18 - 04 - 2024

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (3) وصموني مرارا بالجنون

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (3) وصموني مرارا بالجنون

(7)

(إذا أردت أن تعرف ثقافة شعب، فادخل حماماته العامة).. هذه مقولة لا أراها دقيقة فيما ترمي إليه الكلمات، فإذا كانت الحمامات العامة نظيفة مثلا فهي تعكس جانب النظافة أو العكس.. أما إذا كانت المقولة تعني ما يكتب على جدران الحمامات العامة من عبارات أو أرقام هواتف أو نقش رسومات جنسية، فهذا أيضا ليس أكثر من طريقة تعبير عن كبت جنسي أو ما شابه عند شريحة لا تكاد تذكر نسبتها.. وفي السياق.. يقول المثل الشعبي (هل تعرف فلانا؟.. نعم.. هل عاشرته؟.. لا.. إذا أنت لا تعرفه).. بالطبع أنا أسوق أمثلة تمهيدا للوصول إلى قناعة شخصية تستند إلى تجارب كثيرة وعميقة.. أن المرأة – إذا وضعتها الأقدار في دائرة القياس-  هي أول من تقدم ثقافة (منطقتها.. بلدها .. محيطها.. حتى وإن كانت أمية لا تجيد القراءة والكتابة) .. شرط الاقتراب منها حد (العِشرة والمعاشرة).

قلت إن فترة عملي في المواصلات العامة، هي بمثابة انفتاح صعيدي على عوالم أخرى من العلاقات الاجتماعية بما فيها العلاقات النسائية، بالتوازي مع انفتاحي على الساحة الثقافية منتصف الثمانينات.. كنت أتعامل مع جنسيات كثيرة تستعمل حافلات المواصلات العامة.. مع انطلاقة كل رحلة أكون على شفا علاقة جديدة مع أناس جدد.. وتعلمت لغات جديدة بحكم التماس مع الجمهور.. تعلمت مثلا (الأوردو بطلاقة) وأتابع الأفلام الهندية والباكستانية دون الحاجة إلى ترجمة.. تعلمت قدرا من لغة البشتو (بلوش باكستان وإيران).. وقدرا من الفارسية و(التكالو- الفلبين).. وأخيرا المفردات المبهمة علينا نحن أهل المشرق في اللغة المحكية عند بلدان المغرب العربي .. باختصار.. عرفت وعاشرت (ثقافات) كثيرة.. سهرت في أمسيات أعياد الميلاد.. و.. و... وباختصار المختصر.. وفي مثل تلك الأوساط .. لم أعد ذلك الفتى الصعيدي الخجول.. ولن أجد مفرا من أن أعرج على بعض تلك العلاقات في سياق كتابات لاحقة.

كان لدي استراحة لمدة عشر دقائق في المحطة الفرعية على أي خط.. كنت أخذ معي كتابا كل يوم.. أقرأ في فترة الراحة أو خلال المسافات الخالية من الركاب على الطريق.. أحيانا كانت تتملكني حالة كتابة .. أعقد يدي خلف ظهري وأظل أدور في المكان طوال فترة الراحة.. تنفلت يداي بإشارات مبهمة في الفضاء تارة .. وتارة تنفلت الكلمات بصوت مسموع.. ذهب سائق الحافلة لتناول الشاي في كافيتيريا غير بعيدة.. لم انتبه لتجمع بعض الموظفين والعمال في الكامب القريب.. لكنني وجدت من يسألني: "خوي شو بتسوي هنا؟" قلت أنا أعمل لدى مواصلات دبي.. هل من شيء؟؟.. أخذ يتفحصني من الأسفل إلى الأعلى .. قلت: ما المشكلة؟.. قال: اتصل علينا أحدهم مبلغا عن مجنون في هذا المكان.. ضحكت.. وصل سائق الحافلة على تجمع الناس.. ضحكنا.. اعتذر الشرطي ضاحكا ومضى.. 

الوصم بالجنون طالني في فترة لاحقة بسكن موظفي البلدية.. كنت في غرفتي .. الباب مفتوح .. حالة كتابة لقصة بوليسية بعنوان "عقدة نصف الوردة.. فازت بجازة تقديرة في مسابقة غانم غباش للقصة القصيرة).. كانت الحبكة تعتمد على كيفية عمل العقدة في أكثر من موضع انتهاء بالعقدة قرب زناد مسدس.. كنت احسب حساب قارئ سيدقق جيدا في الحبكة وآلية التنفيذ .. وبالتالي وضعت الأحذية ومكواة الملابس في مواضع تخيلية لما أراه في الحدث.. كنت ابتعد واتأمل.. ثم أبدل مواضع الأشياء.. إلى أن انتبهت لوقوف المارة أمام غرفتي.. كانوا يتناوبون على الفرجة بينما كنت منهمكا في الفكرة المسيطرة على عقلي.. توقفت ونظرت إليهم.. أشرت إليهم أنها فكرة لبناء مصنع ينتج (البراتا – خبز هندي باكستاني) من الأحذية القديمة.

(8)

مع نهاية عام 1985 كنت قد أكملت عامي الأول في بلدية دبي.. أصبح لدي رخصة قيادة وسيارة.. سهل جدا جدا أن تكون لديك سيارة في الإمارات.. غير أن الصعوبة تكمن في الحصول على الرخصة مع أن الأمر بسيط جدا.. الجميع يجيد قيادة السيارات بعد التعلم.. لكن .. كم ممن يجيدون القيادة لديه القدرة على التركيز؟.. عدم الخوف؟.. التصرف الصحيح أثناء ظرف مفاجئ؟.. تلك هي الأشياء التي يركز عليها الضابط أثناء الاختبار.. بينما الراسبون يركزون في التشبث بعجلة القيادة وناقل الحركة والنظر إلى اليمين لقراءة مدى نجاحهم في تنفيذ التعليمات على وجه الممتحن.. نعم .. أنا حصلت على رخصة القيادة من معهد شرطة دبي لتعليم قيادة السيارات في شارع الوصل.. (أصبح فيما بعد مركز بالحصا).. لكنني ورغم توقف المحرك ثلاث مرات لم أفكر لحظة أنني في اختبار.. ولم أعر الممتحن على يميني أي اهتمام..عندما انتهيت سألني: هل كنت سائق تاكسي في مصر؟ .. أبدا.. أنا تعلمت القيادة هنا .. وكنت ناجحا من أول اختبار.. ربما جرأة القيادة وهدم غرف الهنود وسور الكامب في القصيص قد كان لها دورها.. المهم .. أنا أقود سيارة بشكل قانوني .. وأن تحركاتي داخل دبي أو خارجها أصبحت سهلة.

ميدان دار الحكومة بالشارقة.. الديوان الأميري.. قاعة أفريقيا .. مبنى بلدية الشارقة القديم.. مكتب بريد الشارقة المركزي وإلى جواره بناية وجدت قدماي طريقها إليها.. أخذني مصعدها إلى الطابق الثالث.. لوحة على مدخل إحدى الشقق.. اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – الشارقة.. استقبلني محيي .. كان يحمل على عاتقه أشياء كثيرة في الاتحاد.. بدءا من إعداد الشاي والقهوة وتقديمهما.. مرورا بتنظيم وإعداد قاعة الندوات وتصوير الأوراق ونظافة المكان.. وليس انتهاء بمعرفة صفة كل المترددين على المكان.. الشاعر فلان.. القاص فلان.. تماما كما يسمع المسميات خلال الندوات..

يمين المدخل كان المطبخ ومن بعده المرحاض ثم غرفة المكتبة.. كل ذلك مفتوح على (صالة هي نفسها قاعة للندوات) ثم مكتب سكرتير الاتحاد وقد كان خلية نحل على مدار الأسبوع في ذلك الوقت.. كان المسرحي القدير والكاتب المميز والخلوق .. عبد الإله عبد القادر.. نفحة من ثقافة بلاد الرافدين العتيقة.. كان يجمع الكل حوله إلى أن انتقل للعمل مديرا لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية.

كان أول من تعرفت إليه ودلني على اتحاد الكتاب، صديقي اللدود الشاعر إبراهيم المصري (سلامتك يا شاعر).. كان وما يزال.. متفائلا على طول الخط.. يسخر من المشاكل ويبسطها ويكاد يقنعك أن لا مشكلة في الأصل.. 

قارئ لا يمل الكتاب وليس أي كتاب.. سطوت برضاه على مكتبته .. دفع إلى بكتب ما زالت عناوينها تدق في رأسي.. لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هيسه.. الإلياذة  والأوذيسة لهوميروس.. والشاهنامه لأبو قاسم الفردوسي.. وغيرها.. لكن لم يكن اتحاد الكتاب هو المكان الوحيد الذي عرفته مع إبراهيم المصري.. بل كان هناك أيضا مقهى نور الصباح في ميدان الساعة بالشارقة.. فبمجرد انتهاء ملتقى الثلاثاء الذي كان يجمع نخبة الأدباء والمثقفين والمهتمين في قاعة الندوات، حتى تنتقل الجلسة إلى طاولة كبيرة على الرصيف أمام المقهى.. ومع تكرار اللقاءات اتسعت دائرة الأصدقاء (نستبقي ذكر الأسماء مع سياق الكتابة).. إلى أن أصبح انعقاد تجمعنا يوميا .. رغم صعوبة التواصل آنذاك.. فأصبح التعود هو الميقات الذي يجمعنا حتى وإن تغيب البعض، وكان عمال المقهى هم بوصلة تحركاتنا للسائلين.. هل مر فلان اليوم؟ أو هل ترك فلان رسالة لي؟.. كنت الوحيد الذي يقطن في دبي .. أما بقية الأصدقاء فكانوا من سكان الشارقة وقلة في عجمان.. ما سهل اللقاءات اليومية سواء في اتحاد الكتاب أو على مقهى نور الصباح.. بالنسبة لي كان ذهابي إلى الشارقة يبدأ باتحاد الكتاب.. لا لشيء سوى أن اقضي بعض الوقت في محل الموسيقار والمطرب اليمني أحمد فتحي.. الذي كان يملك محل بيع للآلات الموسيقية في نفس المبنى.. ما مهد لي بعد ذلك تعلم العزف على آلة العود بتحريض وإلحاح ومساعدة من عازفة العود الشاعرة رانيا الجزار (فيما بعد بصقت رانيا على الساحة الثقافية وخرجت منها إلى غير رجعة جراء خسة البعض ممن يطلقون على أنفسهم شعراء.. رغم محاولاتي لإقناعها بالعدول عن هذا القرار..  نلمح إلى التفاصيل في كتابات لاحقة).

9)

على مقهى نور الصباح اتسعت دائرة الصداقات، لكن الدائرة أخذت رونقها وخصوصيتها بعيدا عن أصوات لعبة الدومينو أو قرقعة النرد في لعبة الطاولة وصيحات الرابحين وتوعد الخاسرين.. حين افتتح استاذنا وصديقنا الأديب محمد حسن الحربي مقهى الخمائل إلى جوار مقهى نور الصباح تماما.. واسند إدارة المقهى لصديقنا القاص فتحي الجعفري الذي هاجر إلى ألمانيا فيما بعد، رأى محمد الحربي "بقصد أو بدون".. أن يكون المقهى للمهتمين بالشأن الثقافي فقط.. لا للدومينو والطاولة وألعاب الورق.. كان وقتها قد تولى رئاسة القسم الثقافي في جريدة الخليج خلفا للشاعر جمال بخيت، وكان برفقته في القسم صديقنا الودود الصحافي والأديب نواف يونس، والصحافي الشاعر وائل الجشي.. على ما أذكر كانت تجمعنا طاولة واحدة على الرصيف أمام المقهى.. تبدأ الجلسة صغيرة .. ثم تأخذ في الاتساع لتستوعب كل الحاضرين.. مقهى الخمائل.. كان نموذجا للمقهى الثقافي الذي لم أر مثله في تجمعات المثقفين والكتاب (كما وقيمة).. كانت عناوين الكتب الجديدة وقيمتها الأدبية مادة في معظم الجلسات.. وبالتالي تبادل الكتب .. خصوصا الإصدارات الممنوعة في ذلك الوقت مثل الخبز الحافي للروائي المغربي محمد شكري.. أو قصائد وأمسيات الشاعر العراقي مظفر النواب.. أو أشرطة الشيخ إمام، وغير ذلك من المنتج الأدبي الذي كان يزعج مضمونه عقليات السلطات البليدة.

قامات أدبية كبيرة وكثيرة مرت على مقهى الخمائل.. (لكن لم يٌقَدَّر لهذه التجربة أن تستمر بعد قرار إغلاق المقاهي في الشارقة).. وقبل الحديث عن بعض الشخصيات.. يطيب لي أن أتذكر وأذكر هنا القاص الراحل محمد الشلقامي .. كان شابا في مقتبل العمر.. يكتب ويجرب ويملآ الساحة ضجيجا .. كتب في ذلك الوقت قصة عن شخصية أحبت عروسا من البلاستيك وتحدث عن علاقة عاطفية وحميمية.. لم تأخذ القصة حينها قدرا من الاهتمام واستبعدت من جائزة غانم غباش على ما أظن.. تذكرت أحداث هذه القصة وأن أقرأ أخيرا خبر زواج لاعب كمال الأجسام الكازاخستاني يوري تولوشكو من الدمية "مارغو".. ثم خبر انفصاله عنها الأن لعدم التفاهم!!.. أنا هنا أذكر واقعة لقاص رحل عن دنيانا ولا أقول إنه استشف ما هو آت قبل ثلاثين عاما.. بل سأترك الأمر للزملاء الذين يعرفون الحكاية (خصوصا الشاعر الجميل إبراهيم المصري).

كان من بين الذين عرفتهم عن قرب في تلك الفترة، شاعر العامية الإسكندراني ضياء طمان .. مهندس المباني الذي كان يأتي من الموقع مباشرة واضعا منشفة على كتفه وهو يتصبب عرقا .. طول وعرض "تقول أحد أبطال المصارعة الحرة" ..نقرأ وجهه عندما يكون لديه نصا جديدا أو رباعية.. يضع مرفقيه على الطاولة حاضنا خديه بين كفيه وهو ينظر للجالسين من خلف نظارته.. إسمع.. ثم يبدأ في إلقاء ما لديه.. نعم .. شاعر كالمارد الجميل في مجموعته الصادرة عام 1990.. وصديق مخلص أعمل بنصيحته حتى الآن.. كنت فائزا بجائزة تقديرية في مسابقة غانم غباش بقصة (الموائد).. وصادف يوم ثلاثاء في منطقة الشارقة الصناعية اصلح عطبا في سيارتي.. أن قرأت خبر نشاط ملتقى الثلاثاء قراءات للقصص الفائزة في الجائزة.. الوقت لا يسمح بالمرة أن أذهب إلى دبي لأحضر نسخة من القصة.. قلت ربما أجد نسخة لدى سكرتير الاتحاد.. أجابني عبد الإله عبد القادر أنه سلم نسخ القصص للجنة التحكيم .. جاء دوري في القراءة .. صعدت إلى المنصة.. قلت: معذرة .. ليس لدي نسخة من القصة.. سوف أقرأ من الذاكرة.. أجزم أنني لم أر انتباه حضور في أمسية لما يقال على منصة كما رأيته في تلك اللحظات.. ليس هناك ما أقرأ منه .. لذا توجب عليَّ أولا أن أواجه طوال إلقائي القصة نظرات الحضور .. لم أتوقف إلا عند بداية فقرة في نهاية القصة.. ثوان لم تتعد الخمس.. وأكملت حتى انتهيت مع تصفيق لا يوصف.. صعد إلى المنصة وأمسكني من أذني أمام الجميع.. قال: هذه المرة نجحت.. إياك أن تفعلها مرة أخرى.. ومن وقتها.. لم أفعلها يا ضياء..
------------------------------
بقلم: عز الدين الأسواني*
* مبدع مصري مقيم بالإمارات العربية المتحدة






اعلان