26 - 04 - 2024

خزائن الأيام

خزائن الأيام

يبدو أن صورتى التى نشرتها أمس الأول قد أثارت لغطاً كبيراً حتى لقد فسرها البعض بأنها تعبير صارخ عما تعرضت له من إهانة، وعما أصابنى من انكسار أو شعور بالهزيمة، رغم ما أشرت إليه فى الرسالة المصاحبة للصورة من أنها تعبر فقط عن حالة الإرهاق الذى أصابنى بعد ليلة بيضاء مضت وهى لا ترحب بملَك النوم فى مجلسها.

على أية حال، فإن توضيح الحقائق يبقى واجباً أخلاقياً، أياً كان حجم الخلاف السياسى مع النظام؛ لذا فإننى أؤكد لكل الأصدقاء أن أحداً لم يوجه لى أية إهانة لفظية أو جسدية، ولا أنا انكسرت أمام ضغوط الاعتقال – أو أياً كان التوصيف القانونى الذى سجلته الأوراق لهذا الاعتقال – منذ لحظة ما تصفه الأوراق الرسمية بالضبط والإحضار، وحتى لحظة مغادرتى قسم الشرطة متوجهاً إلى منزل العائلة.

بالطبع ستبقى عالقة فى الذاكرة – وإلى أمد طويل - صور "الكلبشات"، وسيارة الترحيلات، وبلاط الحبسخانة، وأجواء الزنزانة، وأقفاص الحجز وراء القضبان، وجلسات تجديد الحبس الدورية أو ما تلاها من جلسات توجيه اتهامات إضافية انتقلت بى من مواجهة تهمة المشاركة لجماعات "إرهابية" فى تحقيق أهدافها مع علمى بهذه الأهداف – وهى تهمة قد تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد – مع نشرى أخباراً كاذبة من شأنها "ترويع" المواطنين الآمنين – وهى مجرد جنحة والحمد لله ! - إلى مواجهة تهمة الانضمام لجماعة إرهابية (لا مجرد المشاركة) – وهى تهمة قد تصل عقوبتها للإعدام – إلى مواجهة اتهام ثالث بناءً على بلاغ تقدم به أحد "المواطنين الشرفاء" الذى "تضرر" من مواقفى وآرائى السياسية التى تتعارض مع مواقف وآراء سيادته – وكأن المطلوب هو أن أتماهى بالضرورة مع آرائه ومواقفه – مطالباً بفصلى من الجامعة كى لا أبث "سمومى" فى أدمغة الطلبة الأبرياء، فضلاً عن إساءتى للجيش (لا أعرف كيف) مما يُسقِط عنى أى انتماء وطنى، ويضمنى لقائمة الخونة والعملاء والمتآمرين!

هل يمكن استدعاء كل هذه الصور – وغيرها كثير – باعتبارها صوراً من صور الإهانة؟ .. ربما! .. لكننى أقصد بعدم تعرضى للإهانة أن أحداً خلال فترة اعتقالى، التى طالت لسبعة عشر شهراً، لم يوجه لى لفظاً خشناً، ولا هو تعامل معى بطريقة فظة ... ما حدث معى، ولا أعمم هنا على ما يحدث مع غيرى، هو أننى عوملت معاملةً طيبة، ولكن – بالطبع – كنزيل فى ليمان طرة، لا كنزيل فى منتجع سياحى، أو فى فندق فئة الخمسة نجوم، أو حتى فى فندق الحرم الزينبى! … تحضرنى فى هذا الشأن واقعة تعرضى نهاية شهر رمضان الماضى – أى منذ نحو عام مضى - لأزمة صحية حادة بسبب عدم انتظام ضغط الدم، وهو مرض مراوغ كما يعلم الجميع، إذ وجدت من إدارة السجن ومن ضباط الأمن الوطنى وقتها اهتماماً ورعاية طبية جادة، بل ورعاية إنسانية اقتضت مغادرتى الزنزانة لعدة أيام أمضيتها تحت رعاية خاصة تساعدنى على استرداد صحتى البدنية والنفسية؛ ولا أعرف إن كان هذا الاهتمام الزائد وقتها نابعاً من أخلاق أصحابه، أم هى تعليمات عليا كانوا ينفذونها، أم هما الأمران معاً.

أياً ما كان الأمر، فإنه تبقى للسجون فى كل الأحوال قسوتها، كما تبقى لمذاق الظلم فى أعماق النفس مرارته، وتبقى خيوط الأيام التى ضاعت من أطراف بساط العمر شاهدة على ما ضاع من رونق البساط … قد ينسينى الزمن بعد أن يمضى فى طريقه قسوة السجن، أو بعضاً من قسوته؛ وقد تهدأ النفس مع الأيام – ولو بعد حين – فتغفر لمن أذاقها مرارة الظلم ظلمه، أو بعضاً من هذا الظلم؛ لكن كيف أغفل فى أى وقت من الأوقات عن بساط العمر وهو يستصرخنى أن أرد له اعتباره وأن أعيد له رونقه؟! وهل يغفر العقل يوماً لمن شوَّه وجه الحقيقة خطيئته؟! وهل يعفو الضمير يوماً عمن أساء للعدالة، وسعى لأن يُسقِط عن صاحبة الميزان ريشتها التى تزين رأسها؟! وهل تغفو باقى الذكريات فلا تعود تطارد الذاكرة، وتعطل عمل العقل إن هو اختار طريق الحكمة فى تعامله مع المستقبل، وأراد أن ينفض عنه ضغوط الاستسلام لإساءات الماضى؟!  

تساؤلات تتزاحم فى الرأس - مع تساؤلات أخرى كثيرة – موضوعها مستقبل الأيام كيف سيكون … تساؤلات تحتفظ خزائن الأيام المقبلة بإجاباتها، وهى كعادة الأيام لا تتيح لأحد فتح أبواب خزائنها قبل موعدها؛ وحتى يحين هذا الموعد فإن آلة التفكير ستظل تعمل كى تجد المفاتيح التى تفتح أبواب هذه الخزائن حين تلقيها الأيام بين أيدينا؛ وعلَّ نجاح آلة التفكير فى العثورعلى هذه المفاتيح أن يكون "قريباً، وقريباً جداً”!!

----------------------

بقلم: د. حازم حسني

نقلا ع صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات اخرى للكاتب

أسئلة الطريق





اعلان