18 - 04 - 2024

ماذا وراء الأكمة؟

ماذا وراء الأكمة؟

بعد طول صمت "مريب" كانت "واشنطون" أول من اخترق ذاك الصمت الذي التزمته أطراف يعلم القاصي والداني أنها تقف وراء إنشاء سد النهضة بشكل أو بآخر.

تناثرت تصريحات لمسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية لتصب في مجرى واحد عنوانه الأبرز أن "المجتمع الدولي" لن يسمح بعمل عسكري ضد السد وأن الأزمة حول سد النهضة هي جزء من إشكاليات مماثلة في عدة دول حول الأنهار الدولية.

وعلى وقع هذه التصريحات بادرت أثيوبيا بدعوة مصر والسودان لتعيين مراقبين من لدنها لمراقبة عملية الملء الثاني ولتبادل المعلومات الفنية بذلك الشأن وهو اقتراح قابلته مصر والسودان معا بالرفض.

ومهما يكن من أمر فإن الصمت لايزال يغلف موقف الاتحاد الأوربي ومعه بريطانيا وكذلك الأمم المتحدة فيما تقف تل أبيب في الظل وكأن الأمر لا يعنيها وستبقى كذلك لأمد ليس بالقصير لحساباتها الإقليمية الخاصة.

ولا جدال في أن السودان كان مصيبا في إصراره على الدعوة للوساطة "الرباعية" ليس فقط لأن الاتحاد الأفريقي ليس فعليا بالوسيط المحايد أو الكفء ولكن قبل ذلك وبعده لحمل كل من أمريكا والاتحاد الأوربي ومعهما أداتهما الطيعة "الأمم المتحدة" على الكشف عن نواياهم الحقيقية وكذلك لإحراجهم في حال فشل المفاوضات وهم شهودها.

وبالطبع ينبغي علينا أن نشغل أنفسنا بتوقع ما تحمله الأيام القادمة من أفعال وردودها وهو ما يجعلنا نقف عند تحليل مواقف ونوايا الأطراف الحاضرة في تلك الأزمة.

الاتحاد الأفريقي الضحية التي تتقمص دور الجلاد

هذا هو الطرف الأول الذي ينبغي العناية بردة فعله ليس لأنه أهم أطراف الأزمة ولكنه في الحقيقة هو الطرف الذي من السهولة بمكان التنبؤ بما سيفعله.

فهذا الاتحاد الذي ورث منظمة الوحدة الأفريقية هيمنت عليه في العقود الثلاثة الأخيرة روح "عنصرية" مفادها العداء لكل من وما هو أبيض

ورغم أن تلك النزعة "الزنوجية المفرطة" نشأت كردة فعل على ازدراء المستعمر الأبيض للرجل الأسود في أوساط الأفارقة الذين يدرسون في المراكز الاستعمارية في أوربا إلا أنها هيمن فعليا على أروقة الاتحاد الأفريقي ولاسيما في توزيع المواقع القيادية داخل الاتحاد إذ ينظر دوما إلى الأفارقة العرب أحيانا أنهم "نصف أفارقة" أو انهم ليسوا أفارقة حقيقين طالما لا يتمتعون ببشرة سوداء بل وتروج ضدهم من حين لآخر اتهامات بأنهم استعبدوا الأفارقة وتاجروا بهم رقيقا. 

وبغض النظر عن الدوافع التنافسية التي لا يمكن إنكارها في أوساط النخب الأفريقية للولوج لمناصب الاتحاد الأفريقي فإن تلك النزعة العنصرية تقوى يوما بعد يوم وخاصة مع تطلع دول مثل جنوب أفريقيا لزعامة القارة.

ولم يكن عبثا أن أصرت أثيوبيا على أن يكون الاتحاد الأفريقي وسيطا للمفاوضات الثلاثية منذ اللحظة الأولى لعلمها اليقيني أن الروح العدائية ضد "العرب الأفارقة" ستجعل هذا الاتحاد وخاصة في ظل رئاسة جنوب أفريقيا له أكثر "تفهما" لوجهة النظر الأثيوبية.

ولهذا السبب ترفض أديس أبابا بشكل قاطع الاقتراح السوداني للوساطة الرباعية.

وترتيبا على ذلك فإنه في حالة نشوب نزاع مسلح حول سد النهضة فإن الاتحاد الأفريقي سيكون مع فرض عقوبات على مصر رغما عن معارضة بعض الدول التي تتمتع بعلاقات خاصة مع مصر وبالطيع ستطال تلك العقوبات السودان إن بقي في صف مصر إلى وقت نشوب النزاع المسلح.

الولايات المتحدة وموسم اصطياد مصر

من السذاجة بمكان الظن بأن الولايات المتحدة قد تخلت عن هدفها الجوهري في إعادة هندسة خرائط المنطقة العربية إذ هي ماضية في سبيل ذلك تركيزا على الحلقة التي تحيط بفلسطين المحتلة وقد تحققت نجاحات لسياستها المرتكزة على تصورات برنارد لويس لإعادة المنطقة إلى ما كانت عليه فيما قبل الحرب العالمية الأولى بل وإلى أبعد من ذلك.

وإذا كانت مصر قد خرجت مبكرا وبأقل قدر من خسائر "تشتيت الهوية" من تداعيات خطة الفوضى الخلاقة التي يحلو للبعض أن يدللها باسم "الربيع العربي" فإن كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لا تنظر بعين الرضا لهذا "الخروج"، وما الإبقاء على خطوط تعامل مع "حكومة الانقلاب" بمصر إلا تسليم بأمر واقع حتى تحين الفرصة لتغييره في جولة أخرى من صراع لم تخمد نيرانه بعد تحت الرماد.

ذكرت بريطانيا أولا قبل أمريكا لأنها صاحبة براءة اختراع خطة برنارد لويس (الإنجليزي الذي حصل على الجنسية الأمريكية) ولأن تلك هي نظريتها التي خرجت بها من تجربتها الاستعمارية والمعروفة لدى تلاميذ المدارس باسم ساسة فرق تسد.

وعلى الرغم من أن مصر خاطبت لندن بشأن أزمة سد النهضة إلا أنها لم تحرك ساكنا ولم تتوقف يوما عن دعم أداتها الإقليمية التي اخترعتها لإضعاف متانة "الاندماج الوطني في مصر".

أعني بذلك الإخوان المسلمين الذين كانوا خيار بريطانيا بعد فشل خطط كرومر لتقسيم مصر بين مسلمين وأقباط أو لتحويل الأقباط عن كنيستهم الأرثوذكسية فهذا التنظيم يمارس فعل "الطائفة" بكل آليات ابتداعها وتطورها وذلك أمر يستحق سياقا مستقلا لشرحه.

أما الولايات المتحدة التي أدت البرجماتية المفرطة لحكومة دونالد ترامب وحساباتها التجارية للربح والخسارة لتوقف مؤقت لسياسة الاستهداف النشط لمصر، فهي منذ اليوم الأول لرئاسة بايدن تعاود فعليا تلك السياسة بدءا من الحديث عن مشاكل "الديمقراطية وحقوق الإنسان" وانتهاء بالموقف الذي يزداد سفورا من النزاع حول سد النهضة.

ولعل واشنطون تجد في التعنت الأثيوبي ما يكفي وزيادة لتهديد الحياة في مصر ودفعها إما لقبول الموت البطيء والتقاتل الداخلي على وقع أزمة مياه وغذاء حتمية إذا حققت الحبشة هدفها القديم في التحكم بمياه النيل، أو للإقدام على عمل عسكري يتخذ كذريعة لتدخل أمريكي ضد مصر شبيه بما جرى مع العراق وأيضا في سوريا وليبيا مع تباين الذرائع.

يعني ذلك ببساطة أن الولايات المتحدة لن تكون وسيطا وستقف موقفا سلبيا من اقتراح الوساطة الرباعية وهو أمر سينتقل بالتبعية لكل من الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة ليبقى أمام مصر والسودان الوسيط الأفريقي العليل.

الفصل الصهيوني للمسارات

على الرغم من أن تل أبيب لم تضبط متلبسة بأي تصريح يتصل بسد النهضة من قريب أو بعيد ولو حتى بالدعوة للتفاهم بين أطراف الأزمة، إلا أنه بوسع المراقب السياسي أن يشتم رائحة خبراتها في "الدعاية" وادعاء الحق بالمخالفة لكل القوانين والأعراف الدولية ثم قبل ذلك وبعده بتقسيم التعامل مع بناء السد وما يثيره من خلافات بأسلوب "كيسنجر" أي سياسة الخطوة خطوة وأيضا الفصل بين المسارات بتفريق الأطراف التي يمكن أن تتخذ موقفا موحدا ضدها.

وفيما يتعلق بسد النهضة اعتمدت أثيوبيا منذ بداية التنفيذ الفعلي سياسة من شأنها تشجيع السودان على عدم الالتقاء مع الموقف المصري الرافض ابتداء لفكرة إقامة سدود تتحكم بفيضان النيل الأزرق.

وقد وجدت تلك السياسة مناخا ملائما في ظل حكم البشير، أولا بحكم الخلافات "الإخوانية" مع مصر، وثانيا لوجود رافد سوداني داخلي "معادي" لمصر على خلفية تاريخية تمتد من الثورة المهدية إلى استفتاء تقرير المصير.

وقد ظل السودان يرفل في الشعار المريب "أثيوبيا أخت بلادي" وهو على يقين بأن السد يمكن أن يلحق الأذى بمصر ولكنه أبدا لن يمس السودان بسوء، وكانت قمة نجاح خطة الفصل بين مصر والسودان في هذا الشأن امتناع الوفد السوداني في مفاوضات واشنطون عن التوقيع على مسودة الاتفاقية مثلما فعل الوفد الأثيوبي، مع ملاحظة أن ذلك كان بعد الثورة وسقوط نظام الكيزان.

وقد تعثرت خطة الفصل بين المسارين السوداني والمصري بعد أن عاين السودان فعليا النتائج السلبية للملء الأول على سدوده الصغيرة ومحطات توليد الكهرباء، وأصبح هناك "تناغم" وربما "تنسيق جزئي" بين مواقف القاهرة والخرطوم مع إدراك حجم التهديد الذي تشكله كمية المياه وراء سد هناك شكوك حقيقية حول درجة أمانه إنشائيا، ناهيك عن القوة الهائلة التي يمنحها للطرف الأثيوبي للتحكم بدولتي المصب.

ومن جهتها فإن القاهرة عمدت إلى تدفئة هذا التنسيق، بل ووافقت دون تردد على اقتراح السودان للوساطة الرباعية وبدت الأمور في أوج حيويتها مع إسهامات قيمة من الخبراء السودانيين في مجال الري ، لكن ذلك كله ربما يكون على المحك في قادم الأيام.

فمن جهة وعلى ضوء النجاحات المبكرة للفصل بين المسارين المصري والسوداني تتطلع أثيوبيا لإعادة إحياء سياسة الفصل تلك، ومن جهة أخرى تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لدق "إسفين" بين القاهرة والخرطوم، وقد صرح أحد المتحدثين باسم الخارجية الأمريكية أن تعقد مسار المفاوضات سببه أن مصر تستخدم السودان كورقة ضغط وتوظفها للدفاع عن وجهة النظر والمصالح المصرية.

وقد دعت الولايات المتحدة أثيوبيا "صراحة" لأن تطمئن السودان على تدفق احتياجاته من المياه واطلاعه على خطة الملء الثاني، وزادت على ذلك دعوتها لحل الخلافات الحدودية بين البلدين بالوسائل السلمية ودون أن يتضمن ذلك احترام الحدود بين البلدين.

علينا ان نتوقع في قادم الأيام جهودا أكثر وضغوطا أكبر من أجل إثارة حساسية السودان من التعاون مع مصر وحمله على الدخول في مسار مفاوضات قصير يتضمن ربما تلقي معلومات فنية من أديس أبابا عن خطة الملء والتصرفات المائية إبانها، وربما يلحق بذلك تهدئة طويلة الأمد للصراعات الحدودية.

وبغض النظر عن الهدف المباشر من سياسة فصل المسارات وهو تفريق المواقف ومواجهة كل طرف بمعزل عن الآخر فإن من شأن ذلك "تحجيم" الخيارات أمام أي قرار بالتدخل العسكري في شأن سد النهضة.

وراء الأكمة ما وراءها من شر "بايت" ولكنه حتما جزء من مكونات قرار تقسيم مصر ودفعها لمصاف الدول الفاشلة بالمنطقة، ولم لا وهي الموصوفة في أدبيات "الفوضى الخلاقة" بالجائزة الكبرى.
----------------------------
بقلم د.أحمد الصاوي

مقالات اخرى للكاتب

عصافير بايدن





اعلان