23 - 04 - 2024

فات ميعاد أمريكا

فات ميعاد أمريكا

ليس من باب المصادفات ، أن يدعى رئيس وزراء اليابان يوشيهيدى سوجا لزيارة واشنطن أوائل أبريل المقبل ، وأن يكون أول ضيف أجنبى رفيع يلتقيه جو بايدن فى البيت الأبيض ، سبقته زيارة مزدوجة لوزيرى الخارجية والدفاع الأمريكيين إلى طوكيو قبل أيام ، وإعلان واشنطن عن اعتبار اليابان حجر الزاوية فى سياستها بشرق آسيا ، ومواجهة الصين وحصارها اقتصاديا وعسكريا كهدف ، هو نفسه الذى ساق الوزيرين الأمريكيين إلى الذهاب لكوريا الجنوبية بعد اليابان ، وقبلها جمع قادة أمريكا والهند واستراليا واليابان فى قمة اتصال مرئى ، والتمهيد لحملة واشنطن على الخطر الصينى .

بدت ردة فعل الصين هادئة كعادتها الدبلوماسية ، رحبت بالزيارات الأمريكية إن كان قصدها التعاون ، والتحذير منها إن كانت موجهة ضد "طرف ثالث" (!) ، على حد تعبير المتحدث باسم الخارجية الصينية ، فالصين تتحدث بلغة ناعمة ، ولا تذكر شيئا عن قبضتها الحديدية من وراء قفاز الحرير ، بينما تملأ الإدارة الأمريكية الدنيا صراخا ضد الصين ، وضد ما تسميه سيطرة بكين على بحر الصين الجنوبى ، وعزمها على استعادة "تايوان" ، ومن دون أن تخفى واشنطن جزعها من التحدى الصينى ، الذى دفع "كوريا الشمالية" إلى رفض التحدث مع واشنطن ، وكوريا الشمالية بالطبع فى حمى التنين الصينى ، وسمحت لها بكين فيما مضى بإظهار التجاوب الصورى مع إدارة  دونالد ترامب ، وجرى عقد قمتين بين ترامب وكيم إيل جونج زعيم "بيونج يانج" ، ومن دون أدنى تجاوب مع رغبة واشنطن الحقيقية ، وهو الموقف ذاته الذى يتكرر مع إدارة بايدن ، التى أعلنت عن محاولات تواصل أمريكية مع قادة كوريا الشمالية ، وأعلن أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى عن ضرورة نزع أسلحة بيونج يانج النووية ، وهو المطلب ذاته الموروث من الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، وبهدف دفع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية إلى إدامة الاحتماء بأمريكا النووية ، والاستمرار فى فرض عقوبات اقتصادية مغلظة على "بيونج يانج" ، لم تفلح أبدا فى كبح تطورها النووى وترسانتها الصاروخية ، ربما لسبب ظاهر ، هو أن حركة كوريا الشمالية محكومة بإرادة الصين ، التى تملك أوراقا لا تنفد فى الصراع الآسيوى ، كما فى الصراع العالمى مع واشنطن .

ولا تخفى على أحد ، هذه التعبئة الأمريكية الجارية علنا ضد الصين فى شرق آسيا والمحيط الهادى، وهى المنطقة الأهم فى الصراع على مستقبل العالم ، فهى مركز التفاعلات الاقتصادية الكبرى، وفيها وبالقرب منها عمالقة الاقتصاد الكونى ، من أمريكا إلى الصين إلى اليابان والهند واستراليا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إضافة لنمور اقتصاد مؤثرة من نوع ماليزيا وأندونيسيا، واقتصادات ناشئة طالعة على طريقة فيتنام وتايلاند ، فضلا عن صدامات صينية أمريكية جارية فى دول أخرى ، كما يحدث حاليا فى "ميانمار" عقب انقلاب الجيش على "أونج سان سوتشى" أيقونة الغرب المصنوعة، وفيها جرى دفع المتظاهرين لإحراق مصانع واستثمارات صينية ، فالصراع الصينى الأمريكى وراء الحوادث الجارية هناك ، وليس ادعاء أمريكا والغرب بالدفاع عن ديمقراطية موهومة ، لم يقم عليها دليل واحد وقت حكم سوتشى التى منحوها جائزة نوبل للسلام ، ونافست العسكريين فى عملية إبادة وطرد مسلمى الروهينجيا، وتناصرها أمريكا لغايات أخرى ، تماما كادعاء واشنطن مناصرة مسلمى "الإيجور" فى "شينجيانج" ضد الانتهاكات الصينية، أو مناصرة الهند فى صراع "التبت" الحدودى مع الصين ، أو مناصرة متمردى "هونج كونج" ضد الطغيان الصينى ، فهذه كلها وغيرها ، مجرد أوراق لعب أو تلاعب أمريكية ، هدفها حرق الأرض وإثارة المتاعب للسلطة الصينية ، ومن دون جدوى محققة ، وكلنا يذكر ماجرى قبل ما يزيد على ثلاثين سنة ، حين سحقت الدبابات الصينية تمردا ديمقراطيا فى ميدان السلام السماوى "تيانانمين" ببكين عام 1989 ، وقتها فرضت أمريكا والدول الغربية كلها حظرا على بيع الأسلحة ونقل التكنولوجيا للصين ، وكانت النتائج على غير ما اشتهت واشنطن ، وبصورة لم ترد فى أسوأ كوابيس البيت الأبيض ، فبرغم الزيادة الفلكية فى إنفاق أمريكا العسكرى السنوى ، ووصوله إلى حافة 750 مليار دولار سنويا ، وبما يساوى إنفاق الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا والهند وألمانيا واليابان والسعودية مجتمعين، وبرغم الإنفاق الجنونى ، فلا تضمن أمريكا الفوز بحرب فى المحيط الإقليمى الصينى ، التى زادت بإطراد من إنفاقها العسكرى فى السنوات الأخيرة، وصارت أكبر منتج للسلاح فى العالم بعد أمريكا بحسب إحصاءات معهد "سيبرى" السويدى ، وأصبح بوسع بكين ، وبقدرة صواريخها فائقة الدقة، أن تدمر كل قواعد أمريكا العسكرية فى شرق آسيا خلال الساعات الأولى من نشوب أى حرب مفترضة، والصين كما هو معلوم، قوة نووية وفضائية كبرى، لم تلزم نفسها بأى اتفاقات لخفض التسلح النووى ، ولا يتصور عاقل، أن تلجأ أمريكا إلى حماقة شن حرب عسكرية ضدها ، وهو ما يفهمه حلفاء أمريكا الآسيويون ، الذين ترهبهم كوريا الشمالية ، فما بالك بالصين؟ التى تتجه إلى تفوق عسكرى شامل، زادت فيه إنفاقها العسكرى السنوى أخيرا إلى ما يقارب 300 مليار دولار، ولديها بالطبع فوائض مالية تريليونية، تستطيع تمويل صناعاتها الحربية ، وتمويل تعاونها اللصيق المخطط مع روسيا بوتين، ثانى أكبر قوة سلاح فى العالم، وجمع القوة العسكرية الصينية مع مثيلتها الروسية، يشكل قوة أكبر بكثير من قوة أمريكا العسكرية ، التى ترهق الاقتصاد الأمريكى، وتعجزه عن مواصلة المنافسة الضارية مع اقتصاد الصين الصاعد صاروخيا، وفشلت الحرب التجارية الأمريكية فى فرملة صعوده، والتوقعات الغربية نفسها ، تتنبأ بأن يلحق اقتصاد الصين باقتصاد أمريكا عام 2028، بعد أن كانت التوقعات نفسها ، تؤجل موعد زحف الصين لصدارة اقتصادات العالم إلى عام 2032 ، هذا بحساب الأرقام المجردة المشكوك فى أمرها ، بينما بحساب المقارنة على أساس تعادل القوى الشرائية ، فقد وصل اقتصاد الصين إلى القمة من سنوات خلت ، وصارت قيمته الحقيقية السنوية أكبر من 27 تريليون دولار ، بينما القيمة المعلنة للاقتصاد الأمريكى عند حدود 21 تريليون دولار ، مثقلة بديون داخلية وخارجية تجاوزت 25 تريليون دولار .

تطور الصين العسكرى المحتمل إذن، يقفز بالمعجزة الصينية إلى أفق غير مسبوق فى تاريخ الدنيا، ففوائض الصين المالية هى الأكبر بامتياز ، وبكين تحولت إلى أكبر دولة مقرضة ومانحة، ومشروعها المهول (الحزام وطريق الحرير) يمضى بخطوات مذهلة ، وقد صار للصين وحدها أكثر من 35% من تجارة العالم ، واقتصاد الصين هو الوحيد بين اقتصادات الكبار ، الذى حقق نموا إيجابيا فى عام جائحة كورونا ، التى تفوقت الصين بلا منافس فى حصارها ووأدها فى المهد ، وبعمل مبهر تعبويا واجتماعيا وتكنولوجيا ، بينما افترست الجائحة أمريكا واقتصادها ، وهو ما بدت عوائده ظاهرة  فى علاقات الصين وأمريكا مع الاتحاد الأوروبى خلال العام الأخير ، فواشنطن تعتبر أوروبا حليفها التاريخى الأول ، وسندها الأكبر فى الحرب على روسيا والصين ، وكانت المفارقة ، أن صعد حجم تجارة الصين مع أوروبا إلى 586 مليار دولار فى عام 2020 ، والرقم للمعهد الأوروبى للإحصاء ، الذى سجل عجزا تجاريا أوروبيا لصالح الصين قيمته 181 مليار دولار فى العام نفسه ، وهكذا أزاحت الصين أمريكا من فوق عرش التبادل التجارى مع الاتحاد الأوروبى ، الذى تراجع حجم التبادل التجارى لدوله مع واشنطن إلى 555 مليار دولار، وبفائض لصالح أوروبا بلغت قيمته 151 مليار دولار، مع ملاحظة مهمة ، هى أن العام 2020 وما قبله ، شهد أكبر حملة تحريض أمريكية وأوروبية ضد الصين ، استوى فيها سلوك ترامب مع سلوك خلفه بايدن ، وجرى اتهام الشركات الصينية العملاقة بالعمل لصالح الجيش والمخابرات والحزب الشيوعى الحاكم ، فيما بدت الصين على مرونتها الفائقة ، وتصدرها لسباق العولمة الصناعية والتجارية ، فقد صارت مصنع العالم الأول ، والمستهلك الأكبر للطاقة العالمية ، إضافة لقفزاتها التكنولوجية الهائلة ، وتطويرها العبقرى لنظامها التعليمى الذى صار الأكثر كفاءة عالميا ، وبعدد طلاب يجاوز 450 مليونا ، وبطاقة إنتاج رهيبة ، فعدد سكان الصين يساوى أربعة أمثال سكان أمريكا ، إضافة لجاليات صينية ضخمة خارج الصين، تطبع عوالم الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا بصبغة صينية متزايدة الأثر ، وتكاد تنبئ مقدما بنتائج الحرب الباردة الجديدة ، فقد انتصرت أمريكا فى الحرب الباردة السابقة ضد الاتحاد السوفيتى ، لكنه يبدو انتصارا غير قابل للتكرار فى الحرب الجديدة مع بكين ، فالصين قوة كاملة الأوصاف عظيمة التجانس ، وقدرتها على تعبئة الموارد تفوق بمراحل قدرة أمريكا ، التى فات أوان تصدرها للعالم كقوة عظمى أولى ، ولم يعد لها سوى أن ترقص دائخة على أنغام أغنية "فات الميعاد" للست "أم كلثوم" .
---------------------------------
بقلم: د. عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان