23 - 04 - 2024

مصر تنهض من رماد

مصر تنهض من رماد

كان عرضا مبهرا للعظمة الذاتية ، قفز بمصر إلى حيث يستحق اسمها له المجد فى العالمين ، فقد فعلها الأبطال المصريون فى ستة أيام وبعض يوم ، وحرروا مجرى قناة السويس من السفينة الجانحة فائقة الحجم والحمولة "إيفرجيفن" ، وهى أشبه بمدينة بحرية ، طولها 400 متر وحمولتها 224 ألف طن ، سدت بخطأ من قبطانها مجرى الملاحة الأهم فى العالم ، وكان خبراء عالميون يقدرون أن تستغرق المهمة نحو ثلاثة شهور ، واستهان بعضهم بقدرات وملكات مصر والمصريين ، التى بدت ساطعة فى الملحمة ، وبمهندسين وفنيين وعمال من ذهب ، وبتخطيط وتنفيذ علمى مصرى خالص ، أزاحوا نحو ثلاثين ألف متر مكعب من الرمال ، وأداروا مناورات التحريك والتعويم بكفاءة مدهشة ، ولم يغمض لهم جفن فى 168 ساعة عمل متصل ، وإلى أن حققوا النجاح المذهل قبل انقضاء اليوم السابع ، وأعادوا الملاحة إلى المجرى الخالد بإذن الله .

ولم تكن هذه المرة الأولى التى تنغلق فيها قناة السويس ، بل التاسعة على التوالى ، وهى الأصعب والأعقد فنيا ، فقد كانت القناة دائما ترمومتر حرارة العالم منذ وجدت قبل 150 سنة ، وتدافعت مرات تعرضها للإغلاق ، ولأسباب كانت بغالبها ظروفا حربية وسياسية ، وكانت فى المرة التاسعة الأخيرة ظروفا فنية قاهرة ، أمل المتربصون أن تعجز مصر ، لكن مصر كانت كعادتها فى الموعد ، وعند أفضل ظنون ناسها ومحبيها ، وحررت الملاحة فى ظرف أيام معدودة ، وأفسحت المجال لمرور سفن وحاويات بالمئات ، إمتدت طوابير انتظارها من بورسعيد إلى سواحل الهند ، وسط مخاوف فزع من تراكم الجلطات فى قلب العالم ، والفقدان الطويل لأسرع وأيسر ممر ملاحى ، يربط شرق الدنيا بغربها ، وتمر فيه 12% من تجارة العالم و20% من حاملات البترول و30% من الحاويات ، ونقل عبره نحو سبعة مليارات طن بضائع فى الخمس سنوات الأخيرة وحدها ، وكان مشروع إزدواج المجرى المنفذ فى سنة واحدة بطول 72 كليومترا من إجمالى طول القناة البالغ 193 كيلومترا ، قد خفض ساعات عبور القناة إلى النصف ، وجرى تمويله باكتتاب عام للمصريين ، جمع ثمانية مليارات دولار فى ثمانية أيام ، وأعيدت أصول الاكتتاب وأرباحها كاملة للمكتتبين ، وحافظ المشروع المفتتح فى 2015 على خط بيانى صاعد لتزايد إيرادات الملاحة ، برغم تعرض التجارة العالمية لنكسات متوالية ، بلغت ذروتها فى عام جائحة كورونا 2020 ، فوق أن نصف عوائد الاكتتاب العام ، ذهبت إلى تطوير يجرى للمنطقة الاقتصادية الصناعية من حول قناة السويس ، التى انخلع قلب العالم لاحتمالات توقف الملاحة فيها ، وزادت أسعار هبطت تلقائيا مع العودة السريعة للملاحة كما كانت ، بل وبمعدلات أسرع ، لعب فيها العلم والتخطيط ودأب المرشدين المتفانين دوره ، كما التحسب لأى عطل طارئ قد يجئ مستقبلا ، بمضاعفة متوقعة لطاقات قاطرات وكراكات الإنقاذ ، بحسب قرارات جديدة للدولة المصرية ، التى قال رئيسها السيسى مثمنا ممتنا "أن الإرادة المصرية سوف تمضى إلى حيث يقرر المصريون" ، كانت الجملة الطويلة اختصارا لزحام تفاصيل المشهد ومضاعفاته كلها ، فقد عرضت دول العالم القادرة المساعدة على مصر ، واكتفت مصر بأن شكرت وقدرت ، لكنها لم تمد يدها لأحد، ولم تعر التفاتا بالذات لعرض الرئيس الأمريكى جو بايدن ، الذى قال متعجرفا متعاليا "لدينا معدات تفتقدها أغلب دول العالم" ، ولم يكن من رد مصرى غير التجاهل التام ، وغير الاستمرار فى الجهد العبقرى الذاتى لتحرير مجراها الملاحى الأعظم ، فقد تكون قناة السويس أبرز علامة تجارية عالمية ، لكنها أيضا ومن قبل ومن بعد ، عنوان حاسم لتراث الوطنية المصرية ، وليس مسموحا لأحد أن يمسها ، سوى أيادى الوطنيين الطهورين القادرين الأكفاء ، وطينها كما ماؤها والدماء التى سالت فيها ، كلها مقدسة عند المصريين جيلا فجيل .

نعم ، قصة قناة السويس رمز بليغ لكفاح مصر الحديثة والمعاصرة ، وقد لا نستفيض هنا فى رواية التاريخ ، فقط نشير إلى علامات الترقيم الفاصلة ، من نوع ما يعرفه الكل عن عبقرية الجغرافيا المصرية فى قلب المعمورة ، وعن استشهاد نحو 200 ألف مصرى فى حفرها الأول بين عامى 1859 و 1869 ، وعن استيلاء بريطانيا ـ بعد فرنسا ـ على نصيب مصر فى عوائدها ، وعن محاولات مد الامتياز الاستعمارى عليها عام 1910 إلى ما بعد عام 1968 ، الذى كان مفروضا بقوة الغصب ، وجعلها ملكا خالصا للأجانب حتى عام 2008 ، ثم كان ما كان من تصدى الحركة الوطنية المصرية البازغة ، واغتيال الشاب الوطنى إبراهيم الوردانى لرئيس وزراء مصر وقتها بطرس غالى نصير المد ، وردع رغبة الاحتلال البريطانى فى تأبيد الامتياز السارق لثروة البلد ، ثم كانت جولات الكفاح الدامى المتقطع الطويل ، وإلى أن استردت مصر استقلالها باتفاقية الجلاء عام 1954 ، ثم كان قرار جمال عبد الناصر التاريخى بتأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو 1956 ، والرفض القطعى لمؤتمرات تدويلها ، التى قادتها واشنطن وقتها بمعية بريطانيا وفرنسا ، وإلى أن دارت حرب السويس ، واستخلصت مصر قناتها وعوائدها كاملة ، وهزمت العدوان الثلاثى البريطانى الفرنسى الإسرائيلى ، وقطعت ذيل الأسد البريطانى بإجلاء آخر قواعده على رأس قناة السويس ، وكتبت كلمة الختام فى سيرة الإمبراطورية البريطانية ، ثم كانت القناة على الموعد مع عبورها الإعجازى المشتعل بالنار فى حرب أكتوبر 1973 ، وإعادة افتتاح القناة للملاحة فى يونيو 1975 ، وعقد ما يسمى معاهدة السلام التى نزعت سلاح أغلب أراضى سيناء ، وإلى أن عاد الجيش المصرى فى السنوات الأخيرة ، ودهس مناطق نزع  السلاح، وحرر سيناء فعليا لا صوريا ، وجرى استيعاب دروس قناة السويس مدنيا وحربيا ،  وأقيمت ستة أنفاق عملاقة محصنة تحت مياه القناة ، صارت بها سيناء كأنها فى قلب دلتا النيل ، وجعلت من قناة السويس همزة وصل وعروة وثقى ، وحتى لا تعود أبدا كمانع حاجز فى أى حرب قد تجئ أو تفرض ، فأنفاق القناة الجديدة تكفى لزحف جيوش ، إضافة لجيوش استقرت بطول وعرض سيناء ، وبقواعد وموانى ومطارات فوق الأرض وتحتها ، وبإنهاء ناجز لقيود فرضتها المعاهدة المشئومة على طلاقة الحركة المصرية ، وهو ما يفتح الباب مجددا لنهوض مصرى ، يهزأ بمحاولات وخطط ومؤامرات استبدال دور القناة أو منافستها ، أغلبها يجرى فى كيان الاحتلال الإسرائيلى بالذات ، وتدعم من خارجه الإقليمى والدولى المتواطئ ، وهو بعض ما يفسر الحرص والحذر المصرى الدائم ، ومنح الأولوية المطلقة لعمل الطاقات الوطنية وحدها فى مجرى قناة السويس ، والابتعاد به عن أى شبهة تدويل ، حتى لو بدت فى صورة عروض مساعدة بريئة لتعويم سفينة جانحة .

وقد لا ينكرعاقل وجود تحديات تواجه النهوض المصرى الجديد ، قد تتعثر بها أقدامه ، فى اختيارات الداخل بالذات ، وتستحق حوارا وطنيا داخليا شاملا ، لكن استعادة استقلال القرار المصرى ، تظل قضية إجماع وطنى عند الموالين والمعارضين ، وقد تحقق فيها الكثير عبر السنوات الأخيرة ، مما يتوجب استكماله ، وعلى نحو يضاعف دور القوة المصرية المستعادة فى منطقتنا وفى عالمنا ، وقد كانت حرب السويس رافعة نهوض وطنى مصرى وقومى عربى عارم ، جرى الانقلاب على اختياراته للمفارقة بعد نصر أكتوبر 1973 ، حين داس الذين "هبروا" على دماء الذين عبروا "القنال" وحطموا خط بارليف ، وكانت النتيجة الفاجعة ، أن دخلت مصر فى دوامات انهيار ، كادت تضيع فيه أقدار البلد ، بين يمين ثروى منتفخ بالنهب ويمين دينى طافح بالعجز ، وإلى أن جرت إفاقة من الغيبوبة الطويلة ، بثورة الشعب المصرى فى 25 يناير 2011 وموجتها الثانية فى 30 يونيو 2013 ، التى وإن لم تحقق بعد انتصارها الكامل ، فإنها فتحت العين على هول ماجرى ، وأزاحت عوائق من طريق نهوض جديد ، تستعيد به مصر دورها تدريجيا ، وترسم خطوطها الحمراء عند موارد الخطر ، كما جرى فى أزمة ليبيا ، ويجرى الآن عند منابع النيل ، ولم تكن مجرد مصادفة تاريخ ، أن ارتبط تأميم قناة السويس ببناء السد العالى الحافظ لمياه النيل ، ولا هى مصادفة اليوم بغير ذات مغزى  ، أن ذهب الرئيس السيسى إلى أبطال قناة السويس بعد تحرير مجراها الملاحى بأيادى بنيها ، وأعلنها من منصة التهنئة ، فى إشارة مباشرة إلى أزمة السد الأثيوبى عند منابع النيل ، وبالعامية المصرية البليغة ، ومن غير التفاف ولا دوران ، قال الرئيس "محدش يقدر ياخد نقطة من مية مصر ، واللى عايز يجرب يجرب" ، ولعل الرسالة قد وصلت بتمامها وكمالها ، فهى من مصر التى تنهض اليوم من رماد ، والتى إن قالت فعلت.
--------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان