26 - 04 - 2024

في ذكرى رحيله الخامسة: محمد حماد يكتب عن اللقاء الوحيد مع الأستاذ هيكل (2 ـ 2)

في ذكرى رحيله الخامسة: محمد حماد يكتب عن اللقاء الوحيد مع الأستاذ هيكل (2 ـ 2)

كان هو المتكرم بدعوتي إلى شرف لقائي الوحيد معه.

ذهبت إليه على موعد حدده «الأستاذ» مع الفنان حلمي التوني الذي رشحني مديراً لتحرير مجلة «الكتب، وجهات نظر»، وكان مطلوباً أن يدشن «الأستاذ» انضمامي إلى أسرة المجلة حسب ما فهمت من الفنان الكبير.

كنت ـ حسب الموعد بالضبط ـ أدور للمرة الثانية أمام العمارة أحاول أن أعيد ترتيب الموضوعات التي ينبغي طرحها عليه في أول  لقاء مباشر معه، وقبل أن تدق الساعة العاشرة صباحاً، دلفت من الباب الخارجي متوجهاً إلى حيث المصعد، وما أن وصلت إلى مدخل شقة المكتب حتى سمعت دقات الساعة، ومع دقات الجرس فتح الباب، وتقدمني أحدهم إلى غرفة في المواجهة مباشرة أمام الداخل، وفي الردهة التي تتفرع عنها الغرف، التقطت عيني ـ رغم الضوء الخافت ـ  في طريقي مجموعة من الصور للأستاذ هيكل في مواقع شتى كأنها تحكي قصة قلم مع متعة البحث عن المتاعب.

استقبلني مدير مكتبه منير عساف مرحباً طالباً مني الجلوس دقيقة واحدة لا أكثر حتى يبلغ «الأستاذ» بقدومي، جلست أنظر حولي في الغرفة بينما يرتدي منير سترته مغلقاً أزرارها ثم متوجهاً إلى خارج الغرفة، والغرفة عادية لا شيء فيها يلفت النظر، دوسيهات لا تفصح عما فيها من أوراق، وفاكس ضخم وكمبيوتر وأوراق هنا وهناك.

بعدها بأقل من دقيقة كان راجعاً إلى حيث يتقدمني الآن إلى غرفة «الأستاذ» الذي وجدته واقفاً في انتظاري وهو في كامل ملابسه الرسمية، حمدت الله أني لم أطع شيطاني في ارتداء ما تيسر مما أحب من ملابس أبعد ما تكون عن لقاء يضفي عليه الأستاذ على الأقل من حيث الشكل مهابة ذات طابع رسمي، كان يرتدي حلة أنيقة ومن النظرة الأولى ستعرف أن تأثيث المكتب تقليديا، الكراسي، المكتبة... 

رحب بي الأستاذ ومباشرة سألني بود حقيقي:

ـ محمد حماد أخيراً.

أحسست أنه يريد القول بأن انتظاره لمقابلتي قد طال، بعد أن تأجل الموعد أكثر من مرة، إما بسبب غيابه الاضطراري عن القاهرة، وإما بسبب انتظار وجود آخرين كان من المفترض أن يحضروا اللقاء، ولكن «الأستاذ» قرر من ناحيته أن يراني هو أولاً، ثم يكون بعد ذلك لكل حادث حديث.

ومن ناحية أخرى كانت تصلني بعض أصداء لردود أفعال «الأستاذ» حول ما أكتب منها ما كان بالاستحسان، ومنها بأن بعض جوانب الصورة تغيب عني خاصة فيما كتبت عما أراه انقلاباً ضد ثورة يوليو، ويراه «الأستاذ» صراعاً على السلطة انتهى لمصلحة أنور السادات في مايو سنة 1971.

أرشدني بنظرة منه وإشارة من يده اليمنى إلى حيث الكرسي الوحيد الموضوع قبالة منتصف المكتب في مواجهته حيث جلس، وأنا أجلس قفزت إلى ذهني صورة «البابا» وهو يستقبل كبار ضيوفه على هذه الشاكلة بالضبط، وتذكرت أن البعض يسمي المقعد أمام الأستاذ «كرسي الاعتراف».

والآن...

يجلس هو حيث يكتب ما كنت أقرأه بنهم وأخشى ـ من فرط ولعي بطريقته في الكتابة ـ أن ينتهي المقال، وكانت كل المقالات تنتهي سريعا، أو تذوب داخلك، كأنها قطعة من حلوى المولد التي يبقى مذاقها عالقاً بفمك، وبذهنك حتى تعود إليها من جديد، وقت العيد.

الآن...

أجلس أنا أمامه، انتظر ما سوف يقوله، وكنت قد حضرت نفسي للحديث عن مجلة «وجهات نظر» وكنت كتبت أفكاري حول ما سوف أقوله بهذا الخصوص.

كان تقديري أن أقول له:

ـ «لا شك أنها مجلة جادة في زمن غير جاد، ولا شك أنها سدت نقصاً كنا في احتياج إليه، ولا شك أنها تستهدف نوعاً خاصاً من القراء غالباً لم يكونوا في حساب الدوريات التي تصدر أو كانت تصدر، نوعية القراء المثقفين، وكنت سوف أعترض على سعرها المرتفع بأكثر من الضروري، وهو السعر الذي علمت ـ سلفاً ـ أنه هو الذي اقترح بأن يكون عشرة جنيهات، وكانت أسبابه تقول أنه لن يزيد على ثمن تذكرة سينما، وهو السعر نفسه الذي كانت الجرائد تباع به في وقت كانت تذكرة السينما لا تزيد عن قرش صاغ ونصف.

ولكنه لم يتحدث..

دعاني لحظة جلست إليه بملامح وجهٍ مألوفٍ وودود إلى الحديث:

ـ  هه … إيهالأخبار؟

تذكرت في اللحظة ذاتها ماقاله يوما المبدع الكبير يوسف إدريس وهو يجري معه حواره الصحافي الأول لجريدة الجمهورية أوائل الستينيات، وفي مقدمة الحوار تجده يقول: «يقطع عليك التهيؤ وترتيب الأفكار وأية مقدمات قد تفكر فيها، وخالف توقعاتي وضرب أول مشاهد سيناريو كنت تصورته لبداية اللقاء.

ولعل «الأستاذ» أحس بحيرتي وقرر أن يبادر هو فانطلق يقول:

ـ سوف أوفر عليك، وعلى نفسي الكثير من الكلام وأبدأ أنا، نحن نتطلع إلى عقل لمجلة «الكتب»، وهي للعلم، وعلى الهامش، فكرتي، وكنت تصورت أن تصدر عن مؤسسة «الأهرام» ، وحالت ظروف متعددة ومتشابكة دون أن تخرج عن الأهرام، وكان إبراهيم المعلم  قد سمع بالفكرة وتحمس لأن تصدر عن دار «الشروق» التي تطبع كتبي الآن في القاهرة، وعرض علىّ مشاركته فيها بنصيب في رأس المال، ولكني رفضت فكرة المشاركة، وقبلت فكرة أن تصدر عن دار المعلم، وفكرت في أن يرأس تحريرها اثنان من أكبر وألمع الصحافيين والكتاب في مصر، وكان أمامي سلامة أحمد سلامة وجميل مطر، أحدهما لديه موهبة وقدرات جلب المواد الخام، والآخر لديه قدرات وموهبة تحويلها إلى بناء ضخم فخم جميل، وإذا شئت توضيحاً أكثر فإن أحدهما عليه إحضار وتحضير الجرانيت والرخام، والآخر عليه نحتها وصناعة الفن الجميل منها.

ثم أسندنا الإخراج إلى فنان «كويس» هو صديقك حلمي التوني، والحقيقة أنه أضفى لمسه فنية خاصة جعلها تبدو أفضل من حيث الشكل الجمالي من مثيلتها التي تصدر بالإنجليزية والتي كانت الأساس وراء إصدارنا لهذه المجلة بالعربية من القاهرة.

وهكذا توفر لهذه المجلة إمكانيات هائلة توفرها دار «الشروق»، ويوفرها قدرات ومواهب كل من سلامة أحمد سلامة وجميل مطر ومعهما صديقك.

وكل ما ينقصنا ـ في هذا العمل ـ هو عقل المجلة، أو الجسر بين الفكر والإنتاج، وهو بالضرورة وبطبيعة عمله يجمع في داخله وضمن قدراته ومواهبه الموهبتين، موهبة الفكر، وموهبة القدرة على متابعة التنفيذ والإنتاج.

ورُشحت أنت لتقوم بهذه المهمة، تشارك معنا في التفكير والتحضير، ثم تتابع أنت مع حلمي التنفيذ وتشرف عليه، هذه هي مهمتك المطلوبة منك.

وأردف «الأستاذيقول وكأنه أراد أن يقول كل ما عنده دفعة واحدة:

ـ لا أخفي عليك أن بعض المشاكل طرأت في العلاقة بين رئيسي التحرير، وأحياناً ينشأ مثلها مع المشرف الفني، ولكن سوف نتغلب عليها.

كان قد بدأ سريعاً، رشيقاً ثم لدى الجمل الأخيرة أخذت نبرة السرعة تنخفض حتى توقف نهائياً وهو يسألني:

ـ رأيك إيه؟

كنت قد أحسست بالألفة معه، وكنت قد تآلفت مع المكان، ولو فكرت من قبل في أني سوف أحس بكل هذه الألفة في هذا الزمن القياسي، بالنسبة لضعف مقدرتي على التآلف مع من أقابلهم للمرة الأولى، وهي عادة ما تخونني، ما صدقت نفسي، فقلت دون تفكير:

ـ لا أظن أن هذا عرض عمل، بل أخشى أن أقول إنه عرض مشاكل.

فاجأه ـ لا شك ـ الرد، فتساءل بوجهه، وبحركة يديه، وبدون كلمات:

ـ  كيف؟

واصلت حديثي:

ـ حضرتك تقول أن هناك رئيسين للتحرير مهمتهما معا المادة التحريرية، وهناك رئيس تحرير للإشراف الفني مهمته الشكل، وستكون مهمتي ـ أولاً ـ  بين رئيسي التحرير إلى حين يكتمل بناء العدد، كل عدد، ثم سوف يكون عليّ ـ ثانياً ـ أن أعمل مع رئيس تحرير ثالث لإخراج هذا التصور إلى حيز الوجود، والسؤال هناإلى من نرجع عندما تنشأ مشكلة في التنفيذ، وإلى أيهما نحتكم، وأي قرار ينفذ، ثم هناك رعايتك للمجلة، وعرفت من «حضرتك» الآن أنك تشارك في التفكير والتحضير، وأخيراً هناك إبراهيم المعلم نفسه، وهل له تدخل في هذا أم لا؟، وهكذا أجدني أمام «عرض مشاكل» أرى لها أولًا، ولا أرى لها آخرًا 

قاطعني الأستاذ قائلاً

ـ وإذا كان الذي سيوفر لك الدعم هو هيكل؟

قلت وقد اعتبرت ذلك إطراء لي واجتاحني شعور بالثقة والسعادة غامر:

ـ أبدأ من الآن.

قال:

ـ إذن ماشي، سوف يستقبلك إبراهيم المعلم، وسوف يكون من حقك كما هو حق لهم في المجلة أن تختبر العمل معهم، وأن يختبروا هم بدورهم العمل معك، على الأقل في الفترة الأولى.

وهكذا أحسست أن المقابلة انتهت أو كادت، من دون أن يتطرق الحوار إلى ما هو أهم، على الأقل من وجهة نظري، فسألته:

ـ هل انتهى موضوع المقابلة؟

فسألني بدوره:

ـ إلا إذا كان لديك شيء آخر؟

قلت:

ـ لا شك أنك تتوقع أني انتظرت هذه اللحظة طويلاً، ولا شك أيضاً أنك تستطيع أن تخمن كم حلمت أن أجلس هنا معك في المكتب، حيث تكتب، وحيث هذه الموسيقى الهادئة التي لا أعرف من أين تنساب.

قلت ذلك وأنا أتلفت حولي وهو يبتسم تاركاً لي الفرصة لاستكمال ما أقول:

ـ فكرت طويلاً في الكثير من الأسئلة التي سأطرح عليك عندما يأتي وقت كنت أعرف أنه سوف يأتي، وأجلس إليك أسأل وتجيب، وللعلم عندي من الأسئلة ما يكفي إذا سنحت لي الفرصة أن تسود صفحات موسوعة حول أهم فترات تاريخ مصر والعرب المعاصر وكنت أنت شاهدا عليها، كثير من الفراغات أحسب أنها في حاجة إلى أن تسد، وكثير من الالتباسات أظن أنها في حاجة إلى أن تستجلى، والآن كل ما أريد أن أقوله أني بصدد مشروع دراسة موسعة وأريدها معمقة حول دورك إلى جانب أنور السادات والعنوان الأولي في تخطيطي هو «هيكل ـ  السادات، قراءة في أوراق العلاقة بين الكاتب والسلطان» أو إذا شئت اختصاراً فلنقل: «دراما الكاتب والسلطان».

لم يبدو مستريحا، وبدا مستنكراً وهو يسألني:ولماذا السادات؟

وقبل أن أجيب قاطعني حاسماً:

ـ لا أريد الحديث فيما تنوي الكتابة فيه وحوله، لك مطلق الحرية، ومن ناحيتي أنا قلت كل ما أريد وأتاحته لي الظروف والملابسات وأشياء أخرى تقدرها، ليس لي كلمة واحدة أضيفها، عندك ما كتبت وما قلت وكله مسجل، ومدون ويمكنك الرجوع إليه، حياتي كلها أو على الأقل ما هو عام منها، ومواقفي كلها، وكل أعمالي، وكل آرائي، كل ذلك موجود ومسجل على الورق ومهمتك أن تقرأ وتحكم، وعندك ما كتب غيري وقال وروى وأنت حر فيما تكتب.

قلت لهقرأت أغلب ـ ولا أقول كل ـ ما كتب عنك وهو ـ في رأيي ـ قاصر عن تفسير ظاهرة هيكل، من حيث تعدد الأدوار، ومن حيث تعدد جوانب الصورة، ومن حيث تعدد الرؤى حول هذه الأدوار، ومن بين تلك الجوانب علاقتك بأنور السادات، وهي علاقة «دراماتيكية» بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وبكل ما تعطيه من انطباعات وبكل ما تشير إليه من نتائج.

هذه العلاقة هي نموذج لعلاقة الكاتب بالسلطان أو المثقف بالسلطة.

وحضرتك من أوائل الذين بادروا بالكتابة عن تلك العلاقة في كتابك «أزمة المثقفين»، وكان الزمن غير الزمن، وكانت القضايا غير القضايا، وكان الانحياز ساعتئذٍ غير الانحياز، واختلفت القضايا فيما بعد، وتبدلت الانحيازات بعد ذلك عندما اختلف الزمن وتسلطن أنور السادات وانفرد بمقعد ارتاح إليه وراح يتسلط من فوقه، وأرادها علاقة سلطة مع مثقف لا يجاوز دوره ولا يتجاوز حدود هذا الدور.

هنا العلاقة مختلفة.. طبيعة العلاقة مختلفة.. أساس العلاقة مختلف..

حتى الاختلاف له قواعد هنا، وهي ليست هناك... حتى الاتفاق له محاذيره هنا وهي ليست هناك..

 قلت للأستاذ هيكل وهو يسمع باهتمام:

ـ أقول إن اختلاف التجربتين، تجربتك مع عبد الناصر ثم مع السادات، ليس فقط اختلاف في الطبيعة ولا في أساس العلاقة، ولا في قواعد الاختلاف ولا في محاذير الاتفاق، ولا حتى في الاختلاف بين الرجلين اللذين اقتربت منهما وهما على قمة السلطة في مصر.

ليس هذا كله فقط.

ولكنه ـ وهذا مهم في رأيي ـ يكمن أيضاً في اختلاف دورك أنت إلى جانب كل منهما.

ونظرتك أنت إلى كل منهما، وإلى دوره.

أحسست أني أطلت بدون الدخول إلى الموضوع فقلت له قاطعاً استرسالي:

أتصور أن هذا هو ما يحتاج إلى كتابة موسعة ومعمقة حول تلك العلاقة، بينك وبين أنور السادات.

قال وهو يبتسم:

ـ انطلق إذن  go ahead

**

وتكرم الأستاذ بإجابة بعض استفساراتي مؤكداً أن ما يقوله هو لي أو هو بلغة الصحافة «خارج التسجيل»، تحدث عن السادات، وعمن أسماهم «مراكز القوى»، وعن أسوأ موقف أن يجد المرء نفسه بين أمرين أحلاهما مر، وذكر لي قصة ترشيحه للدكتور محمود فوزي رئيساً للوزراء، وأفاض في الحديث عن «الموقف» الذي لا يحسد عليه الذي وجد نفسه فيه في خضم صراع عند محيط القمة كانت السلطة هي هدفه، وكان الخيار فيه محصوراً بين ما يسميه الجهالة والسفالة.

وعندما سألت الأستاذ:

ـ ماذا لو أنك والسادات كنتما في الجانب الخاسر يوم 13 مايو سنة 1971؟ 

ما هي النتائج التي تتصورها؟

ضحك وهو يقول:

ـ لن تكون النتائج مختلفة كثيرا عما يحدث في الحزب الناصري وفي جريدته «العربي».

ثم عاد ليقول جاداً:

ـ أتصور أن أكثر شيء كانت البلد مرشحة له هو حرب أهلية، وكنت أكاد أرى ألسنة نيرانها عند الأفق، وأتصور أن مصر كانت ستحكم بالحديد والنار، وأشد الأساليب البوليسية بطشاً وجوراً، وكان كل ذلك سيتم تحت «أعلام وشعارات ناصرية"، وخلف صورة جمال عبد الناصر، وأعتقد أن مصر تحت حكم هؤلاء كانت مرشحة للسقوط بطريقة غير كريمة في قبضة «الاتحاد السوفيتي".

لم أشعر بأن نصف الساعة التي كانت محددة للقاء أصبحت ساعة وعشر دقائق، إلا مع دخول منير عساف يذكر «الأستاذ»، بموعد قد حل وقته.

استأذنتُ.وهو يأذن لي، قال

ـ سنتقابل أكثر في الفترة القادمة.

قلت وأنا أمد يدي لمصافحته:

ـ إن شاء الله.

**
---------------------------
بقلم: محمد حماد

في ذكرى رحيله الخامسة: محمد حماد يكتب عن اللقاء الوحيد مع الأستاذ هيكل (1 ـ 2)

مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في





اعلان