29 - 03 - 2024

رأيت في ثورة يناير مصر التي تخيلتها

رأيت في ثورة يناير مصر التي تخيلتها

لن أغير العالم لكن أقل ما يمكنني فعله هو الانتصار للحق من خلال حكي التاريخ بصوتي وكتاباتي. حينما كنت أزور مصر أثناء طفولتي قابلت سيدات أصيلات. نساء جميلة وقوية لديها صوت وسلطة وحضور لم أر مثلهن في أي مكان آخر. كن قويات حازمات بقدر تدفق الحنان والحب والعطف من قلوبهن. ينصت الجميع لحديثهن العذب وحكاياتهن الجميلة. يثرن إعجاب الجميع أثناء سيرهن فى الطرقات من فيض الأناقة والجاذبية.

 النساء المصريات لديهن براعة فى فنون الطهى يقمن بإعداد موائد عامرة يجتمع عليها مختلف الأجيال، الصغير والكبير، الطعام الحديث والطعام التقليدى القديم . نعم إلى الآن لازلن قويات مهما بلغن من العمر. 

في ذلك الوقت أيضا، قابلت سيدا وقورا دمث الأخلاق حكى لى الكثير والكثير عن تاريخ مصر، من خلال ذكرياته وما مر به من أحداث أثناء تنزهنا فى شوارع وعلى شواطئ الإسكندرية الجميلة، ومن خلال حكاياته شاهدت الكثير من تراث الإسكندرية ، حكى لى الكثير عن ساكنيها فى تلك الحقبة عندما كان شابا فقد سكنها يونانيون، إيطاليون، بريطانيون.. مسلمون مسيحيون وأيضا يهود، وجميعهم اتفقوا على عشق الإسكندرية، عندما كانت بالفعل عروس البحر المتوسط والتى جمعت أكثر من خمس ثقافات. 

تعلمت وأنا معه أـيضا كيف أنقش كعك العيد مثل الجميع هناك، وكيف أشترى الخضار والفاكهة من البائع المتجول بإنزال السلة (السبت) من شرفة المنزل (البلكونة). تعلمت منه كيف يكون الرجل نظيفا أنيقا، يعتنى بأدق تفاصيل ملابسه. فكان حين يخرج من المنزل يتخير أحلى الثياب وأكثرها اناقة مرتديا حذاءه النظيف اللامع غير عابيء بالغبار والأتربة وحرارة الجو فى محطة الرمل بالإسكندرية. كان هذا الرجل هو النموذج الحقيقى للمصرى فى وسامته ونزاهته وكرم أخلاقه والتزامه بمبادئه. لطالما كنت أتمنى أن يكون هذا الرجل حيا أثناء ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ليرى ما حققه الشباب فى هذه الثورة.

مصر في وجدانى وعقلى وقلبى عبارة عن حكايات رواها لى أبى المصرى الأصيل، وأمي الأجنبية المصرية الهوى، فهى تعشق مصر ربما أكثر من بعض المصريين .حكايات رويت على لسان الأجداد والآباء والأقارب، ورويت فى قصص نجيب محفوظ وطه حسين وشاهدتها فى أفلام الأبيض والأسود، لقد عشت فى مصر بخيالي ووجداني لمدة عشرين سنة أرى فيها الحاضر بعيون الماضي، أحاول تنقية الهواء حتى أرى السماء الزرقاء والمياه الصافية النقية.

أسير فى الشوارع والحارات الضيقة حاملة بداخلى ذكريات أبي عن البيوت والفيلات القديمة ذات الأعمدة العتيقة الصامدة، والحدائق الواسعة وما تحوي من زهور زاهية الألوان فواحة العطر، قاصدة ماتبقى من المقاهي القديمة، حيث كان يجلس الرجال الوقورون ذوو الأحذية النظيفة اللامعة والملابس الأنيقة يقرأون الصحف ويتحاورون.

هذه هى مصر التى أعرفها فى وجداني، وطالما حلمت أن أعيش فيها. ثم حلت سنة ٢٠١١ وفى يوم ٢٥ يناير منها هتفت بداخلي (أخيرا استفاق أبناء بلدي وأهلي)، فلقد بدأت إرهاصات ٢٥ يناير منذ ٢٠١٠ حيث كانت الجمعيات وبعض المجموعات الشبابية والحقوقية تنظم وقفات احتجاجية فى الشوارع وعلى الشواطيء بالإسكندرية، معبرة عن رفضها لوحشيه وعشوائية أجهزة الامن وما تلفقه من تهم وافتراءات على المواطنين واستمر الحال بين كر وفر، حتى انتفضت تونس الخضراء فى يوم ١٨ ديسمبر ٢٠١٠ ضد الديكتاتورية والفساد.

رجت العاصفة التونسية أرجاء الشرق الأوسط، وتلقفت مصر الراية لتنتفض هي أيضا ضد الديكتاتورية والفساد والفقر والجوع، ليكون المطلب الأول والأخير هو عيش حرية عدالة اجتماعية وكانت شرارة الانطلاق قد عبرت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتشارك الجميع سواء المصريون أو التونسيون خبراتهم من خلال تلك الوسائل، فمنهم من برع فى ابتكار وسائل الحماية ضد الغازات المسيلة للدموع التى أطلقتها قوات الأمن، ومنهم من أعد الخطط للفرار من بطش الشرطة، وتكونت المجموعات والفرق كل يحاول المساعدة للوصول إلى الهدف الذى ثار الجميع من أجله، نعم لقد كانت ثورة، ثورة حقيقية بكل معنى الكلمة، نعم كان الجميع يرابط فى ميدان التحرير فى ثورة شعبية هائلة جمعت كل المصريين، كان التحرير عباره عن لوحة كبيرة شملت الكبار والصغار، الرجال والنساء، مسلمون وأقباط، كلهم كانوا متناغمين، قلوبهم متعلقة بالأمل والهدف الكبير، الحرية. 

كان الأقباط يحمون المسلمين أثناء الصلوات، وكان المسلمون يحمون الأقباط أثناء صلواتهم، حمى الشباب كبار السن، وحمى الرجال والشباب النساء والفتيات ضد بطش الأمن والشرطة.

 كانت ملحمة كبيرة، الجميع يساعد ويساهم، النساء يعددن الطعام للرجال والشباب ينظفون الميدان والخيام، الأطباء تطوعوا لعلاج المصابين، صاغ الشعراء بكلماتهم أتراح وافراح الميدان بغضبه وآماله.

وبدورهم حول الموسيقيون هذه الأشعار لأغاني، جمعت شمل العالم العربي بآسره .امتلات الحوائط والأرضيات بالرسوم، نعم بالفعل كانت ملحمة عظيمة ألهبت اغانيها وأشعارها حماس الجميع، وانتقل الحماس إلى الجوار العربى. نعم توحدنا جميعا فى ميدان التحرير من هو داخل مصر ومن هو بالخارج، من يتقن اللهجة المصرية ومن لايتقنها، الجميع اصبح ضمن النسيج الواحد الموجود فى ميدان التحرير، أصبح الجميع فخورا بمصريته.

جعلنا ميدان التحرير يعرف من هم المصريين، لقد كبرنا نحن جيل الشباب حيث رأينا وطننا مصر يتراجع عاما تلو الآخر، مما جعلنا نشعر بالعجز وقلة الحيلة وانعدام المعنى وفقدان الأمل، وفجأة أيقظنا ميدان التحرير وأعاد الأمل إلى نفوسنا، ورأينا من خلاله الجواهر والكنوز الخفية فى هذا الشعب، فانطلقنا جميعا صارخين مغنين ضاحكين وباكين، انطلقنا في أرجاء الأرض. فقد البعض منا عائلاتهم وأصبحوا كالغرباء، فأصبح لهم عائلات جديدة. أدار الأصدقاء ظهورهم لنا، وكسبنا أصدقاء أصدق منهم، وفقدنا بيوتا وصنعنا لأنفسنا بيوتا افتراضية عابرة للحدود والقارات، فمشاعرنا وذكرياتنا هى الشيء الوحيد الذى لايقوى أحد على سلبنا إياه. لذا من واجبنا الحفاظ على ذكرياتنا أينما كنا.

لابد أن نحكي قصة التحرير مرة تلو الأخرى، حتى وان سرقت منا وتسببت في حالة الحزن والجرح العميق المؤلم، ولهذا أنا سعيدة نعم سعيدة لبكائى، حتى بعد مرور ١٠ سنوات على ثورة يناير، سعيدة ومازلت أفتخر بهذا التأثير الذى مازال بنفس قوته، حتى مع مرور ١٠ سنوات، وكانه حدث اليوم، سعيدة لأنى مازلت أتذكر الضوء، بمقدار تذكرى للظلام الذى أضاءه ذلك اليوم.

 نعم سعيدة، لأنى مازلت قادرة على الدفاع عن روح ميدان التحرير وطاقته أينما كنت. فأنا محظوظة لكوني حرة أستطيع الاحتفال بهذا اليوم، وأغني أغانيه واتذكر وجوه من صنعوه وشاركوا أحداثه، وسوف أستمر فى احتفاظى بذكرياته فى عقلي وقلبي، من أجل بقاء صوت وصورة شهداء التحرير حية فى وجدان الجميع، ولنردد جميعا لم يمت أحد هدرا، رحم الله شهداء الثورة.
--------------------------------
بقلم: نيفين علاء زين الدين
باحثة دكتوراه في جامعة السوربون
ترجمة: ايمان معارك، د. رضا صبحي

مقالات اخرى للكاتب

رأيت في ثورة يناير مصر التي تخيلتها





اعلان