28 - 03 - 2024

بيت الله الذى لا يرتاده أكثر الناس

بيت الله الذى لا يرتاده أكثر الناس


لا يخرج المرء من السجن أبداً كما دخله: فهناك من يخرج منه وقد انكسرت إرادته، وهناك من يغادره وقد قويت شوكته .. هناك من يخرج منه وقد تمادى فى حماقته، وهناك من يغادره وقد نضجت حكمته … هناك من يخرج منه غارقاً فى بئر اليأس، وهناك من يغادره وهو يمرح فى مروج الرجاء … وهناك من يخرج منه غاطساً فى أوحال العدمية، ومن يغادره وهو يقف بثبات فوق صخرة اليقين.

كانت أطياف هذه الثنائيات وأمثالها تتردد دوماً فى رأسى، وعلَّها ظلت تراود مُخَيِّلتى، وتداعب صورُها مرآة العقل والضمير داخلى، فلم تزل ترافقنى وأنا أسبح فى بحر الأيام التى تفصل بين الشاطئين؛ ولقد كنت أسائل نفسى بشأنها وأنا فى محبسى، حائراً لا أعرف أى شطر من أشطُر هذه الثنائيات أو غيرها سيُعَبِّر عن حالتى عندما أخرج من السجن أو حين أغادره؟! … كنت أعتصم فى تعاملى مع هذه الصور الإنسانية المتنافرة بالنظر إلى صورة السماء - كما تتراءى لعين الرائى – كلما سمحت لى ظروف الاحتجاز بأن أرى صورة السماء، حتى وأنا أعلم أنها مجرد صورة تداعب الحواس لكنها لا تُعَبِّر عن مكان بعينه ينتهى إليه البصر، ولا هى تُعَبِّر عن ألوانٍ يتزين بها هذا الأفق السماوى، أو ما يعتقد أكثر الناس أنه – حقيقةً أو مجازاً - “مكان” تتمدد فيه السماء بردائها الأزرق “السماوى”!

كثيراً ما كنت أُغمِض عينَىَّ لأرى صورة أخرى للسماء غير تلك الصورة التى يدركها البصر: فللسماء صورة أخرى تدركها البصيرة، تتكون داخل النفس فلا يراها غير صاحبها؛ فإنما هى صورة تترجم ما بقى فى نفس الإنسان من الفطرة التى فُطِر عليها قبل أن تتراكم عليها أتربة الأيام ... كثيراً ما ألهمتنى هاتان الصورتان – صورة السماء كما تراها الحواس، وصورتها كما يراها الإحساس - أن أرى أبواب الخروج وهى تُفتَح أمامى، لا على الشارع الذى يقودنى إلى رحاب بيتى، وإنما على الطريق التى تقودنى إلى رحاب بيت آخر لا يراه أكثر الناس، وأعنى به بيت الله – أو هو بيت الحقيقة - الذى يعتكف فيه المتصوفة، أو هى قلة منهم ترى أن بيت الله الحقيقى ليس بناءً من حجر، أياً كان اسم هذا البناء، وإنما هو بناء آخر اسمه الإنسان! .. هو الإنسان إذن بألف لام التعريف، لا إنساناً بعينه يسكنه الله دون غيره!

ولقد اتخذ الله من الإنسان بيتاً له حين نفخ فيه من روحه فصار أقرب إليه من حبل الوريد! وربما كان هذا ما عناه الحلاج فيما قال وفيما عبَّر عنه فأساء التعبير، أو ربما أحسن الحلاج التعبير فأساء الناس فهمه وإدراك معانيه، وأوَّلوا كلماته بما يناسب قدرتهم المحدودة على فهم الكلمات وإدراك المعانى، أو بما يوافق أهواءهم ونزواتهم، أو بما يتماهى مع ما ورثوه عن سابقيهم وما تلقوه عن معاصريهم من أفكار استقرت فى الضمائر كما تمكنت من العقول، أو هم حكموا عليه بما يحفظ الولاية لشيوخهم ويستجيب لمصالح ساستهم ولسلطان حاكميهم!

لا أعنى بالصوفية هنا إذن هذه الصيغة الشعبوية التى نراها فى الموالد، وفى حلقات الذكر، أو فى مواكب التبرك حول الأضرحة، وفى جلسات المريدين وهم جلوس خاشعين فى حضرة شيخهم الذى يأخذ منهم العهد فيقرون له بالولاية التى يوَرِّثها هو من بعده لذويه أو لأقرب خلصائه إليه! … وإنما أعنى بالصوفية هنا هذا النهج الفلسفى والروحى الذى يسير فيه الصوفى باحثاً عن الله – أو عن الحقيقة - فى أعماق النفس الإنسانية التى ألهمها الله فجورها كما ألهمها تقواها، فاختار أكثر الناس أن يُمَكِّنوا للفجور من عقولهم ومن ضمائرهم قبل أن يُمَكِّنوه من أجسادهم ومن جوارحهم؛ حتى لقد ضل أكثر الناس الطريق عن حى التقوى فى مدينة النفس، بعد أن ضاعت منهم خرائط الطرق التى تقودهم إلى بيت الله الأقرب إليهم من حبل الوريد، فأخذوا يسعون إلى بيوت أكثرها ضرار: فلا هى تسكنها روح الله، ولا هى تأوى إليها الحقيقة!

الصوفية التى أقصدها إذن هى هذا النهج فى التفكير، وفى التعاطى مع معطيات الحياة، الذى سبق فى نشأته نشأة الدعوتين المحمدية والمسيحية، بل وسبق فى وجوده وجود كل الديانات؛ فلا هو نهج أنبتته حديقة الإسلام، ولا هو نهج أنبتته حديقة المسيحية، بل هو الحديقة التى نبتت فيها أشجار كل العقائد الدينية فى كل زمان ومكان، أياً ما كان الاسم الذى تسمت به هذه الحديقة فى هذا الزمن أو ذاك، أو على لسان أتباع هذه العقيدة الدينية أو تلك.

قد نجد هذه الصوفية فى رياضة النفس التى مارسها المسيحيون والمسلمون الأوائل، وقد نراها فى تلك القالة التى اشتُهِرت عن سقراط، أو هى القالة التى قيل إنها كانت تزين معبد أبوللو فى "دلفى" ببلاد اليونان، ففسرها سقراط للناس أن "اعرف نفسك بنفسك" بلا وسطاء، ولا أوصياء، ولا قوانين قد تحكم الدولة، ولا أعراف قد تحكم المجتمع، لكنها فى كل الأحوال قوانين وأعراف لا سلطان لها على النفس الإنسانية إن هى نجحت هذه النفس فى التحرر من سلطان كل القيود التى تمنعها من الوصول إلى الحقيقة، ومن التواصل مع تجلياتها بغير وسيط قد يفسد العلاقة بينهما، اللهم إلا وسيط العقل ووسيط الضمير؛ فكان أن حكم أكثر الناس على سقراط بالموت، كما حكموا به على الحلاج من بعده، ومن ثَمَّ تجرع سقراط السم ليغادر عالمنا إلى عالم الحقيقة التى سَعَى للوصول إليها سَعْى من لا يرى لسعيه نهاية؛ فالله موجود فقط فى دنيا الحقيقة، لا فى دنيا الأوهام، ولا فى دنيا الخرافة، ولا فى دنيا صنعها أصحاب السلطان – أياً كانت طبيعة هذا السلطان - لتحكم عقول وضمائر البشر، وتَصرِفهم عن رؤية الحقيقة كما هى مطبوعة على صفحة مرآة النفس.

كنت قد بدأت بعض هذه الرياضة الصوفية - بمعناها الفلسفى والروحى – قبل دخولى السجن بسنوات طويلة، وكانت هى ما أعاننى على تجاوز كل محنة مرت بى؛ إذ استعنت بها فى محبسى لأتجاوز قيود الأسوار والعنابر والزنازين إلى عالم النفس المتحرر من كل الأسوار، فلا زنازين فيه ولا عنابر! … فى عالم النفس هذا توجد دروب غير مطروقة تقود إلى دنيا الله، أو هى دروب تقود إلى دنيا الحقيقة التى لا وصاية عليها من أحد ... ربما أجهدنى هذا أكثر مما كانت تجهدنى رياضة الجسد التى كنت أحرص عليها فى حدود ما هو متاح فى السجن من مساحة زمنية ومكانية للتريض لا سلطان لى عليها، بعكس مساحة ممتدة - بلا حدود يفرضها الزمان والمكان - كنت أمارس فيها رياضتى الصوفية التى حافظَت على توازنى الإنسانى، وجعلتنى قادراً على مواجهة كل الخطوب، وعلى أن يفتح العقل والضمير أبواباً يظنها أكثر الناس لا وجود لها لمجرد أنهم لا يرونها!

الحديث عن "بيت الله" بالطبع هو تعبير مجازى، فالله خارج الزمان المكان، وهو ليس مقيماً وإن كان موجوداً فى بنى الإنسان … فى بيت الله هذا - الذى كنت أرتاده بما تيسر لى من خرائط النفس - وجدتنى وأنا أتحاور مع من انتسب البيت إليه، أو وأنا أناجيه، فأطرح عليه أسئلتى الوجودية عن خرائط القَدَر، وعن قواميس المعانى الملحقة بها … بالطبع لم أتلق إجابة عن أسئلتى الوجودية هذه، فأسئلتنا عن القَدَر هى دائماً أسئلة اختيارية، يملك صاحب الأقدار أن يجيبنا عنها أو أن يمتنع عن الإجابة إلى حين يرى أن زمن الإجابة قد حان؛ وهو إن أجاب عنها فبإشارات يلتقطها فقط من يجيد التقاط إشارات القَدَر.

بيد أن أسئلة صاحب الأقدار لنا – فى المقابل – هى أسئلة وجوبية، يضيع الإنسان فى دنياه إن هو فشل فى قراءتها، أو إن هو فشل فى الإجابة عنها؛ ولقد أجبته عنها بقدر ما أتيح لى من رؤية تُعَبِّر عن ضعف الإنسان وعن جهله أكثر مما تُعَبِّر عن قوته أو عن علمه؛ فعسى أن أكون قد أجبت عنها بما يحررنى من ثِقَل الطين الذى خُلِقت منه، حتى ولو كان نجاحى الذى أنشده قد جاء بدرجات الرأفة، لا بدرجات أستحقها عن قوة أو علم أو امتياز؛ فقد خُلِق الإنسان ضعيفاً، وهل هناك أضعف ممن خُلِق جسده من صلصال كالفخَّار الذى يسهل كسره؟! اللهم إلا من اكتوى فخَّاره بالنار، واعتصم وهى تكويه بحبل الحقيقة التى أودعها اللهُ العقلَ كما أودعها الضميرَ؛ فهكذا ينجو الإنسان بقوة حبل الحقيقة، لا بقوة جسده الفخارى وإن بدا قوياً لا يُقهر، حتى وإن تكاثر على الإنسان المعتصم بحبل الحقيقة أصحاب الضربات ممن لا يريدون لهذا البيت – الذى هو الإنسان بألف لام التعريف - أن تكون له حقوق تُمَكِّنه من رؤية الحقيقة، أو تمكنه من الوصول إليها ومن اللوذ بها؛ فلا هم يريدونه أن يتحرر من شراك بيوتهم الضرار التى تتكاثر كالفِطر هذه الأيام، ولا هم يريدونه أن يحرر عقله وضميره، حتى وإن تحسسوا فخَّاره فرفقوا به كى لا ينكسر فيُخرِج ما فيه من عقل لا يستريحون لوجوده، ومن ضمير لا يريدون سماع صوته، ومن إرادة يخشون بأسها إن هى انكشف عنها الغطاء وتحررت من قيد الوعاء!

---------------------------

بقلم: د. حازم حسني

مقالات اخرى للكاتب

أسئلة الطريق





اعلان