26 - 04 - 2024

جديد بايدن الموهوم

جديد بايدن الموهوم

ربما لا جديد نوعيا فى السياسة الأمريكية نحو إيران ولا غيرها فى منطقتنا ، فما تفعله إدارة جو بايدن الجديدة ، لايختلف فى جوهره عن اختيارات سلفه وغريمه دونالد ترامب، فقبل نحو شهرين، وقبل دخول بايدن إلى البيت الأبيض بأكثر من عشرة أيام، كتبت مقالا بعنوان "لعنة ترامب الإيرانية"، نشر بتاريخ 9 يناير 2021، وقلت فيه بالنص "صحيح أن بايدن أعرب عن استعداده المبدئى للعودة للاتفاق النووى الإيرانى، وصحيح أن إيران تستبشر خيرا بالإدارة الأمريكية الجديدة، لكن لعنة ترامب التى أصابت اتفاق 2015، وانسحابه منه أواسط 2018، وفرضه لعقوبات الضغط الأقصى على إيران، كلها مآزق مستحكمة، تجعل العودة للاتفاق الأصلى احتمالا غير قريب ولا أكيد".

  وبعد أسابيع ترقب متصلة، لاتزال القصة الإيرانية تراوح مكانها، برغم اتصالات الطرفين الأمريكى والإيرانى فى الكواليس، والوقائع اليومية فى المشهد الأمامى، وكلها تشير إلى المأزق المستحكم، وعلى نحو ما تعبر عنه تصريحات مريرة للمسئولين الإيرانيين، من الرئيس حسن روحانى إلى وزير خارجيته جواد ظريف، وهما فى الجناح "الإصلاحى"، الذى راهن بشدة على بايدن، وداعب أحلام العودة إلى سياسة باراك أوباما الرئيس الأمريكى الأسبق، الذى عمل بايدن نائبا له لثمانى سنوات، بما فيها وقت عقد الاتفاق المريح نسبيا لإيران، لكن سفن بايدن المشتهاة لم تأت بعد، ولم يرفع شئ من عقوبات ترامب القصوى، اللهم إلا سحب طلب رمزى بإعادة فرض عقوبات دولية على إيران، قدمه مايك بومبيو آخر وزير خارجية لترامب، ولم يكن الطلب أكثر من سد خانة، وسلوك دبلوماسى مفرط فى عدوانيته، ولكن بلا أثر فعلى ولا قيمة قانونية، خصوصا فى ظل "الفيتو" الروسى والصينى المتحفز فى مجلس الأمن الدولى، وهو ما تدركه الإدارة الإيرانية طبعا، ويجعلها تستهين بلفتة بايدن منزوعة الدسم، فالإدارة الإيرانية تريد عودة أمريكية صريحة مباشرة إلى اتفاق 2015، وبغير تعديل ولا زيادة، وتريد قبلها رفعا كاملا لعقوبات ترامب، بينما تريد إدارة بايدن حشر إيران فى المأزق، وجرها إلى دهاليز مفاوضات جديدة، كلفت بها الحلفاء الأوروبيين، الذين دعوا إلى عقد اجتماع للدول الخمس، مبرمة اتفاق "لوزان" مع طهران، بما فيها الصين وروسيا وأمريكا طبعا، وهو ما جعل إيران ترفض حضور الاجتماع، وإلى أن تعود واشنطن للاتفاق رسميا، وهو ما لا تبدو إدارة بايدن ذاهبة إليه قريبا، ولا هى فى عجلة من أمرها، وتعانى من ضغوط تيار ترامب فى الداخل، ومن ضغوط إسرائيلية بالذات، تضع العصى فى العجلات، وتعترض على عودة واشنطن للاتفاق الإيرانى، وتضيف مسائل حرجة على جدول الأعمال، من نوع تقييد برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وتحجيم نفوذ إيران فى المنطقة، وهو ما تكرر بإلحاح فى تصريحات أنتونى بلينكن وزير خارجية بايدن، وترفضه طهران بصورة قطعية، وتحرك بيادقها فى العراق واليمن بالذات، بهدف تكثيف الضغوط على الإدارة الأمريكية، وبما دفع بايدن للرد الرمزى، وبطريقة تشبه ما سلف من سلوك ترامب، وتوجيه ضربة خاطفة لفصائل عراقية موالية لإيران فى شرق سوريا، وهو ما يعنى استعداد إدارة بايدن لاستخدام اللغة العسكرية مجددا ضد إيران، وبهدف إرغامها على قبول تفاوض جديد مختلف، لا يريده حكام طهران، وبالذات فى دائرة المرشد الأعلى على خامنئى، الذى لوح بإمكانية رفع إيران لنسبة تخصيب اليورانيوم إلى ستين بالمئة، وعدم الاكتفاء بتجاوزات إيران السابقة لشروط الاتفاق النووى، ورفعها لنسبة التخصيب من 3.67% كما ينص الاتفاق، إلى نسبة العشرين بالمئة، ومضاعفة كمية اليورانيوم المخصب المسموح بها إلى اثنى عشر مثلا، ووقف الالتزام بالبروتوكول النووى الإضافى، وإلغاء عمليات التفتيش المفاجئ للمواقع النووية الإيرانية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والزج بإيران إلى موضع حرج دولى، وإلى إدانات جديدة، تبرر دعوى التورط الإيرانى فى التخطيط بصناعة أسلحة نووية، برغم عقد طهران لاتفاق الثلاثة شهور مع الوكالة الدولية لتنظيم التفتيش والمراقبة، ربما على أمل من طهران لإتاحة وقت إضافى، قد ينتهى معه التردد الأمريكى فى العودة لاتفاق 2015، وهو ما لايبدو واردا ولا أكيدا، خصوصا مع توقع صعود إدارة إيرانية متشددة فى انتخابات يونيو المقبل، وفى ظل التزام واشنطن المخفى بدعم خطط عسكرية إسرائيلية معلنة، بتنفيذ هجمات مباشرة على مواقع إيرانية حساسة، قد تسد الطريق إن جرت على احتمالات عودة واشنطن للاتفاق الإيرانى.

ليس فى القصة الإيرانية إذن، سوى توزيع أدوار جديدة على اللحن القديم، وسوى أقوال أمريكية مختلفة فى الظاهر، فيما يبقى السلوك نفسه فى المحصلة، وهى الحالة نفسها، التى نراها فى تصرفات أمريكية أخرى بالمنطقة، من نوع استخدام الفزاعة الإيرانية لترهيب الكيانات الخليجية التابعة بالخلقة لواشنطن، واستخدام جماعات إيران من نوع "الحوثيين" وغيرهم، بهدف إدامة وتشجيع مصادر التهديد المتصل للمملكة السعودية بالذات، ودفعها لتقبل وربما لرجاء إقامة شبكة قواعد عسكرية أمريكية جديدة على أراضيها، وبدعوى تأكيد التزام واشنطن بالدفاع عن السعودية، فى الوقت نفسه الذى تجرى فيه عملية "خض ورج" للحكم السعودى، وممارسة الضغط على ولى العهد السعودى محمد بن سلمان، وإبراز اتهامه بالتورط  فى عملية قتل وتقطيع جثة جمال خاشقجى، كما فى تقرير نشر للمخابرات الأمريكية، يبدو فى نصوصه الايحائية، أشبه بتقرير صحفى لا عملا مخابراتيا، ولا يراد من نشره سد الطريق الملكى على بن سلمان كما يشاع، بل مواصلة استنزاف الثروات السعودية، وجلب مئات مليارات الدولارات الجديدة لخزانة واشنطن، إضافة لمئات مليارات سبقت أخذها ترامب، فقد تستخدم واشنطن ورقة حقوق الإنسان، ولكن لكسب مصالح لا علاقة لها بالمبادئ، وهكذا كان الحال الأمريكى دائما وبدرجات متفاوتة، وبما لا يتيح  فرصة عزاء لأيتام واشنطن، الذين يحلمون بتدخل أمريكى لإسقاط أنظمة لا يريدونها، بينما واشنطن أدرى بمصالحها، وليست جمعية خيرية، وتستخدم هؤلاء على طريقة مناديل الكلينكس، ويزيد مأزق هؤلاء الأيتام فى حالات عربية مختلفة عن الحالة الخليجية، فالذين يعولون مثلا على دور لواشنطن فى تغيير النظام المصرى، لا يدركون أن مياها كثيرة جرت تحت الجسور، وأن حاجة القاهرة الرسمية لواشنطن تراجعت بشدة فى السنوات الأخيرة، وأن ما تبقى من المعونة الأمريكية العسكرية لمصر، صار شيئا هامشى التأثير، خصوصا بعد سياسة تنويع مصادر السلاح المصري، وإعادة التركيز على تطوير الصناعات الحربية، وتلاحق صفقات السلاح المليارية لمصر من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، إضافة لواردات السلاح الضخمة المتطورة من الصين وروسيا، وهى حقيقة كبرى، عبر عنها ترامب نفسه فى أيامه الأخيرة بالبيت الأبيض، حين اتهم مصر علنا بأنها تأخذ المعونة الأمريكية لتشترى السلاح الروسى (!)، فى تعبير فج عن ضيق أمريكى بسياسة السلاح المصرى الجديدة، وهو ما كان ظاهرا فى أول اتصال رسمى علنى بين القاهرة وإدارة بايدن، فقد عبر بلينكن وزير خارجية بايدن عن بالغ ضيقه فى اتصاله الهاتفى مع سامح شكرى وزير الخارجية المصرى، وأشار بالذات إلى تحذير من صفقة شراء مصر لطائرات "سوخوى ـ 35" من روسيا، ومن دون أن ينسى التلويح كالعادة بورقة حقوق الإنسان، وهو ما لقى تجاهلا ملحوظا من الإدارة المصرية، ولسبب بسيط تعلمه أمريكا طبعا، فقد عقدت الصفقة بالفعل، وبدأ التنفيذ من شهور، وهو ما ذكرته مصادر كثيرة، بينها المصادر الإسرائيلية، التى تحدثت عن صفقة مصرية لشراء 500 دبابة روسية إلى جوار أسراب السوخوى ـ 35 ، ومن السلاح إلى الاقتصاد والسياسة بالجملة، فلا شئ يتغير فى مصر إلا من داخلها ، وليس من أى مكان آخر.

والمعنى الباقى ببساطة، أن بايدن فيما يخصنا لا يختلف إلا فى الاسم وطريقة الكلام عن سلفه ترامب، الذى عاد بقوة إلى جدال الداخل الأمريكى، وظهر متحدثا أبرز أمام المؤتمر السنوى لفكر المحافظين قبل أيام، وتوعد بمعركة قاسية لكسب الأغلبية فى انتخابات الكونجرس المقررة أواخر العام المقبل، وبدا كأنه الملك المتوج للحزب الجمهورى، وتوعد بعقاب انتخابى باتر لمن تبقى معارضا له بالحزب، ومن تخلف عن تبرئته فى محاكمة الكونجرس الأخيرة، وبدا منتشيا طاووسيا واثقا من عودته للبيت الأبيض فى انتخابات 2024، وسخر مرارا من ضعف بايدن، الذى يقضى أيام رئاسته أسيرا لإرهاب واختيارات ترامب الجوهرية بالداخل والخارج.
-----------------------------
د. عبد الحليم قنديل 

[email protected]

المقال منشور في المشهد الأسبوعي

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان