29 - 03 - 2024

المعرفة.. ضمير مستتر تقديره الحرية

المعرفة.. ضمير مستتر تقديره الحرية

أستأذنكم في مداعبة اللغة العربية الجميلة  قليلا من الوقت ، واصطحاب "الخيال" معها في نزهة لإطلاعها على أحوالنا وحياتنا ، وبكل تأكيد سأقفز فوق قواعدها وألعب معها.. فأنا و"اللغة" في نزهة شرعية "نرفع" خلالها المستقبل و"نجر" الماضي، على أن يكون الحاضر محل "سكون" وتحت مراقبة "الضمير".

الضمير عند الناس غير محكوم بقواعد صارمة مثل ضمائر اللغة العربية، لذلك يضعنا دائما في حيرة أمام اختياراتنا وتضحياتنا، وأبناؤه غير متساويين في القوة مثل نظرائهم في اللغة .. ضمير " المتكلم" مثلا ، هو الأقوى ، وبيده "المنع والصرف"، ويستطيع أن يرفع متى ووقتما يشاء، حتى لو كان المرفوع ظالما أو فاسدا ، كما يمكن له أن يجر أي شىء حتى لو كان المجرور أمة بأسرها، وفوق كل ذلك  يجوز له "النصب" بأي وكل شيء حتى لو كان بالدين والأخلاق.. "ضمير الغائب " أضعفهم ولا حول له ولا قوة، وضمير "المخاطب" دائما ما يكون محل سكون.. بينما ضمائر اللغة الثلاثة متساوية في القوة يستطيع أي منها الرفع والجر والنصب.

ضميرا "المخاطب والغائب" في حياتنا عموما، غالبا ما يشاركا في جملة "مبنية للمجهول"، وهما في حاجة إلى "طاقة" ليدخلا إلى " جملة فعلية " مبنية على المعلوم، و"الطاقة" ضمير مستتر تقديره "المعرفة"، ومرفوع بالحقوق العامة والخاصة، وعلامة الرفع "الدستور"..

المعرفة، هي "ماء وهواء" الزمن الحالي، مثلما كان مطلب مجانية التعليم الابتدائي لكل الناس في القرن الماضي كالماء والهواء، والذي واصل صعوده الاجتماعي بعد ثورة يوليو 52، إلى أن أصبح ببلاش تقريبا في الجامعة والدراسات العليا، بل ويمنح المتفوق فيه راتبا شهريا من الدولة.

و المعرفة يجب أن تتاح للجميع، على الأقل في المرحلة الابتدائية التي لا تدخل "السياسة" في مناهجها.. ومن حق كل مواطن يسدد الضرائب للدولة أن يعرف المعلومات الصحيحة الصادرة من جهات موثوق فيها حول كل ما يتعلق بما ينفقه المواطن على مأكله ومشربه وسكنه (بالخصوص) وعلاجه ودوائه وتعليم أبنائه، حتى يتمكن من تكوين حلول بديلة، إذا ما كان المعروض أمامه لا يتفق مع أحوله المعيشية، فضلا عن ضبط إيقاع إنفاقه والتعايش مع المفاجآت غير المتوقعة، لكن أن يكون نصف إنفاقه على ما هو معلوم بالضرورة والنصف الآخر على مجهول ينقض عليه فجأة، فحتما ينهار "إيقاع" الإنفاق (من أساسه) على رأس صاحبه .. الأمر لا يتجاوز أكثر من تعريف المواطن بالمخاطر التي قد تواجهه من خلال بيانات ومعلومات رسمية، يعاقب من يخفيها أو يضللها، سواء كان شخصا عاديا مثلي أو شخصا اعتباريا مثل المؤسسات التنفيذية في الدولة.

وحرية المعرفة بنص الدستور، في حاجة إلى قانون يؤكد على إتاحتها وينظم تداولها ويمنع فوضتها، وقد صدر بالفعل قانون العام 2018  تحت مسمى "حرية تداول المعلومات" استجابة لأوامر الدستور ، لكنه صدر بفلسفة "القانون الجنائي" بنوده اهتمت فقط بالعقاب و لم تلق بالا لـ"الإتاحة".

قوانين العقوبات لم تمنع الجريمة، لكنها تجعل الناس يترددون ألف مرة ومرة قبل التهور و الإقدام على الخروج عن النظام العام والأعراف والتقاليد .. والمعرفة عموما لا يصح ولا يليق بالمصريين أن يتعاملوا معها بمنطق وفكرة "العقوبات" لانها تفقد التشريع عموما أي تأثير اجتماعي له، سواء كان في السلوك العام أو أنماط التفكير السائدة، مثل المثل الشعبي "اللي مالوش كبير يشتريله كبير" ربما يعفيه من عقوبات وإجراءات القانون.

"حرية تداول المعلومات"، هي الضمير "الغائب" عن مجتمع الحداثة والنمو .. هي الضمير الذي يمكننا من مواجهة الحقائق المرة التي تحيل حياتنا إلى عذاب يومي بسبب الفوضى والعشوائية التي تضربها في المدرسة والمستشفى والوزارة والمصلحة والنادي والفندق والمصيف والغيط والمصنع .. حقائق مرة لا يصح ولا يليق تجاهلها أو عدم مواجهتها بشجاعة.. وبدون قانون يبيح (بجد) حرية تداول المعلومات، ستبقى عمليات التحديث الجارية الآن في الاتصالات والمعلومات، مجرد "وصلات" سلكية و لاسلكية لتداول وتبادل النكات والبيانات غير الموثوقة، ولا أثر اجتماعي إيجابي لها، ما قد يتسبب في مزيد من الشقوق والانهيارات في "صالون" المعرفة عند المصريين، يحجب غباره الرؤية عن الوصول إلى مجتمع الحداثة، ويبقينا على ما نحن عليه الآن، لا نعرف متي نقول نعم، وكيف نقول لا؟ .. يجب أن نعيد لـ"المعرفة" هدوءها ، ونبدأ من أول السطر ونكتب: الحرية للمعلومات.
-------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم


مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان