20 - 04 - 2024

ضرائب الدموع والضحك والرقص .. والعقاب!

ضرائب الدموع والضحك والرقص .. والعقاب!

أبكت الجباية المصريين ، وأضحكتهم ، وعاقبتهم وأغضبتهم ، واحتالت عليهم كثيرا، واحتالوا عليها أكثر، ولم تكتف بكل ذلك إنما رقصت لهم ومعهم في الشوارع والملاهي الليلية ..وكل تلك الدموع والضحكات وهذا الرقص والعقاب ، كانوا يمضون عبر التاريخ على إيقاع الصبر وحبال الشقاء. 

سالت دموع المصريين لأول مرة من الجباية عندما احتل الرومان مصر وقرروا منع أي فلاح مصري من أخذ أي حبة قمح من أرضه التي يزرعها بنفسه بعد حصاد المحصول إلا إذا أمر الحاكم الروماني بغير ذلك ، وكان ذلك القمح يتم تشوينه في صوامع ترابية لحين شحنها إلى روما .. وبعد الشحن يذهب الفلاحون إلى تلك الصوامع بأوامر رومانية للبحث في ترابها لعل وعسى يجدوا بقايا من القمح.. ولما انكفأ الفلاح على أرض الصومعة سالت دموعه .

أما الجباية التي أضحكت المصريين رغم غلظتها ، فكانت في عهد السلطان المملوكي الأشرف برسباي الذي كان مجتمعا يوما ما مع عدد من أمراء المماليك وانكشف رأس أحدهم ، وكان أصلع ، فانفجر الحضور ضحكا وسخروا منه ، فطلب الأمير من السلطان أن يوليه كبيرا للصلع في مصر، ووافق السلطان الأشرف وأصدر مرسوما سلطانيا لذلك الأمير الأقرع ، فما كان من كبير الصلع إلا أن نزل شوارع القاهرة وأخذ يكشف رؤوس المارة ، ومن يجده أقرع أو أجلح ( ليس له شعر على جانبي رأسه ) يفرض عليه نقود جباية حتى ضج الصلعاء واشتكوا للأمراء الآخرين فتوسطوا لدى السلطان لإيقاف تلك المهزلة حتى نودي في الحارات والأزقة : معشر القرعان لكم الأمانٍ.

هناك أيضا جباية أسعدت مصلحة الضرائب ذاتها ، بلحمها وشحمها، هي تلك المحصلة من الرقص الشرقي .. ومنذ سنوات ليست بعيدة كاد أهل "الجباية" يرقصون  مع راقصات الفنادق والملاهي الليلية فرحا بسبب تسجيل رقم قياسي في تحصيل الضرائب من الفنانة فيفي عبده وزميلاتها  الشرقيات ، بلغ 400 مليون جنيه.

والتاريخ يشير لنا أن بلدنا هي أشهر دولة في فرض الضرائب على الرقص منذ عدة قرون نظرا لعوائدها الجيدة ومساهمتها في ملء خزينة الدولة ..في الماضي ، فرضت الجباية على راقصات الشوارع في العصر المملوكي ، واستمرت حتى القرن التاسع عشرحيث تم إلغاؤها بضغط من رجال الأزهر وبعض الشخصيات الدينية الذين طالبوا بحظر الرقص في الشوارع العامة ..أما الآن تمثل الضرائب على الرقص الشرقي خامس أهم دخل في خزينة مصر (وفقاً للتقديرات). 

نأتي إلى ضرائب العقاب .. فقد تم فرض جباية على أي مصري يسعى إلى الفرحة و الترويح عن نفسه ـ أي والله ـ وإذا ذهبت مع أصدقائك أو أسرتك ، أو حتى بمفردك ، إلى أي مسرح في مصر لمشاهدة عرض كوميدي مثلا للهروب من مشقة الحياة ولو لساعتين ، عليك أن تدفع ضريبة عامة لمجرد الفرجة والمشاهدة ، كما تنص القوانين ، تضاف إلى قيمة تذكرة الدخول ، بالرغم من انخفاض مستوى العائد من تحصيلها لانكماش سوقها وعزوف الطبقة المتوسطة عن التردد على المسارح فضلا عن فقر الإنتاج المسرحي والإنقضاض الخبيث على دور الثقافة عموما في مصر لحساب المقاولين الجدد.

كان وما زال ، من الممكن إلغاء مثل تلك الضريبة ، مع إعفاءت أخرى تؤدي إلى خفض أسعار تذاكر المشاهدة ، ثانيا لعائدها المتدهور حاليا ، وأولا من أجل تشجيع الجمهور على شراء تذاكر منخفضة السعر لدخول المسارح ومشاهدة الأعمال الفنية ، ما يحدث انتعاشا في عوائد المنتجين ويشجعهم على إعادة تدوير أرباحهم في إنتاج مسرحي آخر، وهكذا إلى أن ينتعش المسرح ويستعيد المصريون (ولوساعتين كل شهر) ملجأ من ملاجىء الراحة والسعادة والفرحة التي تم ردمها تحت غبار الهدم منذ زمن غير بعيد .. كشفت ضريبة "الفرجة" على الفنون ، أن الجباية في مصر تتم بدون رؤية اجتماعية ـ ثقافية ، بل ابتعدت عن قواعد علم الضرائب ذاته ( نعم علم) الذي يقوم على فلسفة ضريبية تبدأ من عند المواطن وتنتهي عنده أيضا بخدمات في التعليم والصحة والمواصلات حتى الفنون والثقافة والرياضة .. الضرائب في مصر فلسفتها العقاب ومنهجها العذاب ومن يرفض فالضرب بالقبقاب!!

الحديث عن الغضب الذي تفجره الجباية داخل بيوت المصريين منذ عصر الفراعنة إلى العصر الحديث ربما يبدأ بالدهشة ، ولا يقف أمام المناكفة ، ولا ينتهي عند الثورة ، فقد اعتاد المصريون على الجباية ، وهي اعتادت عليهم وتعرفت إليهم عن قرب ، وجلست معهم داخل بيوتهم وشاركتهم طعامهم وملبسهم ومسكنهم  ، ورغم ذلك شعروا بالمرارة تنقض على حلوقهم من قانون الشهر العقاري الذي تم التراجع عنه مؤخرا ، لكن غريزة التحايل التاريخي على المصاعب التي اكتسبها المصريون حولت المرارة إلى وقود في ماكينة السخرية والنكات لديهم، لتدور الآلة وتنتج عبوات جديدة من السلع الفكاهية تشمل كل مظاهر الحياة في المحروسة ، بداية من السياسة ومرورا بالدين إلى  الحب والزواج .. ماكينة النكات وصلت إلى البرلمان وأوقعته في حرج بالغ عندما تم نشر "بوست" على مواقع التواصل الاجتماعي يزعم ان البرلمان سيقوم باستطلاع هلال الشهر العقاري أعاده الله عليكم بالجباية والغرامات.. وإلى الأسر والعائلات والأزواج بوست آخر يحذر الرجال من مغبة عدم تسجيل عيالهم في الشهر العقاري حيث سيتم سحب العيال من الأب الذي لا يسجلهم ويحرموه من كلمة بابا !! ..ولم ترحم ماكينة السخرية والنكات الفنون والأغاني كذلك حيث نوه أحدهم على المواقع تحت عنوان "خبر عاجل" أنه تم منع أغنية بيت العز للمطربة الراحلة فايزة أحمد لحين تسجيل البيت بالشهر العقاري ، حتى المشاعر والحب والزواج لم ينج أيا منها ، ونشر أحدهم "بوست" كتب فيه لزوجته أو ربما خطيبته : إنت اللي متسجلة في القلب والباقي صحة توقيع .. التاريخ والآثار طالتهم السخرية عندما نشر "بوست لرجال الآثار وهم يوقظون الملك خوفو من مرقده لكي يسرع بالذهاب إلى الشهر العقاري لتوثيق الهرم الذي بناه ، بينما قدم احدهم الرثاء لصديق له تزوج على مراته في شقة غير مسجلة داخل عمارة مخالفة.. حتى الدين تم توظيفه لتمرير السخرية والنكات : " بيقولوا الاعتكاف في العشر الأواخر من الشهر العقاري ثوابه كبير قوي عند الحكومة!!

الغضب عند المصريين دائما ما يكون طاقة مكبوتة ، لا تجد لها مخرجا إلا من خلال ألسنتهم ، هم مسالمون , طيبون، يسمعون الكلام ، لكنهم يحولون المتاعب والمصاعب إلى طاقة إبداع أحيانا ، وطاقة عمل كثيرا ، وطاقة سخرية دائما ، وجميع حكام مصر تعرضوا للسخرية واطلاق النكات عليهم ، لم ينج أحد منهم ، حتى أن كان لديهم موظفون مخصوصون لمتابعة ما يردده العامة والناس عن الفرعون والسلطان والملك ، وفي العصر الحديث كان الرؤساءعبد الناصر والسادات ومبارك حريصون على سماع سخرية الشعب والنكات التي يطلقونها على كل منهم تواليا.

في جميع الأحوال نشكر الجباية .. صحيح أنها تبكينا وتعذبنا وتغضبنا وتؤلمنا و"تخرب بيوتنا أحيانا" إلا أنها تضحكنا ولا مانع من ترقيصنا.

------------------------

أحمد عادل هاشم  





























مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان