25 - 04 - 2024

تصفية "الحديد والصلب" وفلاسفة الغبراء

تصفية

"مش كل مرة تسلم الجرة"، كان على حكومة د. مدبولي وبالتحديد على وزير قطاع الأعمال "بدون تسمية" أن يدرك مغزى هذا المثل قبل أن يعلن قرار تصفية مصنع الحديد والصلب في حلوان لأن ثمة تبدلات وتحولات لو أدركها ما ارتكب حماقة الزعم أن المصنع لا يساوي أكتر من "عشرة صاغ" والتي يبدو أنها بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير" واستنفرت كثر على تباين مواقفهم من  " النظام" بل وحتى من تجربة القطاع العام.

ينبغي القول أولا أن الاقتصاد المصري اليوم يتحكم فيه القطاع الخاص بنسبة 90٪ وذلك ليس بسبب "شطارة أو عبقرية" رجال الأعمال ولكن نتيجة لسياسة الخصخصة التي أجبرنا الثنائي الدولي" الصندوق والبنك" عليها بعد الاستدانة الكثيفة منهما. لا يعني ذلك بالطبع أن نغمط حق بعض رجال الصناعة الوطنية الذين أضافوا للاقتصاد الوطني وحدات إنتاجية وحققوا إسهاما ملفتا في ميزان المدفوعات التجاري.

لكن الحقيقة المؤكدة أن هذا التحول "التاريخي والدراماتيكي" في بنية ملكية وسائل الإنتاج بمصر جاء عبر نقل "الملكية العامة" إلى "القطاع الخاص".

قد أضطر هنا للتوقف عند مغالطة تاريخية لطالما تم الترويج لها لأسباب خبيثة ألا وهي الزعم أن الغلبة في إدارة الاقتصاديات كانت للقطاع الخاص "قديما وحديثا" إلى أن جاء عبد الناصر ومعه "الأشتراكية" أو "رأسمالية الدولة" أو "القطاع العام" فأوقف "حرية السوق"

تلك بالطبع فرية تاريخية بغض النظر عن موقفي الشخصي من أنه لا يوجد نمط اقتصادي "طبيعي" أو "وحيد" أو "أبدي وسرمدي" فحيثما تغير الزمان والمكان (المجتمعات) تتغير أنماط الملكية والإنتاج.. الخ.

وبدون الدخول في مجادلات وشروحات تاريخية فإن مصر شهدت في النصف الثاني من القرن 19 تفكيك "ملكية الرقبة" للأراضي الزراعية لتظهر طبقة ملاك الأراضي الزراعية بحث مباشر من بريطانيا ثم أتى قانون الإصلاح الزراعي 1952 ليعالج "الخلل" في النسبة بين "الملاك الجدد" و بين "المزارعين المزمنين".

وسبق ذلك مباشرة تطبيق إتفاقية لندن 1840 التي أجبرت مصر على فتح أسواقها للبضائع الأجنبية وأجهضت أوليات الصناعة الوطنية التي نشأت مرتبطة بإنشاء الجيش المصري.

ورغم أن وقائع الحربين العالميتين قد هيئت الأوضاع لمحاولات تصنيع (طلعت حرب وبنك مصر) إلا أن الهيمنة ظلت للاحتكارات والشركات الأجنبية على مجمل الاقتصاد المصري سواء عبر "بورصة القطن" أو عبر الوكالات التجارية.

نخلص من ذلك إلى أن نشأة مجتمع صناعي حداثي كانت تجربة قادها "القطاع العام" عبر إضافة أكثر من ألف مصنع مملوكة للدولة وليس على "حساب" القطاع الخاص الصناعي تحديدا.

ثم شهدت مصر منذ الربع الأخير من القرن العشرين مرحلة تحويل الملكية العامة (إنتاجيا وخدميا) إلى القطاع الخاص لإنشاء طبقة اجتماعية في مدى زمني قصير ولكن ليس بطلب من بريطانيا ولكن من صندوق النقد والبنك الدوليين.

كان لهذا الإجراء أن يكون بمثابة "عملية ولادة قيصرية" لاستنبات طبقة رأسمالية تشتري الأصول دون حاجة لإنشائها ولكنها تحولت إلى ما يمكن أن يوصف دون مبالغة "بميلاد سفاح" ذلك أن عمليات نقل الملكية شهدت كل الجرائم المتاحة والمتخيلة بدءا من التقييم المتدني للأصول (البيع بالقيمة الدفترية) ومرورا بإغلاق المصانع وتحويلها لعقارات وتسريح العمال وإنتهاء بشراء المصانع بقروض من بنوك القطاع العام وعدم تسديدها أيضا.

جرت عمليات إلغاء ونقل ملكية لنحو 90٪ من شركات القطع العام دون كبير مقاومة خلال العقود الماضية ولعل تعبيرات وجه وزير قطاع الأعمال أثناء مناقشات البرلمان توضح "دهشته" من اعتراض بعض النواب على آخر مراحل "النقل والتصفية" مثلما أفصحت كلماته "توجيهات عليا" عن عدم إدراكه لحقيقة أن الأمور ليست كما كانت في ليالي "عاطف عبيد" أو حتى أحمد نظيف.

لا يعني ذلك أن ثمة تغيرات عميقة أو حاسمة قد جرت ولكننا فعليا أمام "اختبار قوى" تتواجه في ساحته "تغيرات كمية" تريد أن تفصح عن" تغير كيفي"مع قوى "الخصخصة" التي فقدت بعضا من رموزها والكثير من زخمها ولكنها ترى في ذلك خسائر "محدودة" لن تحول دون المضي قدما في "خصخصة" البلاد.

اختصارا وبشكل مخل فعليا ما الذي تغير بعد أقل من نصف قرن من تطبيق روشتة الصندوق والبنك الدوليين؟

1- التغير الأول هو موقف قوى العمل من عمليات التصفية (بالخصخصة أو بدونها) حيث نجد تراجعا نهائيا في قدرة "الحكومة" على تفريق مواقف قوى العمل من عملية نقل الملكية العامة بعدما رأى الجميع "رأس الذئب الطائر" يتجسد أمامهم مع انهيار أحلام الذين قبلوا بالمعاش المبكر في الثراء والتحول للنشاط الخاص فلا احلام "التاكسي" و "الكشك" تحققت ولا سيما مع ارتفاع نسب التضخم وتعثر فقاعة التنمية العقارية وارتفاع تكلفة الخدمات الأساسية

اليوم تدرك قوى العمل (أصحاب الياقات البيضاء قبل الزرقاء) أن لا خلاص فردي لهم فالطريق مسدود إلا في اتجاه البطالة.

2- والتغيير الثاني يتصل بطبيعة بنية الحكومة، فحكومات ما قبل يناير 2011 تحولت تدريجيا من حكومات "تنفذ" اتفاقات الصندوق والبنك إلى حكومات "زواج خلاسي" بين تنفيذيين ورجال أعمال" عبر علاقات تصاهر وشراكات خفية" قبل أن تنتهي إلى أن تصبح حكومة "رجال أعمال" تستخدم مسئولين تنفيذيين.

وعبر تلك التحولات كان يتم الدفع بقوة وعبر علاقات قرابية (وزير قطاع الأعمال هو أحد نواتجها) بكل الذين يسوغون ويدافعون عن"الخصخصة" كخيار حتمي ووحيد ليصبحوا "فلاسفة الغبراء" و" خبراء الاقتصاد" وجلهم بدون معارف أكاديمية تؤهلهم لتدبيج "الهراء" حول "الخصخصة" ومن نال منهم شهادة أكاديمية تكتشف كل يوم أنها كانت كندية آو أمريكية وعبر المنح الدراسية التي قدمت في إطار برامج التعاون الملحقة باتفاقات الصندوق والبنك الدوليين، بالأدق جرى خلق صف أمامي هجومي من وزراء جاءوا من عالم الأعمال في الهزيع الأخير من رئاسة مبارك وصف ثاني من "التكنوقراط" أصحاب الياقات البيضاء والرطانات الأجنبية محملين بكل مقولات الليبرالية الجديدة وأيضا مكبلين بعلاقات المصالح مع "الرأسمالية المولودة سفاحا"

صحيح أزيحت قيادات ورموز الصف الأول بعد سقوط حسني مبارك ولكن بعضا من هؤلاء ممن لم يلتحموا بعملية توريث الحكم لم يغيبوا عن المشهد بل وزادوا من مكاسبهم وتقدموا صفوفا، بينما ظل الدفع بأشبال الصف الثاني على أشده لتجد هؤلاء دوما في مواقع تنفيذية سواء في كل الحكومات التي جاءت بعد حكومة عصام شرف (نعم كل الحكومات بدون استثناء واحد)

وهنا يكمن الفارق الذي يبدو كميا حيث تتألف نخبة الحكم من مزيج غير منتظم يضم بين جنباته، "فلول" من نظام مبارك، ومعاونين من الصف الثاني لكتلة التوريث لا أهلية معرفية لهم ولكن عبر دعم قرابي/ رأسمالي تم تلميعهم والتنويه بهم، ورجال من رحم الدولة ومؤسساتها العميقة ينظرون بشكل برجماتي لسياسات الحكومة دون التمسك بأسس عقائدية محددة، وعلى "الأعراف" رجال يعلمون جيدا أن النموذج الرأسمالي يحمل خطرا عظيما على مكنون الوحدة الوطنية واستقرار نظام الحكم في تلك الفترة وهؤلاء يحاولون التنبيه وقرع أجراس التحذير من استمرار ذات نهج "فريق التوريث" وتأثير ذلك على فكرة الدولة ذاتها.

باختصار ليست الحكومة الحالية على ذات الصرامة "الايديولوجية" للحكومات السابقة "كلها" ولا تتمتع بذات التناغم في الاستجابة "للبنك والصندوق الدوليين"، وآية ذلك أن الذين يمكن وصفهم بأنصار نظام (30/25) ليسوا على ذات الموقف فيما يخص مصنع حلوان وسماد طلخا وهؤلاء يستمدون قوة ليس فقط من صلابة وتبللور الموقف العمالي ولكن أيضا ببعض مكونات الحكومة ذاتها.

ويتبقى أن الموقف من تصفية مصنع الحديد والصلب يختلف عن كل عمليات الخصخصة السابقة لأنه لا يصنف ضمن خانة "نقل" الملكية ولكن ضمن لائحة "الإزاحة" الكلية وهو أمر يقلل حماس بل ويثير خشية بعض مكونات الرأسمالية المصرية فهو يصب في مصلحة شركات مثل "عز" ووكالات تستورد الحديد من تركيا وأوكرانيا (بأسعار إغراق) ويجعلها في وضع احتكاري وهو أمر يثير قلق قطاع البناء والتشييد بوجه خاص.

ومن ناحية أخرى فإن مصنع حديد حلوان لا يقدم منتجات نهائية للمستهلكين ولكنه يوفر منتجات وسيطة لمصنعين آخرين يتمتعون بأسعار منتجاته ذات الطابع "التفضيلي" ولو اختفى هذا المصنع ستصبح هذه المصانع تحت رحمة "الاحتكارات" الداخلية أو الخارجية على حد سواء. ناهيك عن تأثيرات اختفاء المصنع على مستقبل "الصناعات العسكرية" و الاستراتيجية.

وختاما ينبغي أن نلمح فقط إلى أن اكتشافات الغاز وفرت لأي حكومة فرصا لم تكن قائمة لسداد القروض للجهات الدولية ومن ثم لم تعد مرغمة على المغامرة بارتكاب حماقات لا ضرورة لها.
------------------------------
بقلم: د. أحمد الصاوي
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

عصافير بايدن





اعلان