29 - 03 - 2024

لعنة ترامب الإيرانية

لعنة ترامب الإيرانية

لعنة دونالد ترامب التى أصابت أمريكا ، وكادت تدمر صورتها المصنوعة فى عملية اقتحام الكونجرس قبل أيام ، وفضحت ديمقراطيتها "الهشة" بحسب الرئيس المنتخب جو بايدن ، وتعجل بانزلاقها إلى انقسامات أعمق وصدام مفتوح بنذره إلى ما يشبه الحرب الأهلية ، مع تراجع الدور الكونى لواشنطن بإطراد ، وضعف مؤسسات التجديد السياسى ، التى قد تجد نفسها لزمن أسيرة لفوضى ترامب فى اختيارات الداخل والخارج .

وحتى لو لم يحدث هجوم انتقامى ضد إيران فى ساعات ترامب المتبقية ، فإن مصير الاتفاق النووى الإيرانى لا يبدو محسوما ، مع تولى بايدن مقاليد البيت الأبيض بعد أيام ، صحيح أن بايدن أعرب عن استعداده المبدئى للعودة للاتفاق ، وصحيح أن طهران تستبشر خيرا بالإدارة الأمريكية الجديدة ، لكن لعنة ترامب التى أصابت اتفاق 2015 ، وانسحابه منه أواسط 2018 ، وفرضه لعقوبات الضغط الأقصى على إيران ، كلها مآزق مستحكمة ، تجعل العودة للاتفاق الأصلى احتمالا غير قريب ولا أكيد .

وربما يجدر أن نتذكر ملابسات اتفاق 2015 ، وقد سبقته جولة من الضغوط ، وصلت ذروتها عام 2012 ، وكانت استطرادا لعقوبات أمريكية متصلة على طهران منذ ثورة الخمينى عام 1979 ، لم تصل أبدا إلى مستوى قسوة عقوبات ترامب ، وكانت إيران قادرة على التعايش معها نسبيا ، وحافظت على سياسة النفس الطويل فى التفاوض ، وبأمل الرفع النهائى للعقوبات ، مقابل عقد اتفاق "لوزان" مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا ، الذى استهدف منع إيران من حيازة سلاح نووى ، وقضى بتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم فى منشأة "نطانز" إلى 3.67% ، وتغيير نشاط منشأة "فوردو" من تخصيب اليورانيوم إلى مركز للأبحاث ، وبقاء مفاعل "آراك" موقعا للماء الثقيل ، مع إجراء تغيير فى قلبه ، لا يجعله قادرا على إنتاج "بلوتونيوم" قابل للاستخدام فى صناعة قنبلة نووية ، إضافة للتفتيش الدورى على كافة المنشآت النووية الإيرانية ، ومع خروج ترامب من الاتفاق ، أصيب الاتفاق بالشلل ، فلم ترفع العقوبات ، بل زادت وطأتها ، وعجزت الأطراف الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) عن تعويض إيران تجاريا ، خشية العقوبات الأمريكية ، وهو ما زاد من تدهور الأوضاع الاقتصادية لإيران ، وعجزت طهران عن تصدير بترولها بكميات مناسبة ، اللهم إلا من باب التحايل ، أو عبر النافذة الصينية التى ظلت مفتوحة نسبيا ، فيما لم تجد إيران من رد على العقوبات الأكثر عنفا ، سوى أن تشرع هى الأخرى بالخروج من الاتفاق ، وصولا إلى قرار أخير من برلمانها ، بدأ تنفيذه قبل أيام ، برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% ، بعد أن كانت طهران تجاوزت كميات اليورانيوم المخصب المتفق عليها ، وصار لديها 12 ضعف المخزون المقرر ، مع التلويح بالتراجع ، إذا ما قررت إدارة بايدن إلغاء العقوبات ، والعودة إلى اتفاق 2015 ، ومن دون أى تغيير أو تعديل .

وبرغم أن ما أعلن من تشكيلات إدارة بايدن ، تضمن إشارات بدت إيجابية لإيران واتفاقها النووى ، خصوصا مع اختيار "أنتونى بلينكين" وزيرا للخارجية ، وقد كان نائبا لجون كيرى آخر وزراء خارجية الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما ، الذى وقع الاتفاق مع إيران ، وكان اسهام بلينكين بارزا فى مفاوضات الأطراف الستة مع طهران ، وعمل قبل توليه لمنصب نائب وزير الخارجية نائبا لمستشار الأمن القومى ، أى أنه كان موضع ثقة ظاهرة من أوباما ، لكن بايدن قد لا يكرر ما فعله رئيسه السابق أوباما بالضبط ، فبايدن أكثر ولاء لإسرائيل ومصالحها ، ويصف نفسه ـ وهو الكاثوليكى ـ بالصهيونى المخلص ، ووزير خارجيته المنتظر بلينكين كذلك ، هو الآخر صهيونى كرئيسه ، ومن أبوين يهوديين ، وهو ما يعنى احتمالا أكبر للتصلب تجاه برنامج إيران النووى ، الذى تخشاه إسرائيل وتريد تفكيكه بالكامل ، وليس مجرد تقييده على طريقة اتفاق أوباما ، إضافة لمياه كثيرة جرت فى نهر الحوادث خلال خمس سنوات ، قد تجعل بايدن متشددا أكثر تجاه إيران ، وراغبا فى تقليص دورها وليس برنامجها النووى فحسب ، وقد أعرب عن رغبته مبدئيا فى العودة لاتفاق 2015 ، ولكن مع إجراء تعديلات جوهرية ، تضيف قيودا على برنامج إيران الصاروخى ، وتحاصر نفوذ إيران فى المنطقة عموما ، وهو ما ترغب به أيضا فرنسا وألمانيا وبريطانيا ، فيما تؤيد روسيا والصين إبقاء الاتفاق على حاله الأول ، وهو ما لا يبدو ممكنا لواشنطن تقبله ، خصوصا مع تدهور علاقات أمريكا مع روسيا والصين ، وسعى أتباع أمريكا الخليجيين إلى المشاركة بالتفاوض على اتفاق جديد مع طهران ، ومبادرة دول خليجية إلى التطبيع فالتحالف مع إسرائيل ، وكل هؤلاء يشكلون ضغطا على السلوك المنتظر لإدارة بايدن ، يعقد بالضرورة اختياراتها إزاء إيران ، ويكاد يحول معنى التفاوض المحتمل ، إلى سعى لإذلال طهران لا الحوار معها ، فما فعله ترامب برغم حماقاته ، يبدو ضاغطا مؤثرا فى منطقتنا بالذات ، خصوصا مع توقع اتصال مناكفات ترامب فى الداخل الأمريكى ، وإعادة تصوير الموقف من إيران بطريقة مختلفة ، تجعله مجالا للمزايدة على حدود الانصياع لرغبات إسرائيل ، وبايدن بطبعه وبسوابق سيرته ، لا يريد أن يبدو أقل ولاء من ترامب لإسرائيل ، ولا أقل استعدادا لخدمتها ، وبالذات فى القضية النووية الإيرانية ، التى تعتبرها إسرائيل أخطر التهديدات على وجودها .

وعلى الجانب الآخر ، لا يبدو المسرح الإيرانى الداخلى مهيئأ لتقديم تنازلات إضافية ، وهو ما عبر عنه حتى تيار الحمائم الإصلاحيين ، من نوع الرئيس حسن روحانى ، أو جواد ظريف وزير خارجيته ، وقد ارتبط اسماهما بعقد اتفاق 2015 ، ودافعا عنه مقابل رفض الأصوليين المتشددين ، وبعد أن جرى ما جرى ، رحب روحانى بفوز بايدن ، وعبر عن عظيم أمله فى رفع العقوبات والعودة للاتفاق النووى ، ولكن مع رفض كامل معلن لإجراء أى تعديلات ، ولا المس ببرنامج الصواريخ الباليستية ، ولا بتدخلات إيران فى المنطقة ، ولا إجراء أى مفاوضات جديدة ، إلا بعد عودة واشنطن للاتفاق كما كان ، وما من فرصة لأمثال روحانى وظريف فى التراجع ، ولا حتى للمشاركة فى بحث تنازل ، فبايدن لا يبدو فى عجلة من أمره بخصوص الوضع مع إيران ، وأولوياته فى مكان آخر ، يعود به إلى اتفاقية المناخ الباريسية ، وإلى إصلاح ما فسد عبر الأطلنطى فى العلاقات مع أوروبا ، وقد يمضى بايدن وقتا طويلا فى رئاسته ، من دون البت فى الاتفاق مع إيران ، وبالذات مع تغييرات محتملة جدا فى المشهد الإيرانى ، وصعود مرجح للأصوليين فى انتخابات الرئاسة أواسط العام الجارى ، بما يجعل التفاوض المحتمل أكثر تعقيدا ، وقد يزيد من خروقات طهران للاتفاق القديم ، ومفاقمة أحوال التوتر فى المنطقة عموما ، وتلك بيئة لا تبدو مواتية تماما لإنجاز اتفاق جديد ، ناهيك عن استحالة مرئية لتجديد العمل بالاتفاق القديم ، وقد يميل الأصوليون المتوقع صعودهم خلفا لروحانى وإدارته ، إلى تبنى خط مختلف جذريا ، يطلق بالثلاثة فكرة التفاوض مع واشنطن ، ويقفز إلى فكرة اتمام الصفقة الكبرى المعروضة مع الصين ، التى تقضى بإتاحة بكين لطهران استثمارات ضخمة ، تصل إلى 400 مليار دولار عبر 25 سنة مقبلة ، مقابل احتكار صينى ـ روسى لبترول إيران وغازها وموانيها ، وعقد معاهدات دفاع استراتيجية ، وإطلاق العنان لإيران فى تطوير برنامجها النووى ، وهو ما بدا ظاهرا حتى فى التصريحات الإيرانية الرسمية ، التى يتحدث بعضها الآن عن احتمالات عدم التوصل لاتفاق مع واشنطن ، واستعداد طهران للعيش اقتصاديا بدون اتفاق نووى من أصله .

وبالجملة ، تبدو احتمالات توصل بايدن إلى اتفاق عاجل مع إيران ضعيفة ، حتى مع التسليم بوجود اتصالات تجرى فى الكواليس قبل تولى بايدن رسميا ، فقد تغيرت أوضاع كثيرة ، وتخلق مشهد إقليمى مختلف ، يضيق مساحات المناورة الإيرانية ، ويزيد من ارتباط البرنامج النووى بمصير النظام الإيرانى نفسه ، صحيح أن النظام الإيرانى يبدو صلبا ومتماسكا ، ولا يعدم أوراقا وبيادق يلعب بها فى المنطقة ، لكن حماسة الموالين لطهران قد تخفت ، مع ما تضطر إليه إيران من الصبر على أذى كبير لحق بصورتها ، بعد اصطياد رمزها  العسكرى قاسم سليمانى واغتيال محسن فخرى زادة عالمها النووى الأشهر ، واتساع الخروق فى الاستحكامات الأمنية الداخلية ، وتزايد معدلات السخط وتواتر دورات الغضب الاجتماعى ، التى تتداعى فرص تهدئتها مع أزمات الاقتصاد وكثافة الضغوط ، وهذه دائرة مفرغة ، قد لا يجد معها النظام الإيرانى ، مدفوعا بغرائز البقاء ، إلا أن يطوى قصص المفاوضات كلها ، ويمضى بمسعى تحويل إيران إلى قوة نووية كاملة الأوصاف .

----------------------------------

بقلم: عبد الحليم قنديل

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حروب





اعلان