28 - 03 - 2024

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (7) وكادت هاوية تبتلعنا

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (7) وكادت هاوية تبتلعنا

(19)

1997 .. كنت قد استنفذت كل طاقتي في قسم المواصلات العامة بدبي.. لم أعد قادرا على الصبر أكثر من ذلك.. حين تدق الساعة الرابعة عصرا تكون جميع الرحلات على كل الخطوط قد بدأت في الزحام.. فهذا هو موعد فتح مكاتب القطاع الخاص للفترة المسائية.. يستتبع ذلك ازدحام الطرقات خصوصا في الشوارع الداخلية للمدينة.. ما يعني أن الوقت المحدد للرحلة بين محطتين لن يكون كافيا.. ما يعني أنه بمجرد وصولك لأي من المحطات يكون وقتك قد انتهى وفي معظم الرحلات تكون متأخرا عن موعد القيام.. ما يعني أنك لن تهنأ براحة أو تناول كوب شاي أو تدخين سيجارة (أقلعت عن التدخين عام 2009).. بإمكانك دخول المرحاض بالكاد .. ضغوط عمل رهيبة جاءت بارتفاع في ضغط الدم .. كان أسبوع العمل الصباحي أرحم بكثير من نظيره المسائي من حيث الضغوط أو الزحام (تبديل الشفت من الصباحي إلى المسائي والعكس يحدث كل أسبوع) .. والأصعب على النفس أن العمل المسائي يقضي تماما على كل ساعات اليوم.. بالكاد تصحو من النوم لتتهيأ لاستلام العمل الساعة الثانية ظهرا وهذا يعني خروجك من البيت قبل الموعد بأكثر من ساعة.. انتهاء العمل نحو الساعة العاشرة .. وحتى تنتهي من تسليم الايراد يكون كل شئ قد انتهى وليس أمامك سوى العودة إلى البيت.. تلك الآلية أثرت كثيرا على تواصلي وتواجدي في الفعاليات الثقافية بشكل منتظم .. وكان الحل أن انتقل للعمل في قسم النقل الداخلي.. العمل صباحا .. نقل عمال قسم الصحة من مساكن العمال (الرابعة صباحا) إلى مكاتب الصحة في منطقة الشندغة في  ديرة، ثم منطقة الكرامة ببر دبي.. ثم العودة لنقل عمال قسم الزراعة من مساكن العمال (الخامسة صباحا) إلى مكاتب قسم الزراعة في منطقة هور العنز في ديرة ومنطقة القرهود ببر دبي.. ثم فترة راحة تنتهي ببدء إعادة عمال الصحة (الساعة الواحدة) .. ثم عمال الزراعة (الساعة الثانية ظهرا).

إذن هذا هو برنامج العمل.. الثالثة صباحا موعد الاستيقاظ.. لا بأس .. في الصيف مضت الأمور على ما يرام رغم حرارة الطقس ورطوبته .. نوافذ الحافلة (غير المكيفة) مفتوحة رغم أنف الجميع .. أما في الشتاء فبرودة قارسة في ذاك التوقيت المبكر.. نوافذ الحافلة موصدة رغم أنف الجميع إلا نافذتي.. طوال الطريق رأسي خارج النافذة.. مع الاحترام للعمال واكتظاظهم مع ملابسهم التي لا تشم الماء إلا مع نهاية الأسبوع .. فأنت لا طاقة لك بهذه الأنفاس التي تجتر هواء معلبا داخل حافلة.. لينتهي اليوم بنزولي مع ملابسي تحت دش بارد صيفا دافئ شتاء.. ثم ألقي بكل شيء خلف ظهري وأمضي لإكمال يومي كما ينبغي له أن يكون.

في تلك الفترة دعاني الصديق الأديب فوزي صالح لكتابة زاوية أسبوعية في جريدة البيان ضمن باب بريد القراء تحت عنوان (وجهة نظر).. كان يريد أن يحدث توازنا جديدا في هذا الباب.. واختار مجموعة من الكتاب وخصص يوما لكل واحد منا فاخترت يوم الإثنين.. من بين من كتبوا في هذه الزاوية الشاعر عارف الشيخ، والصديق القاص عبد الفتاح صبري، وآخرون.. كانت زيارتي كثيرة للأصدقاء في صحيفتي البيان والخليج.. وكذلك للأصدقاء في مجلة الرافد.. ومع ذلك لم أسع لنشر أي نص في أي مطبوعة.. 

تزامن عملي الصباحي أن انتقلت للسكن إلى جوار الصديق محمود الورواري بالشارقة.. وبحكم سكننا في نفس المبنى (هو في الطابق الخامس مع أسرته.. زوجته وطفلته الصغيرة زينه، وأنا في الطابق الثالث).. كنا نلتقي يوميا .. إما في بيتي .. أو في بيته.. وكثيرا ما كنا نخرج للمشاركة في الأمسيات.. أو أن تجمعنا جلسات السمر والحديث في شتى المواضيع .. أو الغناء مع عزف الشاعرة رانيا الجزار على العود.. ساحة النادي العربي كانت وجهتنا.. لكن أقدامنا ما لبثت أن عرفت الطريق إلى مقهى الفنون بعد افتتاحه بفترة قصيرة.. كنا نلتقي هناك كمجموعة كبيرة بعد انتهاء نشاط اتحاد الكتاب .. أما بقية الأيام فكانت اللقاءات مقتصرة على دائرة صغيرة من الأصدقاء والصديقات.. لكن يحدث أحيانا أن يتطفل علينا البعض ..

(20)

مع نهاية عام 1998.. همس الصديق محمود الورواري في أذني أن صحافيا سيغادر مجلة الشرطي وسيكون مكانه شاغرا.. وأن فرصتي كبيرة لشغل المكان.. تباحثنا كثيرا في الأمر .. ومع كل طمأنة أشعر بها في حديث الورواري تجعلني أشرع في ترتيب أوراقي من جديد.. لكن المجازفة كانت تحتم أن أقدم استقالتي من البلدية قبل شهر من التوقف عن العمل.. خطوة ألقت بي على قارعة الطريق.. ماذا حدث يا محمود؟.. الصحافي الذي كان سيغادر .. ما به؟؟.. رأت إدارة المجلة أن يظل في مكانه لفترة أخرى..

هذه المرة كان الأمر مختلفا عما سبق من اضطرابات في العمل.. كانت هناك التزامات مادية مع أحد البنوك.. وتأخير القسط الشهري يعني الدخول في إشكالات عديدة.. لذا .. توجب علي أن اجتاز مرحلة العتاب مع صديقي (رغم الغصة) وأن أفكر سريعا في البدائل.. تحركت في عدة اتجاهات.. كان من بينها أن عملت في مجلة المشاهير (لا أتذكر جيدا من دلني على المكان.. ربما كانت صديقتي الروائية أمال بشيري)..

بناية فخمة في شارع البنوك بالشارقة.. شقة مجهزة بشكل جيد لتكون مقرا للمجلة.. سألت عن مدير التحرير مصطفى سالم .. تعرفنا .. واتفقنا أن أجري تحقيقات وحوارات صحافية.. مع إعداد ملف كامل في كل عدد عن شخصية ثقافية .. وبدأنا العمل.. تعرفت هناك إلى الصديقة الرائعة الصحافية منى سعيد وتوطدت صداقتنا كثيرا فيما بعد وما زالت حتى الآن.. مع مرور الأيام بدأ الخوف يتسرب إلى نفوس العاملين.. تسويف متكرر لصرف الرواتب.. لم أكن الوحيد الذي يقع تحت ضغوط المتطلبات اليومية من مصاريف.. أو إلتزامات شهرية من إيجار سكن وفواتير كهرباء واتصالات وغيرها.. كان الرد الجاهز هو أن الرواتب لم تأت من المصدر بعد.. بدأت الشكوك في مصداقية هذا الرد تزداد يوما بعد يوم.. والمعلومات تسري همسا أن الرواتب قد تم اعتمادها في مواعيدها ولكن مدير التحرير استولى عليها.. مهما كان الأمر.. لم يكن بوسعنا فعل شيء.. توصلنا إلى رفع شكوى في جمعية الصحافيين رغم علمنا بأنها ليست جهة اختصاص.. خطوة لفضح مدير التحرير مهنيا في الوسط الصحافي دون تخطيط منا في هذا الاتجاه.. وقد كان.. ذهبنا إلى مقر الجمعية القديم في البرج الفخم المطل على خور دبي في شارع بني ياس.. وانتهى الأمر على لا شيء.

الاتجاه الثاني كان (بالإكراه)  صوب مؤسسة الإمارات للمواصلات.. المؤسسة المتخصصة في نقل طلبة المدارس على حافلاتها.. رواتب لا تكاد تذكر.. عودة إلى مقود قيادة الحافلات.. هذه العودة كانت خياري الأخير تحت وطأة قرب انتهاء الإقامة.. أجريت المقابلة والاختبار في شهر أبريل 1999.. لم أفرح حين تم قبولي .. واخترت العمل في القسم التجاري الذي يتعامل مع المدارس الخاصة والمعاهد والمؤسسات والجامعات بحافلات مكيفة.. إجراءات التعيين في شهر أغسطس قبيل بداية العام الدراسي الجديد.. إذن .. أربعة أشهر بانتظار العمل.. وخمسة أشهر لأول راتب..

مرحلة قاسية جديدة.. خففت من قسوتها جلساتنا الثقافية والاجتماعية.. كان للصديقة الصحافية ليلى سعيد (وزهراتها ريما وراما ويارا) الجزء الأكبر في التخفيف عني.. كانت وما زالت مرجعيتي في كثير من الأمور.. وفي بيتها أقمت حفل زفافي على الإنسانة التي افترشت معي الأرض لنأكل وجبة هندية .. (أم أية .. القاصة والصحافية ذكرى لعيبي).. كانت هناك أيضا الروائية والصحافية أمال بشيري وكلبها زوربا.. وكيف كنا نتدبر ثمن علبة السجائر أحيانا.. وفي فترة لاحقة الصديقة الصحافية منى سعيد والصديقة الصحافية ثناء عبد العظيم .. ولفترة قصيرة الصديقة الصحافية منى العاصي .. يسأل خبيث.. وهل صداقتك كلها نساء فقط؟؟ بالقطع لا.. هناك الصديق الشاعر مجدي أبو زيد الذي كانت له مواقف جليلة معي.. وكانت سهراتنا المتكررة في بيته رفقة الصديق الصحافي رمضان العباسي مع بداية الألفية الثانية.. كان هناك أصدقاء الوسط الثقافي الصديق الشاعر حسين القباحي والشاعر سلمان الشعشاع والقاص محمد برهان وآخرون التقيهم من حين إلى آخر.. لكنني أظل ممتنا لصديقاتي .. فقد كن سباقات في السؤال عني وإخراجي عنوة من دائرة الهواجس والتفكير .. الجميل أنهن ما زلن على عهدهن .. يبادرن بالتواصل معي حتى هذه الساعة ونتذكر أحيانا تلك الأيام و.. نضحك.

(21)

سبتمبر 1999 استلمت العمل في مؤسسة الإمارات للمواصلات فرع الشارقة بالمنطقة الصناعية.. لم تكن هناك فترة تدريبية .. فلا يوجد مسار ثابت للحافلات سوى معرفة مقر الجهة المؤجرة للحافلة مثل الجامعات أو المدارس الخاصة.. ومن ثم معرفة مكان سكن الطلاب ووضع خط سير حسب المناطق .. الرحلات الثابتة كانت مع عطلة نهاية الأسبوع تتمثل في نقل طلاب المناطق النائية الذين يقيمون في سكن الجامعة إلى مدنهم مساء الأربعاء.. وإلى سكن الجامعة مساء الجمعة..(العطلة الأسبوعية حينها خميس وجمعة).. كانت مجموعة حافلات سعة 50 راكبا مخصصة لنقل طالبات جامعة الشارقة من وإلى منطقة دبا الفجيرة.. وحافلة واحدة لطلاب وطالبات الجامعة الأمريكية من وإلى أبوظبي.. هذه الرحلات مخصص لها مكافآت تصرف كل 15 يوما.. كانت التعليمات صارمة.. ممنوع نزول الطلاب من الحافلة على الطريق (تعليمات لا تنطبق على حافلة طلاب وطالبات الجامعة الأمريكية).. المهم أن أول رحلة قمت بها كانت باتجاه دبا الفجيرة مع طالبات جامعة الشارقة.. وهي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى دبا الفجيرة.. تتحرك الحافلات من أمام سكن الجامعة قبيل غروب الشمس .. اتفقت مع سائق قديم أن يسير أمامي حتى أتعرف على طبيعة الطريق خصوصا في المناطق الجبلية.. إذ لا توجد مشكلة في تتبع اللوحات الإرشادية المرورية للوصول إلى أي منطقة أو مدينة.

 اكتمل العدد .. تحركت الحافلات .. تقاطر على طريق الشارقة الذيد.. لا توجد مشكلة .. غابت الشمس.. السائق أمامي .. تجاوزنا قرية الذيد.. أصوات الطالبات وضحكاتهن وأحيانا صراخ مزاحهن.. بدأت طبيعة الصحراء الجبلية تتشكل لكن من دون خطورة في منحنيات الطريق.. سوق الجمعة بين المرتفعات الجبلية .. إضاءة على الطريق .. قرية مسافي .. دوار مسافي.. يمينا إلى الفجيرة.. يسارا إلى دبا الفجيرة.. الطريق مسربان فقط في الإتجاهين.. إضاءة على الطريق بين الجبال .. ثم ظلام.. منعطف خفيف.. آخر بزاوية تكاد تكون حادة.. كانت عيناي تحدقان على جانبي الطريق لمتابعة اللوحات الإرشادية..  إضاءة .. ثم ظلام .. ظلام .. لم يعد لحافلة السائق أمامي وجود .. فجأة لم أعد أرى الطريق أمامي رغم استخدام كل أضواء الحافلة الأمامية.. فجأة أنا مع بداية منحدر قوي .. يميني هاوية سحيقة .. يساري مسرب الاتجاه المعاكس ملاصقا للجبل.. زادت سرعة الحافلة بصورة كادت أن تشل تفكيري.. رحت أضغط بكل قوتي على كابح السرعة.. وقفت حتى ألقي بكل وزني للحد من السرعة وأنا أطوق مقود الحافلة حتى لا تنحرف يمينا أو يسارا.. دقيقتان رأيت فيهما رعب السنين.. انتهى المنحدر وما زالت سرعة الحافلة على حالها باتجاه منعطفات خفيفة.. بدأت في إرجاع ناقل الحركة تدريجيا من الخامس إلى الرابع.. الثالث.. بحثت عن مكان آمن على يمين الطريق .. توقفت الحافلة.. توقفت أصوات الطالبات.. فتحت باب الحافلة ووقفت أنظر إليهن.. نظرات استغراب تجاهي .. نزلت وغير بعيد جلست مستندا إلى صخرة.. ورحت في نوبة شهيق وزفير كمن كان يركض في مضمار سباق.. وقفت إحدى الطالبات على باب الحافلة تستفسر .. هل أنت بخير؟.. بسيطة كنا على وشك الموت جميعا ولا أكثر.. 

نعم .. خمسون طالبة كن على حافة كارثة.. تجربة لم استطع نسيانها حتى الآن.. وصلت إلى نقطة التجمع في دبا الفجيرة متأخرا بعض الوقت.. الأهالي بالانتظار .. اشتبكت مع السائق وأنا أعرف أنه غير ملزم بأي اتفاق معي إلا في حدود الزمالة .. عدت في اليوم التالي بسيارتي الخاصة نهارا.. وتأملت في خريطة المكان .. تملكتني حالة من الرعب والفزع أكثر مما كنت عليه أثناء الواقعة.. خلال الواقعة كنت أفكر في شيء واحد فقط وهو إيقاف الحافلة.. أما وأنا أشاهد هذه اللوحة المرعبة فالأمر صعب جدا.. كانت الهاوية يمين الطريق موصومة بالحوادث الكارثية كما رأيت من حطام السيارات أسفل الوادي.. من بعد ذلك رحت أخرج قبل الموعد بكثير يوم الجمعة بإتجاه دبا الفجيرة لإحضار الطالبات.. لكي أتوقف عند أعلى المنحدر وأترجل.. ثم أطلق عيني تجوبان المكان.. غير أنني لم أتوقف عن هذا التأمل والتقاط الصور أحيانا في كل زياراتي التي قمت بها لدبا الفجيرة لاحقا وما أكثرها. 
--------------------------
بقلم: عز الدين الأسواني
الحلقات السابقة
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية 
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة 

 






اعلان