20 - 04 - 2024

عودة للدائرة المفرغة

عودة للدائرة المفرغة

بعد ساعات ، تبدأ جلسات حوار فلسطينى جديد مقرر فى "القاهرة" بتاريخ 8 فبراير الجارى، العنوان : إنهاء الانقسام الفلسطينى بين سلطتى "غزة" و"رام الله" ، ربما بغير جديد يذكر، سوى المراسيم التى أصدرها الرئيس الفلسطينى محمود عباس قبل نحو ثلاثة أسابيع، وقضت بإجراء دورات انتخابات فلسطينية تباعا ، انتخابات للمجلس التشريعى فى 22 مايو المقبل، وللرئاسة الفلسطينية فى 31 يوليو، وللمجلس الوطنى فى 31 أغسطس، وبهدف إعادة بناء النظام السياسى الفلسطينى ، ودمج الفصائل كلها فى منظمة التحرير بما فيها "حماس" و"الجهاد الإسلامى".

ومع نبل النوايا فى مثل هذه الاجتماعات، التى تكررت لعشرات المرات، وفى عواصم مختلفة، نالت فيها "القاهرة" النصيب الأعظم، وصدرت عنها وثائق متشابهة، ربما متطابقة ، منذ وقع الانقسام أواسط 2007، بعد الصدام الدامى بين "فتح" و"حماس"، ومع دورات تفاؤل بعد كل اجتماع، لم تكن تعيش طويلا، بينما دام الانقسام نفسه لنحو عقد ونصف العقد إلى اليوم، وتكرس التباعد مصحوبا بطبائع الانفصال الجغرافى، وبتواصلات إقليمية مختلفة لكل طرف، جعلتنا إزاء مشروعين لدولتين فلسطينيتين، لا تكتمل لأيهما صفات الدولة، ولا حتى الدويلة، فالاحتلال الإسرائيلى حاضر فى الحالتين ، يحاصر غزة ، ويبسط سيطرته المباشرة على الضفة الغربية ، بما فيها القدس طبعا ، مع تكرار المعزوفة الرسمية العربية ، عن هدف إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، التى صارت من زمن هى المعزوفة الفلسطينية الرسمية أيضا، برغم تكرار التجارب والمحن، التى أكدت استحالة تحقيق الهدف المعلن بالمفاوضات، التى استمرت لعشرين سنة متصلة، منذ عقد اتفاق "أوسلو" عام 1993، إلى توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة عام 2014، وبما تجاوز وعود أوسلو، التى تصورت إقامة وضع نهائى للدولة الموعودة عام 1999، وبعد أكثر من عشرين سنة، زاد الحال سوءا بمراحل عما كان عليه وقت إقامة سلطة الحكم الذاتى أواسط تسعينيات القرن العشرين، وتوحش الاستيطان اليهودى فى القدس والضفة، فيما أفلتت غزة جزئيا، باضطرار الاحتلال الإسرائيلى للجلاء عنها، وتفكيك مستوطناتها، ليس بالمفاوضات، بل بالأثر المباشر للانتفاضة الفلسطينية الجامعة الأخيرة أواخر عام 2000، التى دامت لسنوات، طويت أوراقها برحيل إسرائيل من غزة، ورحيل الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات قبلها مسموما، ثم بانفصال غزة المحررة نسبيا، وإن ظلت محاصرة بقسوة، ومحاربة من إسرائيل فى صدامات مريرة ممتدة إلى اليوم.

ولا نريد أن نصادر على المطلوب، فإنهاء الانقسام فى ذاته هدف يستحق العناء، وإن كانت النتيجة لا تبدو مؤكدة، حتى مع اتفاق "عباس" و"حماس" على سيناريو الانتخابات المتتابعة، وما يمكن أن تضيفه دورة اجتماعات "القاهرة" الجديدة، من توافق على ضمانات قبول كل الأطراف بنتائج الانتخابات المنتظرة، من نوع شروط حياد المجكمة الدستورية وتشكيل المحكمة المختصة بقضايا نتائج الانتخابات، التى نأمل أن تكتمل، بغير نكوص من أى طرف، وبغير مفاجآت سيئة، قد تهدد بإعادة الوضع إلى نقطة الصفر ذاتها، وعلى نحو ما جرى مرارا وتكرارا، خصوصا مع غياب برنامج وطنى مجمع عليه، وهو ما تصر على أولويته فصائل فلسطينية أكثر جذرية، على طريقة ما ذهبت إليه تحذيرات "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"حركة الجهاد الإسلامى" وآخرون، يرون أولوية كنس التزامات "أوسلو"، ومنح الأفضلية لخط المقاومة لا لمفاوضات تبدو بلا جدوى.

وتبدو مخاوف اللحظة أخطر مما قد يدور فى اجتماعات "القاهرة" الفلسطينية، فقد استبق رئيس الوزراء الفلسطينى محمد اشتيه اجتماعات القاهرة، وأعلن عن بدء التواصل مع إدارة جو بايدن الجديدة فى البيت الأبيض، وبجدول أعمال كان متوقعا، قد يعيد ممثليه منظمة التحرير فى واشنطن إلى العمل، ويعيد تواصلا دبلوماسيا أمريكيا مع "رام الله"، يسمح بالإفراج عن معونات مالية أوقفتها إدارة دونالد ترامب، ويوحى بعودة التمويل الأمريكى جزئيا أو كليا لوكالة رعاية اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، مع حفاظ إدارة بايدن طبعا على اختراقات ترامب اللعينة، وأولها ضم القدس لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وتنشيط اتفاقات التطبيع المجانى بين إسرائيل والسودان والإمارات والبحرين والمغرب، مع مراجعة وعود ترامب لأطراف التطبيع الجديدة، من نوع الوعد ببيع طائرات "إف ـ 35" للإمارات، ووعد السودان بتسهيلات مالية سنوية بقيمة مليار دولار، والاعتراف النهائى بمغربية الصحراء الغربية، وكلها تصورات لاتختلف فى الجوهر عن "خطة ترامب" فلسطينيا، وتعنى سحب قضية القدس المحتلة من جدول أى تفاوض جديد محتمل، واختراع قدس جديدة للفلسطينيين خارج القدس ، كقرية "أبو ديس" أوغيرها، مع عودة إدارة بايدن إلى طرح شعار "حل الدولتين"، بديلا عن ما لم ينفذ من "خطة ترامب"، مع التظاهر بمعارضة إقامة مزيد من المستوطنات اليهودية فى الضفة الغربية، وتلك أقصى حدود ما سيعرض أمريكيا، مع ترك القرار النهائى لقيادة كيان الاحتلال الإسرائيلى، سواء استمر بنيامين نتنياهو بعد انتخابات الكنيست المتكررة فى مارس المقبل، وهو المرجح، أو أبدلوه بغيره، فالتزام بايدن الفخور بصهيونيته المعلنة، مع وزير خارجيته اليهودى أنتونى بلينكين فوق كل اعتبار آخر، وهو ما يعنى ببساطة، أن أفق إقامة دولة فلسطينية مستقلة بطريق التفاوض يبدو مغلقا، وهو ما تدركه كل الأطراف الفلسطينية والعربية المعنية، لكنها تريد العودة إلى خطوط ما قبل صدمات ترامب، والمشى فى الحذاء نفسه، والدوران فى ذات الحلقة القديمة المفرغة، ليس بهدف خدمة القضية الفلسطينية، بل لخدمة مصالح النظم المنغمسة فى اللعبة، وبينها النظام الفلسطينى المفترض تجديده بالانتخابات، وليس صعبا، أن ترى فقرات السيرك المنصوب، بلقاءات جرت لرباعية عربية أوروبية مكونة رسميا من مصر والأردن وألمانيا وفرنسا، تساندها تحركات القيادة الفلسطينية الأخيرة، الساعية لإعادة التواصل مع دولة الاحتلال، بعد أن كانت تعهدت بإلغاء التزامات "أوسلو"، وهو ما يطرح أسئلة جدية على الحوارات الفلسطينية الجديدة فى "القاهرة" أو فى غيرها، أولها سؤال الجدوى من الحوار المطلوب فى كل الأوقات، وهل يجرى حصر النقاش فى الانتخابات ومتعلقاتها ؟، مع مخاطر تجريف قيمة الانتخابات بالعودة للمفاوضات إياها، والعودة لخلافات الرؤى الكامنة، واحتمال تفجير الوفاق الصورى فى وقت لاحق، فلم يعد العمل الفلسطينى يحتمل المزيد من غض الطرف عن الجوهرى فى الموقف كله، أى الخطة الوطنية المتفق أو المختلف عليها، خصوصا مع تواصل تضحيات وبطولات الشارع الفلسطينى فى المعارك اليومية الدائرة مع قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين بالقدس والضفة، وهو ما قد يصح الانتباه إليه، وجعله أولوية تجب ما عداها، فبالوسع لو صحت النوايا واستقام القصد، أن يجرى تجسير الهوة بين الحس الشعبى وحوارات الفصائل الانتخابية، وأن يجرى رد الاعتبار لخط المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، ليس بتدبيج صياغات مراوغة فى بيانات مشتركة، بل بتعبئة القوى وتوزيع الأدوار، وإنهاء الانقسام حتى بدون احتياج إلى انتظار انتخابات، فلا قيمة لمفاوضات بدون تعديل جوهرى لموازين القوى، والحقوق لا تستعاد بانتظار العطف الأمريكى أو غيره، والاحتلال لا يزول بالمناشدات ولا بالقرارات الدولية، والقاعدة الذهبية فى خبرة الشعوب، أن الاحتلال يذهب فى لحظة بعينها، بالذات حين تتضاعف تكاليف بقائه واستمراره، ولم يكن أى شعب محتل فى قوة سلاح المحتلين، بل كانت قيمة المقاومة أن تزيد فى تكاليف بقاء الاحتلال، وهو ما خبره الشعب اللبنانى فى ملحمة تحرير الجنوب من دون تطبيع ولا توقيع صك استسلام، وخبره الشعب الفلسطينى نفسه فى "غزة"، التى جلا عنها الاحتلال، حين زادت تكاليفه على فوائده، فما من بديل للفلسطينيين غير المقاومة بكل صنوفها، وليس استجداء مفاوضات تبدأ ولا تنتهى، وعلى نحو ما عاناه الشعب الفلسطينى فى تجربة ثلاثين عاما مضت، ضاعت فى أوهام اتفاقات "أوسلو" ومفاوضاتها، التى يريدون العودة إليها، وكأن أحدا لا يتعظ، ولمجرد الإيحاء بأن شيئا ما يتحرك، بينما يدرك الشعب الفلسطينى الحقيقة عارية، فهدف دولة الضفة وغزة حتى إن قامت، يضيع أغلب الحق الفلسطينى فى كامل أرضه المحتلة، وملايين الشعب الفلسطينى السبعة الصامدة فوق أرضها، قادرة على انتزاع الحق كاملا، بغير خداع يضيع المزيد من العقود، وبإعادة تجريب المجرب المخرب، والمشى فى حذاء التفاوض العبثى نفسه.

ولا أحد بوسعه المزايدة على كفاحية الشعب الفلسطيني، ربما بشرط توحيد قياداته على خط المقاومة، قبل وبعد أى شئ آخر، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.
---------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان