19 - 04 - 2024

عطفا على ما يجري في أمريكا حاليا .. موجة خامسة للديمقراطية

عطفا على ما يجري في أمريكا حاليا .. موجة خامسة للديمقراطية

الديمقراطية فكرة، يحبها كثيرون، ويكرهها أو يخشى منها ربما أكثر. وما بين أمل فيها وخوف منها دار وما زال يدور تاريخ معقد للغاية حولها. نشبت من أجلها حروب وثورات. واصطدمت بسببها طبقات وجماعات وملكيات وجمهوريات. وقد انتهت بعض تلك المواجهات بانتصار الديمقراطية فيما انتهى أكثرها إلى هزيمتها أو تطويعها. 

ولم تكن الديمقراطية بداية التاريخ. ولن تكون نهايته. لن يصل إليها الجميع. ولن تنجح لدى الكافة. سوف يبقى الطغيان فعالاً في مكان ما في كل عصر. فالديمقراطية وهي تحارب الطغيان تحتاج إليه لتثبت نفسها ولتدافع عن سلامة حججها. إذ كيف لها أن تروج لنفسها إلا أمام ضد يناقضها وتناقضه. فالشيء لا يعرف إلا بضده. والديمقراطية كذلك ليست هي الحل الوحيد. ولا هي شكل الحكم الأنسب للجميع. لم تكن مناسبة لكل العصور ولا لكل الأماكن ولن تكون. هي فكرة مثيرة للخيال وللجدال. وعودها حلوة ومسالكها مرة. يحتاج تنفيذها إلى مجهود يفوق كل ما تبذله الحكومات السلطوية. فالديمقراطية وهي تراقب إنفاق المال العام تهدر الكثير منه في انتخابات تكاد تكون يومية في بعض الدول.

 وبرغم أنها تفتح الباب أمام الحوار إلا أنها تستنفد طاقة المجتمع في مجادلات ليس لها سقف. بعضها مناقشات لا تتحملها الصحة الثقافية لكل المجتمعات. وهي وإن فتحت الباب أمام الجمعيات والتنظيمات والصحف والأحزاب، فإن أداء بعض النظم التي تفتقر إلى كل ذلك أفضل وأكفأ. ومع ذلك بقت الديمقراطية منذ قدماء اليونان وحتى الآن حلماً للإنسان. فهي فكرة مستحبة تبث في النفس أمل التمتع ولو بقدر من الاحترام والمعاملة الكريمة والحصول ولو على مقدار الكفاف من العدالة. ولم يكن تطبيق الديمقراطية صحيحا أو مضمونا أو دائما. فالديمقراطية فكرة قبل أن تكون نظاما. وتعريف الإنسان لأية فكرة يختلف مع الوقت والمكان. وحاجته منها تتباين باختلاف الظروف.

 ولهذا فأكثر ما تحتاجه الديمقراطيات هو التغيير المستمر. وأهم وجه للتغيير هو تغيير الوجوه. فمتى ما حدث ستتبعه باقي التغييرات. ومن هنا جاءت فكرة مدد الحكم المحددة. ثم إن الديمقراطية منظومة فكر وعمل كسولة جداً، أو للدقة دلوعة جداً. فهي لا تخدم أحدا وإنما تحتاج أن يخدمها الكل. فلا ضمان للديمقراطية بالديمقراطية وإنما بالناس. بالديمقراطيين. بالمقتنعين بمعناها والواثقين في فائدتها. بالخائفين عليها لو ضاعت ومنها لو حاسبتهم. لهذا تتعرض الديمقراطية حتى في المناطق التي أحسنت استقبالها للتذبذب. تتقدم وتتراجع. تعلو وتهبط. تنزل وتصعد. الديمقراطية موجات وهو ما التقطه صامويل هنتنجتون عندما وصف تاريخها بالموجات فكتب في 1991 كتابه المشهور بعنوان "الموجة الثالثة" تطويراً لمقال كتبه من قبل حول نفس الموضوع في Journal of Democracy. وموجات هنتنجتون الثلاثة هي: موجة أولى امتدت لقرابة قرن ما بين 1828و 1926عندما اتسعت حقوق الاقتراع في أمريكا وكندا وبريطانيا وكثير من الدول الغربية إلى أن بدأت في الانكسار مع وصول بنيتو موسوليني الطاغية الإيطالي إلى الحكم في 1922 لتواصل تلك الموجة تراجعها مع النازية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945. موجة ثانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصلت إلى ذروتها في 1962 ثم بدأت تتعرض من بعدها للانكسار حتى منتصف السبعينيات بسبب ممارسات النظم الفاشية في بلدان مثل إسبانيا البرتغال

. ثم جاءت الانفراجة في 1974 لتبدأ الموجة الثالثة بانضمام البرتغال إلى موكب النظم الديمقراطية تلاها إقدام عدد من دول أمريكا اللاتينية والدول الأسيوية على التحول الديمقراطي بجانب بعض بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ولأن الناس لا ترى موج البحر بنفس الحجم أو الشكل تبعاً لمواقعها، فقد كان من الطبيعي أن يرى المحللون الموجات الديمقراطية بطرق مختلفة. البعض اعتبر التحول الديمقراطي في وسط وشرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي جزءًا من الموجة الثالثة بل وأدخل الربيع العربي فيها. والبعض الآخر يرى أن تلك التحولات مثلت موجة رابعة. وقد وصل الأمر بأحد الباحثين، وهو سيفا جونتسكي، من جامعة تورنتو إلى كتابة دراسة حول موجات الديمقراطية الثلاثة عشر، من الموجة الأطلنطية في القرن الثامن عشر إلى الربيع العربي في القرن الحادي والعشرين. والأكثر ترجيحاً أن التحولات التي جرت في شرق ووسط أوروبا ومن بعدها في المنطقة العربية تشكل موجة رابعة بدأت في تسعينيات القرن الماضي ثم انكسرت مع فشل الربيع العربي ليتواصل الانكسار مع وصول حكومات شعبوية ويمينية متطرفة للحكم في قلب الدول الغربية الديمقراطية وصلت ذروتها بانتخاب "ترمب" في الولايات المتحدة في 2016. الموجة الرابعة امتدت من 1989 وحتى 2011 لتبدأ في الانكسار طيلة السنوات العشر الماضية. فالديمقراطية حول العالم كله عاشت في أزمة طيلة العقد الماضي.

 لكن خمائر موجة خامسة يبدو أنها تلوح في الأفق. فهناك إدارة أمريكية جديدة. ومظاهرات شعبية عارمة خرجت في دول أوروبية وفي الولايات المتحدة تحتج على توحش البوليس والعنصرية والقومية المتطرفة. وهناك هزيمة ذات معنى كبير لرئيس أمريكي حاول تطويع المؤسسات لنزواته فصبرت عليه كثيراً إلى أن طردته. وهناك إدراك عميق لدى "بايدن" ووزير خارجيته "بلينكن" بأن الديمقراطية سلاح مهم لأمريكا حول العالم وأن القوى العظمى لا تقود إلا لو كان لديها نموذج تدافع عنه وتروجه. وليس لدى أمريكا نموذج تقدمه للعالم في السياسة إلا الديمقراطية وفي الاقتصاد غير الرأسمالية. ولا يمكن لها أمام النموذجين السلطويين الروسي والصيني إلا أن تحاول استعادة البريق إلى النموذج الذي تعرفه.

 ومن هنا ولد مشروع مؤتمر الديمقراطيات الذى تعتزم إدارة "بايدن" إطلاقه ومواصلته على مراحل. هذا المؤتمر قد يكتب في تاريخ موجات الديمقراطية على أنه بداية للموجة الخامسة. موجة تحاول تطهير الشوائب السلطوية التي تسللت إلى قلب الدول الديمقراطية ذاتها ومكافحة خطر النظم السلطوية حول العالم الذي أعلنت الإدارة الأمريكية الجديدة أنها من بين أولوياتها. هي موجة معقدة. تسعى لتثبيت الديمقراطية في الديمقراطيات ونشرها في العالم بدلاً من السلطويات. سيكثر الحديث مجدداً حول الديمقراطية في بلدان مثل أمريكا وإيطاليا والمجر. وسينتشر منها إلى الجوار القريب والبعيد. وهناك ترقب مبدئي في البلدان الفالتة من موجات الديمقراطية الأربع السابقة. يتساءلون فيها ما العمل مع الموجة الخامسة وهل يمكن أن تتحول إلى تسونامي؟ وما هي حدود المشاركة فيها؟ وإلى أين يمكن أن تأخذنا؟ الموجة الخامسة غامضة. قد تنكسر بسرعة وقد تمتد بسرعة. هناك علامات على أن لها منتظرون ومريدون وراغبون ومصممون. وعلامات أخرى تشير إلى أن أمامها أحجار وعوائق. أبسط تلك العوائق الولايات المتحدة نفسها حيث جرحت صورتها الديمقراطية إلى درجة قد لا تسمح "لبايدن" أن يبشر بها في بيوت الآخرين بينما بيته كله من زجاج. نعم سيرحل "ترمب". لكنه سيترك وراءه خرافة يعتقد فيها وبقوة قرابة خمسة وسبعون مليون أمريكي بأن الانتخابات زورت وأن "بايدن" سرق الرئاسة. ولن يستعمل أنصار "ترمب" هذه الخرافة ضد "بايدن" بل وسوف يستعملها كل من يخالفه الرأي حول موضوع الديمقراطية. سيرمونه بأنه جاء بانتخابات مزورة. ومع أنها خرافة إلا أن الخرافة في السياسة بقوة الحقيقة إن لم تكن أحياناً أقوى منها. 

الموجة الخامسة غامضة وقلقة. ستكون واسعة جغرافياً لتشمل كل بلدان الموجة الأولى أو الديمقراطيات. كما ستضغط على النظم الشعبوية التي ظهرت في كل القارات. وستصل كذلك إلى المطحونين ديمقراطياً عبر التاريخ في المناطق القاحلة سياسياً أو الأقاليم الحنظلية، إذا جاز التعبير، مثل المنطقة العربية. هي موجة جدل وليست موجة عمل.

 لن تعرف أجندة على الأغلب لعمل ديمقراطي عالمي وإنما صراع على وضع الديمقراطية على رأس تلك الأجندة. فمؤتمر الديمقراطيات المزمع لن يجري برعاية الأمم المتحدة وإنما سيكون في يد الولايات المتحدة. والديمقراطية متى كانت أداة لأحد السياسات الخارجية فغالباً ما ترتبك بسببها العلاقات الدولية. وقد ارتبكت العلاقات الدولية مراراً عبر التاريخ بسبب الموجات الديمقراطية. بعض تلك الموجات وصل بمن ركبها إلى البر السياسي بأمان. وبعضها الآخر انكسر وكسر ظهر من ركبها فأعاده من حيث أتى الى المستنقع السلطوي. فأي نصيب ينتظر الموجة الخامسة وأي نصيب ينتظر من سيركبها؟. البصير هنا تماماً كالأعمى.
------------------
بقلم: د. إبراهيم عرفات *
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

مقالات اخرى للكاتب

أيها التاريخ… ترفق





اعلان