قد شاهدوا أسرابا من طائرات الاحتلال السوداء تتجه نحو غزة.
فجأة على العاشرة ليلا وبدون مقدمات اشتعلت الدنيا، قامت القيامة، ولعت كوريا، الأرض ترج والبيوت تهتز والريح تصفر، كل ما الدنيا يصيح ، قصف شديد في هذه العتمة والكهرباء مقطوعة
يتوافق هذا القصف أحيانا مع إطلاق الصواريخ، تمتزج أصوات الصواريخ مع أصوات الطائرات وقذائفها الثقيلة، تزلزل الأرض زلزلة، لا تستطيع أن تبقى مكانك في هذه اللحظة، قد تتكوم على نفسك لتحمي نفسك، أو قد تقفز لتختبئ بين السرير والخزانة، قد تهرب إلى الممر لعله أكثر امانا أو حتى تغطي نفسك بحرام أو بطانية، أي شيء ممكن أن يحميك هذا ما تعتقد؟!
الناطق بجيش الاحتلال صرح، في هذا الوقت ، يواصل سلاح الجو الإسرائيلي قصف وتدمير الأنفاق، حيث يتم تنفيذ الهجمات في قطاع خان يونس ورفح جنوب قطاع غزة. ليلا تم تنفيذ أكثر من 30 غارة جوية. في الصباح أعلن أن عدد الغارات 70 غارة شاركت فيها عشرات الطائرات الثقيلة (55 طائرة).
في هذه اللحظات حيث الخوف والرعب يسيطر على كل شيء، ترتفع الأدعية والابتهالات والتكبير ويشارك معك عدد كبير من أصدقاء الفيس بامنياتهم بالسلامة والطمأنينة والكلمات الطبية من كثير من الأصدقاء والأحباب العرب والفلسطينيين، هذا في الحقيقة يخلق لديك شعورا بالراحة والطمأنينة إلى حد ما، لكنك بالتأكيد بعد هذا القصف لن تستطيع حتى أن تحاول النوم، تضع راسك على المخدة وتترك عينيك مفتحة نص تفتيحة، مثل الذئب؟!
هذه لحظات إنسانية تمر بجميع من يتعرض لها، باختلاف طبيعة الناس وقربهم أو بعدهم عن الحدث. إضافة لظروف كل انسان، ليس في الأمر غرابة؟!
جمانة حفيدتي في الصف السادس، لكنها لا تتأثر كثيرا وتضع رأسها وتنام وهي مطمئنة، في حين أن أخيها الأصغر أحمد خائف إلى درجة أنه لم يعد يدخل الحمام إلا وأمه واقفة على الباب ويرفض أن يتحمم لوحده.
الغريب أن البعض، لنقل جزافا قليل من الناس، يستغربون علينا خوفنا ويستغربون اعترافنا بذلك، ويعتقدون اننا يجب أن نكون أقوياء وعلامة القوة هو عدم البوح بالخوف، لأن هذا البوح يخيف الناس وينشر الرعب بينهم.
لا اعتقد ان هذه الفكرة صحيحة كما أنها غير ممكنة وتتناقض مع الطبيعة الإنسانية، ومن ناحية سياسية فإنه من المهم أن يطلع العالم على حجم معاناة المدنيين، ضحايا الحرب والعدوان، ليس من المصلحة ولا من الممكن إخفاء هذا الخوف ولا إخفاء المشاعر الإنسانية ولا التحكم فيها بريموت كنترول، اتركوا الناس تعبر عن مشاعرها وتفضفض، هذا لا يتناقض مع الوطنية أو الصبر والصمود، كما أن لهذا أهمية في تفريغ ما يعتمل في النفس من آلام وأوجاع. الحرية لشعبنا الصابر الصامد.
قصف الصحة
(فلسطين، غزة 18 مايو 2021)
يربطني بهاتين الصورتين تاريخ طويل وجميل، وقع علي راسي خبر قصف وزارة الصحة ومركز شهداء الرمال في غزة كالصاعقة
أنا احب وزارة الصحة بل أعشقها، أنا ابن هذه الوزارة التي أشعر أنها بيتي، لذلك كنت ومازلت من المدافعين دوما عنها، أشعر أن هذه الوزارة وهذا النظام الصحي هو أفضل ما أنجز الشعب الفلسطيني
التحقت بالعمل في الوزارة عام 1995 في قسم الأمراض الوبائية في عيادة الرمال التي قصفت، كان مكتبنا في غرفة 101 في الطابق الأول بعد أن كان في الطابق الأرضي قبل تجديد مبني العيادة ، في الطابق الثاني كان المختبر المركزي وفي الطابق الثالث الإدارة العامة للرعاية الأولية والإدارة العامة للبحث والتخطيط ودائرة نظم المعلومات
تم بناء مبنى وزارة الصحة الجديد بين عامي 2002 و 2003 بمنحة سعودية من خلال البنك الدولي كجزء من مشروع تطوير النظام الصحي ، كانت جزئية تطوير نظم المعلومات وإنشاء مركز المعلومات الصحية الفلسطيني في كل من نابلس وغزة جزءا من هذا المشروع، كان من المفترض أن يكون مركز المعلومات في الطابق الرابع في مبنى الوزارة لكنه انتقل إلى الطابق الأول، وهو ما يظهر في الصورة
خلف هذه الشبابيك الظاهرة في الصورة كان مركز المعلومات الصحية الفلسطيني، هنا كان مكتبي وهذه طاولة مكتبي عليها جهاز الكمبيوتر وعلى يمينها طابعة فاخرة وأسفل منها خزانة حديدية نضع فيها اسطوانات البرمجيات، على شمالي الهاتف الارضي، وعلى الحائط الخلفي صورة جميلة لعدد من كوادر المركز
وأمامي عدد كبير من الزملاء وأجهزة الكمبيوتر، الكل منهمك في عمله بحب وفرح، مكتبي من زجاج والمبنى مفتوح دون حواجز open system.
المبني طويل وتطل كل نوافذه على شارع الوحدة الجميل والذي يتعرض هذه الأيام إلى الحرث والحرق بطائرات الاحتلال الهمجية
من هذا المركز كان ومازال يصدر التقرير السنوي الصحي عن فلسطين Annual Health Status Report ، ومن هنا كانت تصدر تقارير الانتفاضة الثانية اليومية والاسبوعية والشهرية ، ومن هنا كانت تصدر كثير من الدراسات والأبحاث
من هنا صدر الكتاب الأول عن الأورام في فلسطين ، وهنا كانت تدار صفحة وزارة الصحة الإلكترونية ، وهنا كان ما يقارب من 54 من الزملاء والزميلات، 7 منهم يحملون ماجستير الصحة العامة ، أخصائي معلومات، مهندسي الشبكات، أخصائي في البرمجة، ورشة عمل نشطة تعمل على مدار الساعة، شيء مبهج ومفرح ويرفع الرأس
في زيارة أحد المواطنين إلى هذا المركز للحصول على بعض المعلومات الصحية، بكى قبل الوصول إلى مكتبي ، لم أعرف سبب بكائه، لم يصدق أن في بلادنا مركزا للمعلومات بهذه العظمة
في هذا المركز كنا نقضي كل يومنا في العمل، منذ الساعة 07:30 صباحا، لم أكن أشعر بالوقت وهو يمضي، لا أتذكر نفسي الا بحدود الحادية عشرة وفناجين الشاي والقهوة من حولي دون أن ارتشف منها إلا القليل ، في هذا المركز سهرنا ليالي طويلة ونمنا باقي الليل فيه، كنا ننام بالليلة والليلتين حتى نفي بوعدنا ويخرج تقرير وزارة الصحة بحلته البهية، تقرير ينافس في أهميته ودقته العلمية ما يصدر عن وزارات الصحة في كثير من الدول المجاورة، لقد أشاد بهذا التقرير وزير الصحة التركي وهمس وزير الصحة الأردني في أذن د. رياض الزعنون، وزير الصحة المؤسس بأنه غير مصدق أن هذا التقرير قد أعده الفلسطينيون
كم كان يفرح د. رياض الزعنون يوم يصدر التقرير ويوقع النسخة الاخيرة من أجل الطباعة ، كم كان يفتخر بذلك د. منذر الشريف وكيل الوزارة الأول، هذا المكان قصفته (17:45 مساء 17 مايو )2021 طائرات الـF35 الإسرائيلية ، قصفته وقصفت معه كل ذكرياتنا وإيامنا الجميلة ، قصفت معه ساعات طويلة من الجهد والاجتهاد ، قصفت مركز الرمال والمختبر المركزي حيث يتم فحص حالات الكورونا ب PCR
ترافق مع قصف وزارة الصحة قصف عدد من المكتبات ودور الطباعة ومنها مكتبة منصور، حيث كنا نطبع فيها تقارير وزارة الصحة، نقضي أياما طويلة ونحن نناقش سويا وننسق سويا ليتم طباعة التقرير وإخراجه بأجمل هيئة تليق بفلسطين.
هذه آخر صورة لي في المركز، في آخر يوم عمل، كان يوما حزينا ، لكن اليوم أنا أكثر حزنا وانا أرى ذكريات وجهد السنين الطويلة محطمة ومتناثرة ومبعثرة وممزقة تحت وقع طائرات أمريكا الحربية التي يستخدمها الجيش الانساني في الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
تمزق ما بقي في قلبي من بعض السعادة والذكريات الجميلة بعد هذا القصف الهمجي لمباني وزارة الصحة.
-------------------------------
بقلم: د. رياض عبدالكريم عواد