27 - 04 - 2024

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (5) عوالم أخرى

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (5) عوالم أخرى

(13)

عام 1990.. بدأت الأخبار تتناثر مع تعيين مسؤولين جدد في المواقع القيادية لقسم المواصلات.. المرحلة المقبلة ستشهد تطويرا كبيرا .. سيتم تركيب ماكينات لقطع التذاكر لتضاف إلى أعباء السائق مهمة التحصيل.. سائق ومحصل تذاكر في آن واحد.. تطلب الأمر الاستغناء عن مجموعة كبيرة من السائقين (الأميين) الذين لم يستوعبوا الأمر.. ولكي يصبح القرار أمرا واقعا تم تعيين مجموعة سائقين من الفلبين قاموا بالمهمة على أكمل وجه.. وفي اجتماع معنا تم توزيع خطابات الاستغناء عن خدماتنا، علاوة على خطاب موجه إلى دائرة مرور دبي بأن لا مانع أن نستخرج رخصة قيادة حافلة كبيرة .. وأن الأولوية لنا في العودة إلى العمل لخبرتنا ومعرفتنا بالطرق والخطوط وغير ذلك.. كنا نعرف صعوبة أن نحصل على رخصة قيادة حافلة كبيرة.. وإذا حصلنا على الرخصة فإن مهمة العمل الجديدة (المزدوجة) مرهقة للغاية، وأن الفارق في الراتب ليس كبيرا.. هكذا انتهت علاقة الكثيرين بقسم المواصلات.. هناك من افتتح سوبر ماركت.. وآخر يجيد مهنة النجارة فانتقل لقسم المباني التاريخية.. أحدهم عمل سائقا لدى أسرة أجنبية.. وهناك من كانت لديه طرقه الخاصة فتم تعديل وضعه للعمل كإداري في القسم.. المهم .. أنا وآخرون.. إلى الشارع.

إلى نقطة الصفر من جديد.. يقول قائل إن الوضع مختلف.. المفترض أن لدي علاقات مع أناس جدد.. أن دائرة المعارف قد اتسعت، وهذا صحيح، لكنني حتى الآن لا أجيد فن استثمار العلاقات.. إلى يومنا هذا لم أفكر في استخراج تأشيرة عمل لأخ أو إبن أخ أو إبن أخت وجميعهم بحاجة إلى فرص عمل..(يمازحني صديق .. يا أسواني .. فلان أحضر كل أفراد عائلته ومش ناقص غير يحضر عظام الموتى من مصر.. وأنت مش قادر تعمل فيزا لأحد من عائلتك؟) ..

في رحلة البحث الطويلة عن عمل جديد .. توقفت قدماي أمام فندق بريزدنت في منطقة الكرامة ببر دبي.. المدير سوداني.. قال إنه بحاجة إلى سائق على باص 25 راكبا .. وإن افتتاح الفندق بعد اسبوع مع أعياد الميلاد 1990..

بدأت العمل.. تارة على الحافلة عندما يقرر الشيف مثلا أن يشتري نواقص المطبخ .. أو على سيارة خاصة في تنقلات المدير أو زوجته الألمانية التي كانت مهمتها الإشراف على ملابس وهندام النادلات.

العمل 24 ساعة مقسمة على شفتين .. كان السائق الآخر سوداني .. وتشاء الصدف أن يكون سكن العاملين في الفندق أمام مكتبة أم سقيم في جميرا (ضمن مكتبات دبي العامة) .. فيلا من طابقين.. الطابق السفلي للذكور.. والعلوي للإناث (فلبينيات وهندية واحدة).. كنا ثلاثة عرب فقط .. السائق السوداني مرتضى والنادل المصري صلاح.. وبالتالي كانت لنا كلمتنا.. أستولينا على المجلس (خارج مدخل الفيلا الداخلي) لنكون منفصلين تماما عن البقية .. حيث كانت الأسٍرَّة مزدوجة في الغرف .. أما مدخل الطابق العلوي فقد تم فتح باب خلفي الطريق إليه يمر أمام المطبخ الذي يجمع كل العاملين لتناول الوجبات.. خصوصا وجبة الغذاء لطبيعة العمل الليلة لمعظم العاملين.. وكانت هذه المنطقة من الفيلا تحت أنظار حارس الأمن النيجيري  (جته تخاله من أبطال المصارعة الحرة.. تصادقنا معه ثلاثتنا العرب إلى درجة كان يغض فيها الطرف أحيانا فنصعد إلى الطابق العلوي).. لكن معظم أوقات جلساتنا كانت في المطبخ .. ننتهي من الطعام والمشروبات.. ونبدأ منافسات الشطرنج.. ولا ضير من أن تنزوي على طاولة غير بعيدة مع صديقة ..

(14)

وأنت تعمل سائقا على حافلة فندق فأنت منكشف رغم أنفك على كثير من الخبايا الليلية تحت عباءات السكارى الباحثين عن الأوقات الممتعة.. أنت منكشف على تلك الخبايا بحكم قربك من الدائرة التي تقدم المتعة والخدمة للزبائن.. نادلات جميلات خبيرات في كيفية الحصول على الإكرامية المعتبرة من الزبون بجعله شهريار زمانه .. لا بأس من التسويف في قبول دعوة للسهر في يوم العطلة.. راقصات ومغنيات في فرق موسيقية يخضعن لتعليمات قاسية من إدارة الفندق لأن يجرجرن الزبائن بالضحكات وغمز العيون، وهز الأرداف أمام غِرِ أو حتى متمرس، شرط أن يضع الزبون كل ما في حافظة نقوده قبل أن يغادر.. نضحك مع الزبون نعم.. نأخذ رقم الهاتف .. لا بأس.. نهاتفه .. عادي.. أما أن نخرج معه فهذا يعني الخروج من الفرقة بعد عقاب قاس (حسب العرف الجاري في جميع الفنادق وحتى المقاهي الكبيرة.. خروج المغنية أو الراقصة مع الزبائن يعني أنهم لن يعودوا مرة أخرة إلى الصالة). كم من حكايات كانت تدور بين النادلات وهن عائدات فجرا إلى السكن حول مفارقات جرت مع زبائن.. وكم من مفارقات على ألسنة صديقاتنا النادلات وهن يسخرن من بعض الممارسات.. وما أريد قوله.. أن هذه التجربة فتحت عيني على أشياء كثيرة في عالم السهر والرقص وصداقات النساء ممن يعملن في هذه الأجواء.. تجربة جاءت في الوقت المناسب فكفيت نفسي شر هذه الفئة (على الرغم أن من بين العاملات في هذا المجال من كانت ترغب في عمل آخر أكثر احتراما لإنسانيتها.. فمعظمهن لا صلة لهن بهذه المهنة.. لكن القدر القى بهن على - بست راقص - لا يتطلب شهادات دراسية أو خبرة، مجرد هز وسط وضحكة مجلجلة وقليل من الغنج)..

تواكبت فترة عملي في فندق بريزدنت مع ما أسفرت عنه برستوريكا غورباتشوف وثورات أوروبا الشرقية من تفكك للإتحاد السوفيتي.. وخروج (شعب القوة العظمى التي اختفت) للبحث عن العمل .. أو للسياحة واكتشاف العالم.. أو للتجارة .. كنت على موعد يتجدد خلال يومين أو ثلاثة مع رحلات الطيران القادمة من أوروبا الشرقية حاملة معها أفواجا حجزت إقامتها في الفندق.. كنت سائقا ومرافقا للأفواج في الرحلات البرية والبحرية.. وبحكم الوقت الممتد في الرحلات .. لابد من أحاديث تجمعك مع البعض.. في السياسة .. في الاقتصاد.. في الحالة المعيشية التي كانت وكيف تغيرت؟ .. (في زاوية من المرقص الإفريقي في الفندق تجلس مهندسة خمسينية جاءت تبحث عن عمل فوجدت نفسها بائعة هوى فاشلة وسط فتيات لم يتخطين العشرين .. كان راتبها الشهري 30 دولارا ويكفيها تماما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي.. فقد كانت الحكومة تتكفل بكل متطلبات مواطنيها المعيشية..أما الآن وقد تغيرت الأمور .. ماذا تفعل بهذا المبلغ وثمن علبة السجائر أربعة دولارات؟).

هكذا مرت تجربة عملي في فندق بريزدنت.. انفتاح على عوالم مختلفة .. علاقات جديدة روضت فيها صعيديتي أن تحترم ثقافات الشعوب وكيفية التفكير في العلاقات العاطفية على وجه الخصوص.. تلك العلاقات التي تمثل هاجسا مؤرقا لكل شعوب العالم ولكن بنسب متفاوتة وبأسباب مختلفة، روضت صعيديتي أن تتعاطى مع حرية إنجاب فتاة فلبينية مثلا من صديقها دون تشويه للعلاقة (رفض صلاح حمل صديقته رية منه .. بينما ضحت هي بالعمل في الفندق وعادت إلى الفلبين وانجبت طفلا ارسلت صوره لي ولشقيقتها جولي التي كانت تكمل عقد خروجنا وسهراتنا نحن الأربعة..).. المهم أنني عشت الحياة في تلك الأيام كما يجب أن يعيشها الشباب.. المكتبة العامة أمام السكن .. والاستمتاع بمنافسات الشطرنج مع الصديقات وجلساتهن المبهجة نهارا .. ثم متابعة ما يحدث في صالات الفندق ليلا .. وإذا كان ما يعكر صفو تلك الفترة كضعف الراتب مثلا.. إلا أنها لم تكن فترة بكائيات وتعب كما يظن البعض.. بل هي فترة مهمة لفهم مزيد من طبائع البشر من جنسيات مختلفة.. وقد عشت حياتي مستمتعا بكل شئ في أقسى الظروف.. لم أتوقف عن متابعة نشاطي على الساحة الثقافية .. الرياضية.. الفنية.. والكتابة اليوم عما كان.. هو نوع من الوفاء لجزء من التجربة..

 (15)

عندما عرفت إدارة فندق بريزدنت سبب عودة إحدى النادلات إلى الفلبين بعد فترة وجيزة من عملها، اصدرت تعليمات مشددة أن لا نجلس نحن العرب في مطبخ السكن.. أن لا نتحدث مع النادلات إلا في حدود العمل.. ضاق الخناق علينا .. كثرت إجازات الصديقات بحجة مرضية أو بدون.. كثرت الخلافات مع الإدارة.. (يعني احنا راضيين براتب لا يذكر.. وشفت 12 ساعة عمل..وعايزين تخنقونا؟).. ثلاث بنات قدمن استقالاتهن.. صلاح انتقل للعمل في فندق آخر.. أما أنا فلملمت ملابسي وكتبي وخرجت.. كانت الغرفة الخالية في بيت صديقي مجيد تنتظرني (كان قد تزوج في ذلك الوقت من شاهين وأنجب ابنته الكبرى عائشة.. وهذه المرة لم تكن هي الأولى التي أنام في هذه الغرفة بحكم علاقة الصداقة القوية مع مجيد وشاهين واسرتها الهندية).. لكنني لم أركن إلى هذا الوضع وبحثت عن عمل جديد.. هذه المرة كانت عن طريق صديقي الشاعر إبراهيم المصري.. في منطقة بور سعيد بالقرب من دوار الساعة.. صديق له يعرف من يبحث عن سائق على باص صغير لتوصيل الوجبات .. مطعم التكية .. بالقرب من موقف الحافلات في منطقة الغبيبة ببر دبي.. صاحبه مصري من أصحاب السهر والمزاج.. لا بأس.. نجرب..

عشرون يوما تقريبا من الاختناق الحقيقي في مطعم التكية كانت كفيلة لأن أفكر بطريقة أخرى.. الإقامة سوف تنتهي بعد عدة أشهر.. تاريخ صلاحية خطاب بلدية دبي إلى دائرة المرور على وشك الانتهاء.. فلماذا لا أخوض تجربة الحصول على رخصة قيادة الحافلة الكبيرة.. أنا بالفعل عملت سائقا على باص واصبحت لدي خبرة تكفيني تكاليف التدرب في مدرسة لتعليم القيادة.. ثم أن باب العمل مفتوح أمامي في البلدية.. هكذا فكرت .. جمعت الأوراق المطلوبة وقدمتها لفتح ملف في المرور.. جاء يوم الاختبار.. ناقل الحركة هو ذاته في الحافلة 25 راكبا التي كنت أقودها في الفندق.. وجاءت التعليمات.. انعطف يسارا.. يمينا.. عودة إلى الاتجاه المعاكس.. انتظار النتيجة في صالة المرور.. ناجح.. (طز في التكية.. لملمت متعلقاتي .. أجر أيام العمل .. مع السلامة).

في اليوم التالي ذهبت إلى إدارة المواصلات العامة ومعي إشعار النجاح (استلمت الرخصة بعد يومين).. التقيت بأصدقاء الأمس ممن انتقلوا للعمل الإداي كما أسلفت.. والأصدقاء العاملين في التفتيش ومراقبة الحركة في المحطات.. رحب المسؤولون بعودتي وشرعوا في إجراءات انضمامي للقسم.. في نفس اليوم خرجت من أدراجهم رسالة إلى شؤون الموظفين في مكتب البلدية الرئيسي .. توجهت لاستلام الشقة في مساكن البلدية في شارع القصيص أمام النادي الأهلي .. شقة غرفة وصالة لكل سائقين.. سامي سعيد من محافظة دمياط.. لم تنقطع اتصالاتنا أو زياراتنا حتى الآن .. شقيقاه الكبيران يعملان في مطعم الدمياطي في منطقة الكرامة.. (كنا نتمسك بالعمل على خط 5 ديرة – الكرامة – بر دبي.. أولا لنوعية ركابه – هاي كلاس – نظافة الحافلات التي تعمل عليه – وأخيرا لسهولة الحصول على الساندويتشات من مطعم الدمياطي..).

كان قسم المواصلات قد تغير كثيرا.. حافلات مكيفة من طراز فولفو .. بعد أن كانت حافلات تاتا الهندية قد قطعت أنفاسنا في الثمانينات (موتور الحافلة في الداخل بين كابينة السائق والباب الأمامي.. مكائن قطع التذاكر مثبتة بطريقة جيدة .. التحكم في الأبواب .. مقاعد أمامية منفصلة للسيدات.. توقيت محكم للمغادرة والوصول بين المحطات .. تطوير كبير ينصب في خدمة العملاء.. لكنه متعب جدا بالنسبة للسائق كما شعرت فيما بعد.. كان لابد أن انخرط في ورشة للتعرف على آلية عمل ماكينة قطع التذاكر وكيفية تغيير الاتجاه بين المحطات باستخدام كارت يحمل رقما خاصا بي.. ثم كيفية تخطي المراحل على الخطوط الطويلة مثل العوير والخوانيج وحتا وجبل علي.. بعد ذلك التدرج في العمل على الخطوط رفقة سائق قديم..

كانت وجهة نظر الإدارة سليمة حين أعطتنا الأولوية للعودة إلى العمل حال حصولنا على رخص القيادة لمعرفتنا بطبيعة العمل والخطوط وطبائع العملاء.. وقد كان..
-------------------------------
بقلم: عز الدين الأسواني






اعلان