25 - 04 - 2024

"حظ عوالم" لترامب

فى مقالنا "ترامب طريد المؤسسة"، الذى نشر قبل أسبوعين من نهاية محاكمة دونالد ترامب الثانية فى مجلسى النواب والشيوخ الأمريكيين، توقعنا بالنص والحرف "سقوط الإدانة وتبرئة ترامب ، حتى بعد رحيله عن الرئاسة ، وفوز ترامب بالبراءة للمرة الثانية ، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين" .

وقد تحققت البراءة بالفعل، ومن دون أن يعنى ذلك توقف مطاردة المؤسسة الحاكمة لدونالد ترامب، الذى تنتظره ملفات مفتوحة فى محاكمات جنائية، من نوع التحايل والتهرب الضريبى فى محاكم ولاية نيويورك، أو التورط فى الضغط على مسئول فى ولاية جورجيا، كاد ترامب ـ وهو فى الرئاسة ـ يأمره فى مكالمة مسجلة بإضافة 11 ألف صوت لحسابه، إضافة لدعاوى جنائية فى قضايا تحرش واعتداء جنسى قديمة متنوعة، مع إمكانية محاكمة ترامب جنائيا فى قضية التمرد واقتحام مبنى الكونجرس وسقوط قتلى وجرحى يوم غزوة 6 يناير الفائت، إلى غيرها مما يقلق راحة ترامب بمنتجعه الفخم فى "مارالاجو" بولاية فلوريدا، فهو لا يضمن أن يصاحبه "حظ العوالم"، الذى صادفه فى محاكمات الكونجرس، وجعله يفوز سياسيا، حتى بعد إخفاقه الانتخابى وفقدان سلطانه الرئاسى، وفى مصر يطلقون تعبير "حظ العوالم" تندرا على حالات مشابهة لوضع ترامب، و"العوالم" فى العامية المصرية جمع "عالمة" لا عالم، والعالمة هى الراقصة المشهورة سيدة مجالها، وقد تأتى من أوساط وبيئات غاية  فى الفقر والتواضع، لكنها تقفز إلى ثروة مهولة بحركات الجسد اللولبى \، وتصبح من علية القوم فى لمح البصر، وتحرك الكبار المحنطين بإشارة من طرف الإصبع، أو بغمزة عين، تماما كترامب الذى ظل معزولا وحيدا فى منتجعه منذ ترك البيت الأبيض، لكنه أرغم الكبار المعتقين فى الحزب الجمهورى بمط شفتيه على طاعته، والحيلولة دون إدانته فى المحاكمة الثانية بمجلس الشيوخ، تماما كما جرى فى المحاكمة الأولى، وهو فى مقعد الرئاسة، وفى المرتين، كان الديمقراطيون هم الذين صاغوا قرار الاتهام، وهذه مهمة مجلس النواب، وكان للحزب الديمقراطى أغلبية فيه، تناقصت مع الانتخابات الأخيرة، برغم فوز مرشحهم جوبايدن بالرئاسة، لكنها ظلت كافية لتوجيه قرار اتهام ترامب بالتمرد، وبهدف عزله سياسيا  فى المحاكمة الأخيرة، ومنعه من تولى منصب تنفيذى أو تشريعى فى المستقبل، طبقا لنص التعديل الرابع عشر فى الدستور، وهو ما لم يتحقق، مع الانتقال من الاتهام إلى المحاكمة فى مجلس الشيوخ، بسبب ميل غالبية مشرعى الحزب الجمهورى إلى تبرئة ترامب، وكان يلزم انحياز 17 عضوا منهم إلى الإدانة حتى تحوز نصاب الثلثين المطلوب، وهو ما لم يحدث، ليس حبا فى ترامب، الذى أدانه صراحة "ميتش ماكونيل" زعيم الكتلة الجمهورية فى مجلس الشيوخ، لكنه رفض التصويت لصالح الإدانة رسميا، خوفا من غضب ترامب، المقاول والملياردير، الذى تحول للمفارقة إلى رمز سياسى، صار له التأثير الحاسم على قواعد الجمهوريين، وبيده مفاتيح الفوز أو الفشل لكبار الجمهوريين فى أى انتخابات تشريعية مقبلة، وأولها انتخابات التجديد النصفى لمجلسى النواب والشيوخ أواخر العام المقبل 2022، التى يريدون الفوز بها لكسر سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس بمجلسيه، ثم أن الحزب الجمهورى يبدو بلا رأس صالح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024، وقد يضطر إلى إعادة اقتراض ترامب، ليخوض عنه المنافسة الرئاسية، برغم أن ترامب ليس عضوا قديما فى الحزب الجمهورى، وقد سبق له المرور عابرا على عضوية الحزب الديمقراطى والتبرع له، ودونما اقتناع بفكرة هذا الحزب أو ذاك، فالرجل ابن الصفقة لا سليل الفكرة، وعلاقته بالسياسة أضعف كثيرا من عشقه لبرامج تليفزيون الواقع، وقد برع فيها، وصار نجمها الأشهر المنافس لعارضة الأزياء الداخلية "كيم كارداشيان"، وقد استضافها ترامب بالبيت الأبيض فى مارس 2020، برغم أنها كما تقول من المناصرين للحزب الديمقراطى المنافس، وتمتاز كما هو معروف ببلاغة مؤخرتها ونصفها السفلى، فيما يتميز ترامب ببلاغة لسان ديماجوجى ذرب، وبطريقة كلام ولغة جسد تشبه "رعاة البقر" فى أفلام "الويسترن" الهوليوودية، جعلته زعيما محبوبا مفضلا لجماعات تفوق العرق الأبيض، التى تشاركه زعمه بسرقة وتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح بايدن، الذى بدا حزينا مفجوعا لتعذر إدانة ترامب فى جريمة الاقتحام المسلح لمبنى الكونجرس، وتحدث مجددا عن ديمقراطية أمريكا "الهشة"، فيما وصفت نانسى بيلوسى زعيمة الديمقراطيين الشرسة يوم تبرئة ترامب بأنه "أكثر الأيام خزيا فى تاريخ أمتنا"، لكن استطلاعات الرأى العام كان لها قول آخر، فأكثر من نصف الأمريكيين الشبان مع تبرئة ترامب، والغالبية الساحقة من الجمهويين، وبنسبة تصل إلى 85%، لا يرون زعيما لهم أجدر من ترامب، وابن ترامب "دونالدجونيور" غرد على "تويتر"، وكتب (2 ـ صفر) على طريقة نتائج المباريات الرياضية، وأرفق مع التعليق صورة مصنوعة لأبيه، بدا فيها كالملاكم مفتول العضلات، فيما بدا ترامب نفسه منتشيا بالنجاة مما أسماه "الاضطهاد السياسى الانتقامى"، عبر محاكمتين فى الكونجرس خلال عام واحد، انتهتا إلى لا شئ يدينه رسميا، وأعطتا له دور الضحية المطاردة من المؤسسة الحاكمة، المعبرة فى الجوهر عن مصالح المجمع العسكرى الصناعى التكنولوجى، التى لم يتخلف طرف فيها عن المشاركة بكتم صوت ترامب بعد حادثة غزو الكونجرس، وحرمته من الظهور نهائيا على وسائل التواصل الاجتماعى، وبما قد يعطى دفعة إضافية لدعوى ترامب الأصلية عن فساد مؤسسة واشنطن، أو ما يسميه البعض بالدولة الأمريكية العميقة ، التى تحملت بضجر تصرفات رئاسة ترامب المنفلتة، وإلى أن نفد الصبر، ووجدت المؤسسة ضالتها بعد هزيمة ترامب الانتخابية رسميا، التى لم يعترف بها هو ولا أنصاره إلى اليوم، فلا تزال استطلاعات الرأى المتوالية تسجل انشقاق جمهور الناخبين، ونصفهم يعتقدون بتزوير الانتخابات، وهى فكرة تعاود انتعاشها بعد تبرئة ترامب الأخيرة، وإعلانه عن البدء مجددا بما يسميه "حركتنا الوطنية الرائعة من أجل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، وبما يوحى باحتمال عودة ترامب إلى لعبته المفضلة، وغرامه بجعل نفسه محورا للحوادث والأخبار، مع إعلان المقربين منه عن استعداده للإدلاء بحوارات تليفزيونية، قد تتسارع إليها وسائل الإعلام الكبرى، وتشغل بها أوقات البث والاهتمام، خصوصا أن الرئيس الحالى بايدن يبدو شخصا باهتا، فاز فقط بتجميع الأصوات الكارهة لترامب وفظاظته الشخصية، ولا توحى تصرفاته الرتيبة بمنحه كاريزما يفتقدها، ولا بالخلاص من لعنة كونه ظلا للرئيس الأسبق باراك أوباما، ولم يصل بايدن بعد إلى بصمة تخصه، فهو موزع بين إرث رئيسه السابق أوباما وإرث ترامب نفسه، وقد ترك له الأخير معضلة جائحة كورونا التى تواصل افتراسها لأمريكا، ولم يتحقق فيها بعد نجاح لافت فارق عن أيام ترامب، ويتوقع فريق بايدن أن يصل عدد المتوفين الأمريكيين بكورونا قريبا جدا إلى 600 ألف شخص، برغم تراجع إجمالى الإصابات وتحصين عشرات الملايين باللقاحات، إضافة لاستمرار زحف الصين الاقتصادى العظيم، وإطاحتها بأمريكا مؤخرا من فوق عرش سباق التبادل التجارى مع الاتحاد الأوروبى، وثبات ألمانيا على اتفاقية خط "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الطبيعى من روسيا، وعسر التوجه لإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووى الإيرانى، كما وعد بايدن فى حملته الانتخابية، بسبب تراكم ألغام وعقوبات ترامب على الطريق إلى طهران، وتردد بايدن فى مخالفة وجهة نظر كيان الاحتلال الإسرائيلى، الذى منحه ترامب قدما فى الخليج باتفاقات إبراهام مع الإمارات والبحرين، فنهج ترامب لا يزال مؤثرا وعائقا فى سياسة أمريكا الخارجية، ناهيك عن ثبات تأثيره فى الداخل الأمريكى، فلا يملك بايدن حتى اليوم، سوى استمرار الشكوى من خطورة جماعات تفوق العرق الأبيض، وسوى التحذير من جرائم حمل السلاح الفردى المقرر بحكم الدستور، ويناصره ترامب إلى أبعد مدى، ويكسب به شعبية مضافة، فوق ارتباط اسمه بالحرب الاقتصادية مع الصين، التى توالى قفزاتها الكاسحة الماسحة لمكانة اقتصاد أمريكا كونيا.

وقد يحتاج ترامب إلى "حظ عوالم" إضافى، ينقذه من مطاردات المحاكمات الجنائية المتعددة، تماما كما أنجاه من محاكمات الكونجرس، التى لجأ محاموه فيها إلى سلوك استعراضى ذكى، ولم يستخدموا من الوقت الممنوح لهم البالغ 16 ساعة، سوى ساعتين ونصف الساعة فقط، اكتفوا فيهما بنماذج موثقة من شيوع الاستخدام  السياسى لتعبير "القتال" المتهم به ترامب، الذى كان الديمقراطيون أسبق إليه، ودعوا جميعا إلى "القتال" دون أن يحاكموا، وبمن فيهم الرئيس الحالى بايدن (!).
-----------------------------
بقلم: د. عبد الحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان