29 - 03 - 2024

المؤرخة الأمريكية "جيل ليبور": تخلينا عن القضايا الكبرى لمناقشة "هراء ترامب" و"الاستقطاب" ليس مسئوليته وحده

المؤرخة الأمريكية

على خلفية الأجواء المشتعلة التى شهدتها الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتي يمكن اعتبارها جولة انتخابية غير مسبوقة فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من حيث نسب المشاركة التصويتية وكذلك درجة الاحتقان السياسي، أجرى موقع "شبيجل أونلاين" حواراً مع السيدة جيل ليبور، أستاذة التاريخ الأمريكي بجامعة هارفارد، والكاتبة بصحيفة "نيويوركر/New Yorker"، ومؤلفة كتاب "هذه الحقائق/These Truths"، وهو الكتاب الأكثر مبيعاً باللغة الألمانية فى عام 2019، والذى يسرد تاريخ الولايات المتحدة من منظور التطوّر السياسي وما واكبه من تغيّر اجتماعي و تكنولوجي، منذ وصول كريستوفر كولومبوس وحتى انتخاب دونالد ترامب رئيسًا في عام 2016.

استعرضت "ليبور"، فى حوارها، رؤيتها حول الأسباب التى أدت إلى حالة الانقسام والاستقطاب التى يعيشها المجتمع الأمريكي، ووصفتها بأنها ليست حالة طارئة، وإنما "نار تحت الرماد"، و "حلقة دائمة للنزاع" حول الحريات الفردية من ناحية وعدم العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. كما ترى أن "اليسار" يضطلع بمسئولية ليست هينة تجاه ما آلت إليه الأوضاع الراهنة، نظراً لاستبداله قضية "المساواة" بقضية "الهوية"، مُحذِرة من الانقياد لاستدعاءات الماضي، بصورة تحريضية، من شأنها تأجيج الانقسامات داخل نسيج المجتمع الأمريكي.

* السيدة ليبور، لقد قال "جو بايدن" في خطابه القصير قبيل حسم المعركة الانتخابية : "إذا فزت، لن يكون هناك المزيد من الولايات الزرقاء أو الحمراء.. فقط ستكون الولايات المتحدة الأمريكية".. فى رأيك، ما مدى واقعية هذه الرؤية  لـ "أمريكا الموحدة" ؟

- هذه الصورة مجرد جزء من خارطة تتحول فيها الولايات تدريجياً إلى اللون الأحمر أو الأزرق (الجمهوريين أو الديمقراطيين) في الليلة االاخيرة للانتخابات، ولا تزيد عن كونها جزءا من التجربة السياسية المترسخة فى الوعي الجمعي لمتابعي التحليلات التلفزيونية.. هذه الوعود ليست جديدة، سبق وأن تعهد بذلك باراك أوباما، وفى اعتقادي أن بايدن صادقاً فى وعوده. لكن المشكلة ليست فى نواياه، فربما تفشل رؤيته حول امكانية تحقيق هذه "الوحدة" مثلما فشل أوباما فى ذلك. لكنني لا أُنكِر أنه كان هناك وقت أراد فيه الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، أن تتوحد صفوف المجتمع دون هذه الانقسامات. عندما تغلب "جورج دبليو بوش" على "آل جور" في عام 2000، صرح أنه لا يريد أن يُصبح عائقاً يحول دون تحقيق هذه الغاية. وفى 11 سبتمبر  2001، تحدث الكثير عن روح العمل الجماعي في الولايات المتحدة. لقد بدا لى الأمر آنذاك "خيالياً"، لكونه مثالياً للغاية. ولكن الجديد هو ما فعله "ترامب"، فهو لم يتظاهر بهذه المثالية، و أراد أن يكون داعية للإنقسام، و سعى- بمنتهى الوضوح -  إلى تمثيل الأشخاص الذين يصوتون له فقط. 

* أليست وجهة نظره صحيحة تجاه الأوضاع فى أمريكا في الوقت الراهن؟ الانقسام جَد عميق.. والذين صوتوا لصالح ترامب قبل أربع سنوات، فعلوا ذلك للمرة الثانية، رغم فشله كـ "رئيس"..كيف تفسرين ذلك ؟

- ما تَصفِينه هى "أمريكا التي يريدها ترامب" بالظبط، حيث يدفع الأمريكيين إلى الاتفاق معه فى الرأى حول أن المجتمع بأكمله في حالة حرب. هذا هو المناخ الذى سيضمن له الحفاظ على سلطته؛ من خلال إرهاب أنصاره بحقيقة أن الأعداء يريدون تدمير عالمهم وبلدهم وحياتهم. ربما كان ما يثيره ترامب غير صحيح، لكنه استطاع خلق حالة من التساؤل عما إذا كان يصف الواقع بدقة. لكننى أقول إنه حاول، بنفسه، حياكة ذلك الواقع. وإن كان، فى رأيي، غير مسؤول عن حالة الاستقطاب الراهنة التى تشهدها الولايات المتحدة. لطالما كان هذا الاستقطاب موجودا ؛ بين القرى والمدن، أصحاب البشرة السمراء والبيضاء، الفقراء والأغنياء.

* إن لم يكن ترامب المسئول، بحسب رؤيتك، من المسئول إذن؟

المسئولية تقع بالتساوي على كاهل كُتلتى؛ اليسار واليمين. غالبًا ما كان ينخفض أعداد ناخبي ترامب من اليساريين نظراً لأرائهم العنصرية . لكن الأمر ليس بهذه البساطة. هؤلاء هم الأشخاص الذين يعانون اقتصاديًا والذين لم يساعدهم الديمقراطيون في السنوات الأخيرة؛  لم يفعل  أوباما وكذلك هيلارى لم تكن المرشحة الأفضل، لكونها لم تهتم بهذه الاشكالية. هذا هو الانقسام الأعمق الذى أعنيه و المتراكم منذ فترات طويلة. اليوم لا يمكن التَخفُف من عبء ذلك. حتى وسائل التواصل الاجتماعي يصعب الاعتماد عليها فى تغيير وعى المواطنين سياسيًا، لكونها تفتقر إلى التنظيم. نحن جميعًا عالقون في ذلك الواقع، إذا جاز التعبير. وإن لم يكن "بايدن" المرشح المثالي، لكنه، على الأقل، قد حصل علي المنصب.كما أنه، بحُكم جذوره العائلية، قريب من الطبقة العاملة، وبالتالي كان الشخص الذى استطاع مناشدة الناخبين الديمقراطيين الأصليين. 

* كيف نشأ الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي؟

لقد تواجد الناخبون الأمريكيون الأقل استقطابًا سياسيًا خلال الفترة ما بين 1945 و 1968. بعد ذلك، وبالتوازي مع عدم المساواة في مستوى الدخول وبزوغ التفاوتات الاجتماعية، اتسعت رقعة الانقسام. ثم أخذ الاقتصاد الأمريكي فى الانتعاش بعد الحرب العالمية الثانية، و راحت المصانع التي سبق لها أن أنتجت الأسلحة، تنتج سلعًا أخرى؛ ومن ثَم نشأت الطبقة المتوسطة. إلا أن الأوضاع راحت تتغير فى عام 1968 عندما تم انتخاب ريتشارد نيكسون، حيث ابتعد عن مفهوم دولة الرفاهية، وسعي إلى حشد المال لخوض حرب فيتنام، وبدأت عولمة الاقتصاد.. كل ما فعله نيكسون، أنه جعل الأمر  يبدو أكثر أناقة مما فعل ترامب، لكنه دون شك كان "إنقسامياً " أيضاً، و غير الصورة الكلاسيكية للجمهوريين.

* إلى أي مدى استطاع نيكسون تغيير هذه الصورة ؟

أراد نيكسون أن يعيد صياغة الصورة الذهنية عن "الجمهوريين" وتحويلها من مجرد حفل لـ "رجال الأعمال" إلى بوتقة واحدة من العُمال. والواقع أن الديمقراطيين قد سمحوا بذلك تحت ضغوط، حيث تسببت الاضطرابات الاجتماعية، آنذاك، فى إثارة قضايا جديدة؛ مثل حقوق المرأة، فضلاً عن انبثاق العديد من حركات الحقوق المدنية، ومن ثم، فقد الديمقراطيون الناخبين ذوي البشرة البيضاء، لكنهم حصلوا، فى المقابل، على فئة جديدة من الناخبين؛ من النساء و أصحاب البشرة السمراء، الذين صوتوا - فى السابق – لصالح الجمهوريين.

* فى رأيكِ، هل كان الخطأ الأكبر الذى ارتكبه الليبراليون هو  استبدال قضية "المساواة" بقضية "الهوية"؟

- أتصور ان ربط الانتماء الحزبي بفئات مثل النوع والعِرق أو لون البشرة، يجعل الصلات والروابط مع الأحزاب أكثر كثافة وأكثر حَسماً. والواقع  أن كل من اليمين واليسار كرسوا فكرهم منذ فترة طويلة لما يتعلق بسياسات الهوية. كل ما فى الأمر أن اليمين أخذ يطلق عليها مسمى مختلفا. وبالتدقيق فى كل كلمة يقولها ترامب، سنجدها لصيقة الصلة بسياسة الهوية. أما أولئك الذين يستخدمون مصطلحات مثل "العدالة" يُصنفون الآن، بصورة تلقائية، على أنهم ينتمون لليسار، لكونها ترتبط  بالاشكاليات الحياتية  لـ "ذوى البشرة السمراء". والواقع أن مصطلح "العدالة" متفاوت دلالياً ويصعب الاتفاق عليه من جانب الجميع. ومن ثم  يتم تقليص السياسات وفق شرائح ديموغرافية، إلا أن المشروع الأمريكي كان على النقيض من ذلك، بل كان معنياً  باستبدال هرم الاحتياجات القائم على "الهوية " بـإرساء قيم "المساواة".

* أتظنِين أن الحركات التقدمية الناشئة في ستينيات القرن الماضي كانت تشكل حجر الزاوية على طريق تحقيق المساواة؟

- بالطبع كانت كذلك، فهناك حركات كثيرة فاعلة مثل؛ الحركة النسوية، حركة المثليين، وحركة القوة السوداء. كذلك تم رفع العديد من الدعاوى القضائية بموجب الزخم الذى أحدثته هذه الحركات؛ حيث كان الأمر يتعلق بالحقوق وليس الانتخابات. لم يكن الفوز بأصوات الناخبين هو القضية الرئيسية، وهو ما يفسر  استمرار  الديمقراطيين في الخسارة. كذلك كانت فترة رئاسة أوباما هامة جدأ ومثيرة أيضاً للإهتمام، لأنه سعى إلى كسر هذه الحلقة والخروج منها، إلا أنه تزامن مع ذلك استياء المواطنين جراء عمليات إنعاش البنوك و محاباة الديمقراطيين لبورصة "وول ستريت".

* لا تزال القضايا الاجتماعية الكبرى المُثارة منذ حقبة الستينيات محل نزاع حتى اليوم. لقد أخبر ترامب أنصاره أن بايدن يريد تجريدهم من حق حيازة الأسلحة؛ كما يخشى الديمقراطيون من إمكانية إلغاء قانون الإجهاض، بفضل دعم القاضية المٌحافِظة "آمي كوني باريت" بالمحكمة العليا.

- هذان الأمران شديدا الحساسية منذ حقبة الستينيات، لكنهما، فى الواقع، ليس لهما سند قوي فى نصوص الدستور الأمريكي. بعد مقتل جون إف كينيدي، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينج، كان هناك جدل حول قوانين حيازة الأسلحة، وأدركت الأحزاب السياسية أنه يمكنها استخدام هذه الورقة لكسب أصوات الناخبين..بالنسبة للجمهوريين، تواءمت البنادق مغ مفاهيم الحرية والإجهاض كان لا يعني سوى القتل؛ أما بالنسبة للديمقراطيين كان الأمر على العكس من ذلك تماماً.. وهذا التناقض تسبب فى رفع مستوى الاستثارة السياسية لدى المواطنين بمجرد التفكير فى أن نصف المجتمع لا يعزو عن كونه مجرد حفنة من القتلة وفق هذا الرؤى المعكوسة.

* كانت نسبة المشاركة، هذه المرة، أعلى مما كانت عليه منذ 120 عامًا. عادة ما يُنظر إلى شيء كهذا على أنه علامة جيدة. ولكن هل هذا حقًا أمر جيد عندما لا يتعلق، فى جوهره، بالمشاركة السياسية بقدر ما يتعلق بـ "صراع" الخصوم و الروح العدائية؟

- فى الواقع أنا سعيدة لأن المواطنين مارسوا حق التصويت نفسه وعبروا عن إرادتهم أيا ما كانت قِبلتهم. هذا الحراك يساعد في تحديد دوائر الالتفاف التى يحتشد حولها المواطنون و رصد دلالات ذلك. هذه رسالة هامة فى حد ذاتها. المؤسف أن المشهد، فى مجمله، كان لا يتعلق حقاً بالإشكاليات الهامة، مثل تغيرات المناخ، التى تعد المشكلة الأكثر إلحاحًا، من وجهة نظري - حتى أن عام 2020 كان عام حرائق الغابات. ومن ثم أقول، أنه لم يعُد مقبولاً بأى شكل أن ينكر أحد في الولايات المتحدة خطورة قضية تغيرات المناخ بعد الآن.. لكننا، مع الأسف، بدلاً من مناقشة قضايانا الحثيثة، صرنا نركض لنتحدث عن الهراء؛ عما يراه دونالد ترامب القضية الأهم على الإطلاق، دون تقييم درجة الأهمية الحقيقية للمواطنين.

* كـ "رئيس" للولايات المتحدة الأمريكية، ربما لن يكون بايدن قادرًا على إحداث الكثير من التغيير .. ماذا تعتقدين؟؟

- فى رأيي، أن مساحة المناورة محدودة، لكنها أفضل البدائل. عندما يكون بايدن رئيسًا، سيكون هناك مجال أكبر لمناقشة ملفات محددة. لن نعطي مساحة كبيرة لما يقوله ترامب على تويتر.. سنكُف عن متابعة ذلك اللغو.. والواقع أنه لم تكن هناك حكومة فعلية فى البلاد خلال السنوات الأربع الماضية.. وإذا ما افترضنا أن بايدن لم يستطع دفع أجندته السياسية إلى الامام، إلا أنه يمكنه على الأقل وضع جدول أعماله على الطاولة السياسية وتحريك المياة الراكدة.  فأنا أشعر بأسف حقيقى لكون عام 2016 لم يتمخض عنه المزيد من العصف الذهنى الذاتي بين أعداء ترامب، حتى يُصبح بإمكاننا الأن مواجهة "حقبة ما بعد ترامب"،  فلا أحد تحمل المسؤولية، ولم تكن كذلك وسائل التواصل الاجتماعى مسئولة بالقدر الكافي، ولا حتى الإعلام التقليدي. نفس الرواية رددها الجميع فحسب، ألا وهى : "ترامب كان فَشلًا لن يتكرر، و كلينتون مرشحة رهيبة، إلا أن عام 2020 سيغير كل ذلك". لكننى أقول أننا لم نقم ببذل المزيد لمواجهة هذه الحقائق، ولن يتغير كل شيء، مثلما يظنون،  حتى بفوز بايدن.

* تبدين متشائمة.. ربما كان تبني نهجاً مختلفاً للتعاطي مع ماضي أمريكا بمثابة حل ناجع .. أليس كذلك؟  

- ربما يفلح ذلك. لقد قال الرئيس الأسبق  أوباما : "علينا أن نختار قصتنا الأفضل". لكننا في الوقت الحالي نعيش سخفاً لا مبرر له وجدل سوفسطائى حول إذا كانت الولايات المتحدة قد نشأت في عام 1619 عندما تم جلب الأفارقة الأوائل إلى فرجينيا، أو ما إذا كانت قصتنا قد بدأت في عام 1776 مع الآباء المؤسسين؟ والانقسام حول فرضية تعرُض فئات للظلم، على مر التاريخ الأمريكي، جرّاء ممارساتٍ سياسيةٍ بين سكان أميركا الأصليين والأميركيين من أصولٍ أفريقية. هذه الانقسامات يمكنها أن تتصاعد أكثر فأكثر، كما فى  بلدان أخرى، وعلينا أن نحذر : "ربما  تحول الجدل حول الماضي إلى حرب بالوكالة يمكنها تهديد المستقبل".

------------------------------------

أجرى الحوار : إيفا توني - ترجمة عن الألمانية : شيرين ماهر  













اعلان