18 - 04 - 2024

في ذكرى رحيله الخامسة: محمد حماد يكتب عن اللقاء الوحيد مع الأستاذ هيكل (1 ـ 2)

في ذكرى رحيله الخامسة: محمد حماد يكتب عن اللقاء الوحيد مع الأستاذ هيكل (1 ـ 2)

بدأت التحضير لتأليف كتاب "الرئيس والأستاذ ـ دراما العلاقة بين الكاتب والسلطانفي مطلع الألفية الثالثة، وشاء حظي أن ألتقي الأستاذ محمد حسنين هيكل في مرحلة مبكرة من التحضير، وأخبرته عن انهماكي في دراسة موسعة عنه، تحاول أن تقدم رؤية لدوره إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر، ومن بعده مصاحباً للرئيس أنور السادات في سنوات حكمه الأولى ثم مختلفاً معه بعد ذلك، حتى نال منه ما لم يكن في حسبان أي أحد حيث أدخله السجن ضمن حملة سبتمبر 1981 التي شملت العديد من كبار الشخصيات وقيادات المعارضة لسياساته، عند نقطة فاصلة من تاريخ مصر انتهت بتلك النهاية المأساوية على منصة العرض العسكري احتفالا بالذكرى السابعة بحرب أكتوبر 1973.

قلت لههي محاولة لاستعراض تجربته تتقصى دوره السياسي قبل دوره الصحفي، وكنت وضعت للكتاب عنوانا مبدئياً:" الكاتب والسلطان ـ قراءة في أوراق العلاقة بين الصحافة والسياسة".

لم يعترض الأستاذ هيكل، ولكنه لم يرحب، وأرجعت شعوري بعدم ترحيبه إلى أنه كان قد قرأ لي أكثر ما نشرته في جريدة العربي الناصرية تحت اسم "شعراوي جمعه ـ شهادة للتاريخ"، وربما بدا له من خلال تعليقاتي على ما ورد بها، خاصة حول ما جرى في مايو سنة 1971 وما بعده، أنني لست منحازاً لرؤيته ولا لرواياته حول ما جرى أو ملابسات الدور الذي لعبه في تلك الأحداث مؤيداً ومناصراً ومدافعاً عن أنور السادات وقتها.

بعد أن سألني مستنكراًولماذا السادات؟، عاد من جديد يؤكد لي أن حياته وأدواره وكل ما كتبه وفكر فيه ستجده على الورق، منشور في الصحف وفي الكتب وكلها لديك، ولك مطلق الحرية في تقديم ما تراه حولها.

وبسبب ظروف شتى انشغلت بعض الوقت عن استكمال ما كنت بدأته من كتابة فصول ذلك الكتاب، ثم وبعد أن تخففت بعض الشيء من عملي اليومي رجعت مجدداً في أوائل العام 2010 إلى مواصلة رحلة البحث عن هيكل عبر دوره السياسي والصحفي قريباً من قمة السلطة على مدار ثلاثين سنة من عمره المهني، وانتهيت من الصياغة الأخيرة للكتاب قرب نهاية ذلك العام.

ثم أخذتنا الحوادث والمتغيرات التي جرت من بعد في يناير 2011 وانكببت على تأليف كتاب:"قصة الدستور المصري ـ أوراق ووثائق ونصوصحتى انتهيت منه في ستة أشهر قضيتها في العمل الشاق من أجل إنجاز الكتاب الذي رأيت ضرورة أن أتوجه به إلى الأجيال الجديدة التي رفعت شعار إسقاط دستور 1971 وكتابة دستور جديد بأحبار ثورة يناير، أحكي لهم قصة كفاح الشعب المصري طوال قرنين من الزمان بدءاً من عزل الوالي العثماني خورشيد باشا حتى خلع الرئيس حسني مبارك.

وكنت قد اتفقت على نشره مع مكتبة "جزيرة الورد"، وجرى نشره في مطلع خريف السنة نفسها، وكان للاهتمام المقدر الذي أبداه المسؤول عن دار جزيرة الورد بالكتاب دور كبير في وقوع اختياري عليها لنشر كتابي عن هيكل، وفعلا صدرت طبعته الأولى في أوائل العام 2012 نحن عنوان:" الرئيس والأستاذ ـ دراما العلاقة بين الكاتب والسلطان".

**

لا أنكر أنني كنت حريصاً على أن تصل نسخة من كتابي إلى الأستاذ هيكل، وكنت قد فوجئت بأن بعض الأصدقاء المشتركين بيني وبين الأستاذ هيكل قد دفعوا إليه بالمخطوطة الأولية للكتاب، وكان بعضهم لا يوافق على الرأي الذي ذهبت إليه في بعض فصوله، ولست أعرف رد فعل الأستاذ ولا أخمنه، وبعد النشر استشرت صديقاً حول الطريقة الأفضل لإيصال نسخة الكتاب إليه، فتحمس الصديق العزيز لكي يقوم هو بإيصالها إليه، فدفعت إليه بنسختين واحدة له والأخرى للأستاذ، وطلب مني بحماس ظاهر أن أكتب إهداءً للأستاذ هيكل، وفعلت، ووعدني بأنها سوف تصل إليه خلال أيام.

قرأ الصديق العزيز الفصول الأولى من الكتاب، وذكر لي أنه أبلع الأستاذ هيكل أنه كتاب من محب لا تنقصه شجاعة تقديم بعض النقد، ولكنه نقد من موقع غير تلك المواقع التي اتخذها الكثيرون ضمن الحملات المتكررة ضد هيكل على طول تاريخه، ولم يفصح لي صديقي عن أي رد فعل للأستاذ، لا على هذا التقييم الذي قدم به كتابي إليه، ولا على الكتاب نفسه، ولم أسأله، ولكني فهمت أن حواراً بينهما دار حول الكتاب، ما جعلني أتيقن أن النسخة المهداة إلى الأستاذ قد وصلته.

مرت سنوات أربع على صدور الكتاب، وجرت مياه كثيرة في نهر الحياة، ورحل الأستاذ هيكل عن دنيانا، وفوجئت باعتراف واعتذار صديقي الذي اتصل بي تليفونياً ليقول لي بكل ود أنه يود أن يعترف لي بشيء أرقه طول الوقت، قال:

ـ أنا عايز أعتذر منك بأثر رجعي، الحقيقة أني لم أسلم كتابك إلى الأستاذ هيكل الله يرحمه، تذكرت هذا الآن وأنا أعيد قراءة كتابك، والحق أنك بذلت فيه مجهودا يشكر، وقدمت فيه رؤية مختلفة ومتزنة ومتوازنة، حتى لو اختلفت معك في كثيرٍ من تفاصيلها، فقط أردت أن أرفع عن صدري حملاً فتقبل اعتذاري

**

أعرف أنه لم يكن يغير من الأمر شيء أن يطلع الأستاذ هيكل على كتابي، وهو الذي اعتاد القول بأن في مكتبته مكاناً محجوزاً لعشرات الكتب التي تناولته أو تلك التي نالت منه، وأنه يودعها هذا المكان من دون الالتفات إليها، حتى لا يركبه الغرور، أو أن ينال منه الفتور.

ولكني أعرف أيضاَ أن هذا الكتاب ظلمته الظروف، وأعترف أنني كنت مشاركاً في ظلمه.

ظلمته ظروف لم تكن تسمح بنشره في وقتها، وظلمته بدوري حين استعجلت نشر بعض الحلقات منه في بعض الصحف، كان أمامي صحف أتعامل معها، وصحف لا أريد لقلمي أن يظهر فيها، ولم أسمح لنفسي أن تتخذها تكئة للهجوم على هيكل باستخدام بعض ما ورد في الكتاب من نقد لدور هيكل السياسي لتصفي خصومتها معه، أما الصحف التي كنت أتعامل معها ـ سواء في مصر أو في الوطن العربي ـ فقد نأت بنفسها عن نشر ما يمكن أن يسخط "الأستاذ".

وجدتني أمام أمرين أحلاهما مر، فسارعت بنشر الحلقات التي كنت أعددتها للنشر الصحفي في صورة كتاب صدر بداية العام 2012، وبقيت أجزاء مهمة وضرورية لاكتمال الصورة أمام القارئ خارج النشر، وحين راجعتها في معرض تحضيري لطبعة جيدة من الكتاب أحسست بأنني شاركت في ظلمه مرتين.

عانى كتابي الأمرين من دون تدخل مباشر من الأستاذ، كان بعض أصدقائه ومحبيه ملكيون أكثر من الملك، وهيكليون أكثر من هيكل نفسه، وهم منتشرون في كل الصحف المصرية منها والعربية، خاصة تلك التي كنت أكتب فيها، أو تلك التي لي علاقات عمل ببعض المسؤولين عن التحرير فيها.

كانوا كلهم على غير اتفاق بينهم هم الرقباء على كل ما ينشر عن الأستاذ في صحفهم، وقد حاولت نشر بعض الفصول منه على حلقات في أكثر من مطبوعة، وكان الرد الموحد بينهملا نريد أن نغضب الأستاذ، بعضهم اعتذر بأسباب واهية، وكلهم اتفقوا على تنفيذ المثل الشعبي: "ابعد عن الشر وغني له"، ورأوا أن من الأسلم لهم ولصحفهم الابتعاد عن منطقة غير مأهولة رأوا أن كتابي خاض فيها وتوغل.

طبعاً لست في حاجة إلى القول إنه كان بالإمكان دائما نشر تلك الحلقات المأخوذة عن الكتاب، في عدد من الصحف الأخرى، تلك التي تسعد بكل نقد يوجه إلى هيكل، ولكني لم أفعل ولا حاولت، لسبيين

- أولهما أنني ما تصورت في يوم من أيام تأليف الكتاب أنني قصدت قصداً إلى التقليل من حجم هيكل أو المس به، أو الدخول في جوقة مهاجميه، ولم يكن من بين أهدافي أن اكتب مؤلفاً يدخل في تصنيف الكتب التي راح مؤلفوها يدبجونها ضمن حملة شاملة استهدفت الخط السياسي الذي انتميت إليه، ورأوا أن انتهاك سيرة هيكل والحط من مسيرته يدخل ضمن أهداف حملتهم المسعورة على كل من انتمى في لحظة ما إلى تجربة جمال عبد الناصر الوطنية.

- وثاني أسبابي وراء عدم التوجه إلى مثل تلك الصحف أنني لم أكن على علاقة جيدة بالمسئولين عنها، إما لخلافي معهم، وإما لخلافهم مع كل ما أومن به.

ومن هنا فإنني أكرر وأقرر مرة أخرى أن هذا الكتاب ليس من بين أهدافه الهجوم على هيكل أو الانتقاص من أدواره، وقد أداها جميعاً باقتدار، وربما جاز لي أن أقول إن هذا الكتاب محاولة قد تبدو طموحة لدرس العلاقة بين الصحافة والسياسة، بين الكاتب والسلطة في بلادنا، وقراءة ربما أولية في أوراق تلك العلاقة الملتبسة والمتلبسة إما لثياب النوم في أحضان السلطان أو الانعزال خارج القلعة من دون أي تأثير.

المحزن أن مواقف الذين رفضوا نشر بعض فصول الكتاب تمت كلها بدون علم الأستاذ هيكل، الذي لم يتيسر له الحصول على نسخة منه، والمفرح فيما جرى من تعتيم على الكتاب أن الجميع أشادوا به واعتذروا عن عدم نشر بعض فصوله. (!)

**

والآن وبعد مرور خمس سنوات على رحيل الأستاذ هيكل وبمناسبة ذكرى رحيله عاودني التفكير في إعادة قراءة الكتاب فوجدتني أعيد ترتيبه، وأضيف فصولاً جديدة لم تسنح الفرصة إلى كتابتها من قبل، وكان طبيعياً أن أعيد النظر في مجمل الرحلة الطويلة لرجل عاش لما فوق التسعين من عمره كان خلال سبعين سنة منها ملء السمع والبصر، محتلاً مكان الصدارة في المهنة، وواضعاً اسمه وتجربته في مكانة مرموقة من تاريخ الصحافة والسياسة في مصر.

**

قمت بتحقيق الوقائع التي ذكرتها في الكتاب، وكذلك الأقوال التي نسبتها إلى البعض وأضفت عشرات الهوامش على النص الأصلي للكتاب، وأعدت صياغة بعض الفصول لتصبح أكثر وضوحاً في التعبير عن الفكرة أو الأفكار التي وردت بها، وأضفت فصولاً جديدة بعضها خاص بالإجابة عن سؤال لماذا عين عبد الناصر أنور السادات نائباً له قبل أقل من عام قبل رحيله، والبعض الآخر يتعلق بدور هيكل فيما جرى خلال الشهور السبعة التي تلت رحيل جمال عبد الناصر وحتى دوره في وقائع ما جرى في أحداث مايو سنة 1971. *

**

أول احتكاكي المباشر مع الأستاذ هيكل جاء عبر التليفون.

فقبل أن ألتقي «الأستاذ» كنت كلمته مرتين هاتفياً، وكان هو الذي بادر إلى مهاتفتي في المرتين، بشأن حوار أجراه معه الكاتب الصحفي محمود المراغي الذي كان رئيساً لتحرير جريدة «العربي»، وكنت وقتها سكرتير عام التحرير بالجريدة.

فوجئت، ولم تكن الساعة الموضوعة أمامي على الحائط قد غادرت السادسة صباحاً إلا منذ دقائق معدودة، بجرس الهاتف على مكتبي، كنت منهمكا في مراجعة بعض بروفات الصفحات تمهيدا للتوقيع بالموافقة على طبعها أفلاماً.

رفعت سماعة الهاتف وأنا مشغول بقراءة ما أمامي وقلت متثاقلاً:

ـ  نعم..

فإذا بصوت أكاد أعرفه ولكني لم أتبين بعد صاحبه يسألني

ـ أكيد أنت فلان؟

زاد اهتمامي مع فضول يريد أن يعرف من المتصل في هذه الساعة المبكرة جداً من الصباح يسأل عني:

قلتنعم أنا هو 

قالأنا هيكل يا محمد.

سألت غير مصدق:

ـ نعم؟ .. تقصد الأستاذ هيكل؟

قالأيوه

وتابع مباشرة:

صباح الخير..

وأنا أرد عليه تحية الصباح سمعته يقول:

ـ في الحوار كنت قلت لمحمود رقم عن عدد الأكراد في تركيا، بعد مراجعتي للرقم تبين أنه أقل قليلاً من العدد الذي ذكرته له، هل أطمع في أن تراجع الأرقام وتطمئني أن الرقم الصحيح هو الذي سينشر، وليس الرقم الخطأ.

فأسرعت أقول:

ـ  طبعاً يا أستاذ، لكن اسمح لي بسؤال.. 

قالتفضل..

قلتهل كنت تتوقع أن أحدا يمكن أن يكون موجوداً في هذه الساعة المبكرة جداً من الصباح.؟

فقالأنا لم أكن أتوقع، أنا كنت أعرف أنك موجود من الأخ المراغي، فلما رجعت قلت أتصل بك لأصحح الرقم الوارد في الحوار.

فقلت وقد ملأتني الدهشة:

ـ يعني أفهم أن حضرتك استيقظت، وخرجت، ورجعت والساعة الآن لم تصل السابعة صباحاً بعد.

فقال وهو يسألني تكملة بيت من الشعر:

ـ دقات قلب المرء قائلة له... إيه؟

وللأسف أني ـ ربما من وقع المفاجأة الصباحية ـ لم أستطع أن أكمل الشطر الثاني من البيت ذائع الصيت لأمير الشعراء أحمد شوقي.

فقالوثواني..

وعن أهمية الوقت أيضاً مضى الأستاذ يذكر لي بيتاً من أشعار المتنبي، وللأسف أيضاً أني لست أذكره، ولا أنا سجلته في أوراقي عقب المكالمة، وكان قد طلب مني إكماله، فلما حرت جواباً، أكمله وهو يترحم على جيلنا الذي لم يزود نفسه وذاكرته وذائقته بالشعر العربي وخاصة لشاعر مثل المتنبي أو أحمد شوقي.

وكان مزاج الأستاذ رائقاً جداً، وقال لي:

ـ المراغي يؤكد دقتك وسأعتمد عليك في تصحيح الرقم.

ومرة أخرى وبعد أقل من ثلاث ساعات طلبني مدير مكتبه، وأبلغني أن الأستاذ معي، وجاءني صوته:

ـ أنا طلبت من محمود البروفة النهائية للحوار لمراجعته، ولكني سأعتمد عليك في ذلك، رغم أني أراجع ـ عادة ـ بنفسي مثل هذه الأمور، حتى لا تتصور أن أحداً من مكتبي هو الذي يقوم بالمراجعة.

وعدته خيراً، وأنا أضغط على كل حرف:

ـ يا أستاذ أنا قرأته حرفا.. حرفا، وليس كلمة..كلمة.

وشكرني وأغلق الهاتف، ووضعت السماعة وكان الشيء الوحيد الذي يتردد داخلي مستقراً كاليقين

ـ  لهذا أصبح هيكل.. ولهذا هو هيكل.
-------------------
بقلم: محمد حماد

(الحلقة الثانية: محضر اللقاء الوحيد مع الأستاذ)

مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في





اعلان