01 - 11 - 2024

"سيدي الكلب"..

المثل الشعبي قصة قصيرة للغاية ،و بلغة العصر يكاد يكون "فمتو قصة" إن صح التعبير ..كلماته قصيرة و"بتجيب من الآخر " ولا مانع من اللف والدوران للوصول إلى الهدف المنشود، ويوجز خبرة الأجداد والآباء في كلمات بسيطة تحمل معاني كبيرة. ولعل أكثر الأمثال تداولا في الشارع المصري " إن كان لك حاجة عند الكلب قوله ياسيدي" فهو يختصر خبرة الأجداد والآباء في التعامل مع القوة الغاشمة التي يمثلها المستعمرون المتلاحقون على مصر منذ عهد الحيثيين إلى حقبة العثمانيين.

وكما يقول عالم المصريات وسيم السيسي أن المصريين كانوا يرددونه منذ وجود الاستعمار بمصر في الحقب الزمنية البعيدة حيث كان يراه الشعب قوة باطشة ولذلك شبهوا المستعمر بالكلب.. ورغم انتهاء عصور الاستعمار الغاشم، إلا أن المصريين ما يزالوا يرددونه إلى الآن في ظل الحكم الوطني.. بل لم يكتف المصريون بقصة "الكلب" رغم (القضاء على الاستعمار) إنما أنتجوا تواليا أمثالا شعبية أخرى تؤكد حكمة "الكلب" وتدعم فكرته بمثل شعبي جديد يحض على "بوس الأيد اللي ما تعرف تعضها".. وتتوالد "الكلاب" في حياتنا جيلا تلو الآخر، وتلف وتدور ـ بوفائها المعهود ـ حول القوة الباطشة التي تمتلكها السلطة الوطنية سواء بالقانون أو غيره.. وهكذا إلى أن أوصلنا "الكلب" إلى " إمشى جنب الحيط" لتتجنب وجع الراس والمتاعب من أصحاب القوة الذين يرفضون مشاركة غيرهم السلطة، وبالطبع وجد " الكلب والحيطة" الترحيب من أصحاب المال والنفوذ وأهل الحل والعقد باعتبارهما يكرسان في أذهان الناس ـ على الأقل ـ فكرة الخطورة والمغامرة لمن يرفع رأسه ويتطلع إلى الجلوس معهم في المقاعد الأمامية، ليمد يده في طبق الثروة والنفوذ ويأخذ من "منابهم" من اللحم!

انتهى المبرر التاريخي من وجود وتداول قصتي الكلب والحائط، لكن الزمان لم ينته بعد ومايزال في القصة بقية.. فالكلب ما يزال ينبح في ضمائرنا ومشاعرنا ومعتقداتنا وإذا شعرت ببرودة الحياة وقسوتها فلن يعطيك أحد غطاء إنما "على قد لحافك مد رجليك".. وهكذا تم التحول الجيني في المثل الشعبي وباتت نظرية الكلب التي واجه بها المصريون الاستعمار، مفتاحا للتعايش مع حياة جديدة، حياة الدولة الوطنية التي لم تتنازل هي الأخرى عن القوة الغاشمة مرة بالقانون ومرات بالسلطة الأبوية للحاكم لتبقى حقوق الناس تحت مشيئة السلطة والأعراف والتقاليد والثقافة السائدة.. وبدأ الكلب يتكاثر ويتوالد إلى أن علا نباحه مخاطبا المصريين: اتمسكن حتى تتمكن.. وعندما امتعض البعض واستنكر هذا النباح الذي يجعلك تبيع كرامتك لكل وأي شخص، يرد الكلب: "أنا عبد المأمور".

التوجس من السلطة الغاشمة سواء كانت على مقاعد الحكم أم على موائد الأعراف والعادات والتقاليد المتوارثة ساهم بدرجة كبيرة في أشاعة ثقافة الخوف وتعميمها بين الناس إلى أن تاهت معانيها وابتذلت مفراداتها، حتى اضطر البعض منا أن ينفخ في الزبادي قبل أكله لأنه اتلسع من الشوربة، وأن يسد الباب الذي تأتي منه الريح حتى يستريح.

وانتشر كلب الاستعمار في كافة انحاء الحياة وبدأ الجميع يستعينون به في إسداء النصائح وإخراج الحكمة، ووصل المثل الشعبي إلى جميع المهن الهامشية في المجتمع.. فاللص مثلا يؤمن بشدة في "إن سرقت اسرق جمل" والخاطبة تقول لك "يا واخد القرد على ماله يروح المال ويفضل القرد على حاله" بينما ارتدت الحموات وزوجات الأب ثوب الحكمة ورددن: "يامربي غير ولدك ياباني في غير ملكك" دون أن يدركن إنهن يقطعن أواصر الرحمة والتكافل اللتان يتميز بهما المصريون.

المثل الشعبي ومضة بلاغية تنقل خبرات الناس المتراكمة من قصص الحياة المتعددة والمتكررة بأشكالها المتنوعة والمختلفة وتفيض في النهاية في نهر الموروث الثقافي الخالد.. لكننا لوثنا النهر وألقينا فيه فضلاتنا، وحجبه عن الرؤية أصحاب النفوذ والمال، وأصبح نهرنا الثقافي مرتعا للهيش رغم الكم الهائل من المسلسلات والأغاني والٱدب.. يا فرحة ماتمت خدها الغراب وطار؟
----------------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

تأمين المؤن والذخيرة للمقاومة الفلسطينية .. الوقت ينفد!