18 - 06 - 2024

نوال السعداوي.. القصة الأصلية

نوال السعداوي.. القصة الأصلية

نوال السعداوي هي واحدة من آلاف بل ملايين النساء اللاتي انضوين منذ منتصف القرن التاسع عشر تحت راية جديدة لحركة انسانية شملت الكون كله ايمانا بأن المرأة تستحق تاريخا جديدا مختلفا عما تعرضت له.

هذه الحركة، مثل (الديمقراطية) التي آمنت ان البشر ليسوا مجرد محكومين بالحديد والنار لملكيات مستبدة، أو "حركة تحرير العبيد" التي آمنت انه لا يحق لإنسان امتلاك أو تعذيب إنسان آخر مثله، أو حركات إطاحة "الإقطاع أو القنانة"، أو الحركات الاجتماعية التي رفضت يشاعات "الراسمالية المتوحشة"، امتدت ايضا لتعزيز وأحيانا تحرير النصف الثاني من المجتمع البشري ، لتسترد معها انسانيتها ، فرفضت كل ماتعرضت له من جور ، وسكتت عنه وأحيانا بررته نسخا من الثقافة الدينية، ورفضت هذه الحركة أن تستمر المرأة عبدا بلا حقوق، جارية تباع في الأسواق ، مطلوبة أو مطاردة لبيت الطاعة، مظلومة تتعرض للضرب والإيذاء البدني، أسيرة لا تملك قرار اتصال او انفصال ، معتقلة لا تملك قرار انتقال ، متفرجة تنتظر ما يبت بشانها طول الوقت من خارجها، واغتنمت هذه الحركة فرصة الديمقراطية الليبرالية وارتضاء الناس للصناديق فخاضت أول معاركها العالمية من أجل التصويت، بوصف ذلك ممرا للوصول للتشريع والتنفيذ مع الرجل، وهو حق دفعت فيه أثمانا غاليا شهيدات واعتقالات وتنكيل.

كان الجور الذي تعرضت له المرأة عابرا للثقافات والمجتمعات، والتحف ضمن ما التحف بغطاءات دينية للاحتماء والتبرير (وما نموذج تفسير - وما ملكت أيمانهم إلا مؤشرا-)، والانصاف والمنطق السوي يقتضي أن يكون النقاش الحقيقي، كما في كل شبر في الكوكب، بعد أن تفتح وعي الناس الحقوقي، إلى أي مدى نجحت المرأة في هذه المسيرة ، ليس فقط لأنه سيؤكد إنسانية المرأة، ولكن لأنه سيؤكد إنسانية الرجل ايضا، بالضبط كما أن تحرير الإنسان للعبد يحرره قبل المسترق ذاته.

هل المرأة التي حصلت في معظم ارجاء الكوكب، بعد عناء، على حق الارتباط او الانفصال دون شروط التفافية، حق تولي الوظائف، حقها في جسدها بعد وقف الختان، حق عدم مطلوبيتها في سجن بيت الطاعة، حق عدم ضربها وإيذائها بدنيا ، حقها في الملكية ، حقها في الانتخاب ، حقها في ثقافة تؤمن بأنها إنسان كامل ، حقها في أسرة صغيرة شفافة وليس واحدة من (حريم كريم)، هل هذه المرأة الموجودة بدرجة اليوم أقرب للانسانية أم امرأة القرون البعيدة التي تعرضت لأوضاع جائرة، وهل جوهر الدين -وأي دين يبحث عن العدالة- أقرب لأي التصورين؟.

لا نوال السعداوي - ولا الحركة النسائية - كان في ذهنهن مهاجمة أديان أو كتابة أفكار ضده ولا هذا موضوعهن، لكن لابد ان نقر أنه حدث تماس، بين رؤاهن في التحرر الانساني وبين تصورات وتفسيرات واستشهادات دينية هنا أو هناك في الإسلام والمسيحية واليهودية ، أو في التحاف الديني لتبرير الواقع القديم.

بالمناسبة ، هذا حدث أيضا في مواجهة المنادين بالديمقراطية (اسألوا لطفي السيد)، وفي مواجهة المطالبين بالتغيير الاجتماعي (اسألوا الاشتراكيين)، وفي مواجهة الداعين لإلغاء الرق (المراجع موجودة) بل هذا حدث وياللعجب مع دعاة طبع المصحف الشريف، حيث اتهموا بالكفر الصريح في معركة لها العجب.

بظني أن نوال السعداوي لو حاسبناها بمنطق أنها اشتطت في هذه الجزئية أو تلك، أو تماست مع هذا التصور الديني أو ذاك ، لن نعدم من تسجيل نقاط، لكن من الإنصاف أيضا قراءة القصة كاملة من كل عناصرها ، ورؤية الأمر ولو باعتباره إشكالية.

في اوربا (والدول المتقدمة) قدمت كاتبات ومثقفات مسلمات عديدات مثلا اجتهادات لم تنضج بعد، أسموها "النسوية الاسلامية" مثلا لحل هذا التناقض، لأنهن بحكم وجودهن في قلب العالم لم يكن ممكنا أن يكون الحل لديهن هو العداء المطلق، كان ما اجتهدوا فيه شيء تختلف أو تتفق معه، أقرب لـ"لاهوت التحرير" الذي أنشأه المتدينون المسيحيون في أميركا اللاتينية ليحلوا تناقض إيمانهم بالعدل الاجتماعي دون الانتقال إلى الإيمان بالماركسية التي ارتابوا فيها.

هذه هي القصة الأصلية لنوال السعداوي.

من يريد أن يقراها كذلك، أو مايقترب من ذلك فهناك مساحات، ومن لايريد أن يقرأها كذلك ويستبدلها بحرب دينية شعواء ومفتعلة، فهذا يتم في مجتمعاتنا من حوالي نصف قرن لكن لن يغير من الواقع شيئا، ففي كل الأحوال التاريخ سيمضي للأمام، أيا ماكان الأمر، والملايين من النساء بفضل نوال السعداوي وهدى شعراوي يحصلن كل نصف ساعة على حق جديد، آخرها في مصر مثلا حقها في الانفصال (الخلع) أو حقها في الشفافية (معرفة تزوج زوجها عليها)

وبظني - أن المؤمن الحقيقي بالله والإنسان - يبارك لاشك كل تقدم في هذه المسيرة.
--------------------------
بقلم: خالد محمود

مقالات اخرى للكاتب

نعم ..





اعلان