25 - 04 - 2024

فلسطين 2021

فلسطين 2021

مع فاتحة كل عام ، نتذكر الحدث الأشهر فى حياة الفلسطينيين الوطنية المعاصرة ، فقبل 56 سنة بالتمام ، صدر بيان " العاصفة " الأول ، وكان افتتاحا دراميا مسلحا لمرحلة كاملة من إعادة بعث الهوية الفلسطينية المستقلة ، وتوالى تحولات قيادة حركة "فتح" وزعيمها التاريخى ياسر عرفات ، ورمزية "الكوفية" التى لا تزال تظل قبر الشهيد عرفات فى رام الله .

وكما لم يكن عرفات معنى واحدا فى حياته ، فكذلك قضيته ، التى مرت بتحولات عسيرة ، وانتقلت من أولوية الكفاح المسلح إلى ما يشبه الموات السياسى ، فقد تخلى القريب والبعيد عن القضية الفلسطينية ، وضعف انتظام الحركة الوطنية الفلسطينية ، خصوصا فى الصف الأمامى الناطق باسمها ، فلم نعد نسمع ، ومن سنوات طويلة عجاف ، بعد رحيل عرفات مغتالا بالسم الإسرائيلى ، سوى أنباء تثقل القلب ، من نوع اتفاقات تقوم لتنهد عن مصالحات "فتح" و"حماس" ، مع انقسام مزمن يتأصل بين غزة ورام الله ، وتحالفات إقليمية زبائنية متقلبة ، لاتريد خيرا للقضية الفلسطينية ولا للفلسطينيين ، بقدر ما تستثمر فى محنة العذاب الفلسطينى ، وتتسابق فى الجوهر على محبة ومودة كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وتكاد تفقأ العين باتفاقات تطبيع ملوث ، تتقاطر عرباتها من الخليج إلى المحيط ، ولا تكاد تلقى بالا للحق الفلسطينى ، الذى تركوه يتيما .

وعند قنطرة العبور من عام إلى ما يليه ، لا تكاد تلحظ تغيرا ذا بال فى الأفق ، وكأن الحوادث كلها تراوح مكانها ، وكأننا فى 2021 ، سنعيش ما كان فى 2020 ، فالوجوه هى ذاتها ، كما الصور والانقسامات والوعود ، وانتظار بركة القادم الجديد إلى البيت الأبيض ، وكأن الحدأة ترمى الكتاكيت ، وكأن الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن ، قد يقدم جديدا للفلسطينيين المنتظرين على بابه ، أو أن يعطف على الحق الفلسطينى مقابل ظلم زمرة دونالد ترامب ، وهو خداع بصر سرابى ، تكررت أماراته طوال نحو ثلاثة عقود مضت على اتفاقات أوسلو وأخواتها ، ومن دون أن يتعلم من بيدهم الأمر ، لا عربيا ولا فلسطينيا ، فالذين طبعوا علاقاتهم بلا مقابل ، حالهم كحال السابقين إلى التطبيع بمقابل ، كلهم يدعون أنهم يريدون خدمة الحق الفلسطينى ، ولا يغيب عن العين ما يجرى مكررا ، فى صورة لقاءات فلسطينية رسمية مع الحكومات فى عواصم عربية محيطة ، وبدعوى التجهيز لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية مباشرة جديدة ، يتصورون إمكانية عقدها برعاية بايدن هذه المرة ، وفى ظل حماس ظاهر لإعادة المحاولة عند القيادة الفلسطينية الرسمية ، التى خفت صوتها المعارض لتطبيع دول عربية مضافة ، ومالت إلى إنهاء تمردها الموقوت على علاقاتها مع إسرائيل ، وعادت إلى اتفاقات التنسيق الأمنى وغيرها ، وإلى طى صفحة إحياء نداء المقاومة الشعبية والقيادة الوطنية الموحدة ، والعودة إلى التركيز على ما يسمى التحرك الدبلوماسى وحده ، وبث الحياة فى روابط العلاقات المعلنة والمخفية مع واشنطن بعد ترامب ، بينما لا أحد عاقل ، يتصور تغييرا له مغزى جوهرى فى مواقف الإدارة الأمريكية ، فولاء ترامب لمصلحة الكيان الإسرائيلى ، كان مقاولاتيا وصفقاتيا بامتياز ، بينما ولاء بايدن لمصلحة العدو مختلف ، فهو ولاء أيديولوجى تام ، والرجل يفخر بكونه صهيونيا بالسليقة وبسوابق السيرة ، ولن ينقلب على شئ مما فعله ترامب هنا ، لا فى الاعتراف رسميا بالقدس كلها كعاصمة أبدية للكيان الإسرائيلى ، ولا فى ضم الجولان ، ولا فى اتفاقات "أبراهام" التطبيعية ، ولا فى ضم مستوطنات الضفة الغربية لإسرائيل ، ولا فى الدعم الكلى المطلق لأولويات قادة الكيان الصهيونى ، وقد اختلف باراك أوباما من قبل مع صلف بنيامين نتنياهو ، ولم يكن بينهما أدنى توافق فى الكيمياء الشخصية ، لكن أوباما لم يترك البيت الأبيض لخلفه ترامب ، إلا بعد التوقيع على صفقات أسلحة متطورة شبه مجانية لإسرائيل بقيمة 38 مليار دولار ، وقد كان بايدن نائبا لأوباما ، وكان أكثر منه مزايدة فى خدمة إسرائيل ، وقد يكف بايدن عن دعم ما أسمى "خطة ترامب" نصا لا فصا، وقد يعود إلى تكرار إسطوانة السعى المشروخ إلى "حل الدولتين" ، والإفراج عن معونات مالية محدودة للفلسطينيين ، أو لوكالة "الأونروا" ، لكنه لن يقدم على جديد ملفت يخص الحق الفلسطينى ، مع معاودة الدوران فى حلقة المفاوضات المفرغة ، ومنح المزيد من الوقت اللازم لإسرائيل ، لالتهام ما تبقى من الضفة الغربية بعد غلق ملف القدس المحتلة .

وقد يأمل أنصار المفاوضات العبثية من الفلسطينيين ، أن يجدوا ما قد يرونه شريك سلام إسرائيلى ألطف من نتنياهو ، وهو ما لا تبدو طرقه ممهدة على خرائط العام 2021 ، ففى نهاية مارس المقبل ، تجرى الانتخابات الإسرائيلية الرابعة فى عامين ، وفى ثلاث جولات سبقت ، ظل نتنياهو فى كرسى رئاسة الوزراء ، ومن دون أن تتأثر قوته باتهامات وقضايا الفساد المتلاحقة ، وهو ما قد يرد أن يتكرر للمرة الرابعة ، ففى الجولة الثالثة ، كان غريمه الجنرال بينى جانتس وتحالف "أزرق أبيض" ، ونجح نتنياهو فى احتوائه وخداعه ، بينما فى الجولة الرابعة المقبلة ، يظهر غريم آخر هو "جدعون ساعر" وحزبه المسمى "أمل جديد" ، وساعر كان منافسا محبطا لنتنياهو فى قيادة "الليكود" ، وانشق مؤخرا لينشئ حزبه ، الذى تعطيه استطلاعات الرأى حضورا ملحوظا ، قد يجعله الحزب الإسرائيلى الثانى وزنا بعد جماعة "الليكود" ، لكن ساعر الأكثر شبابا ، هو أيضا الأشد يمينية بامتياز ، فإذا كان نتنياهو يريد التهام أغلب مساحة الضفة الغربية ، مع ترك جيوب وكانتونات معزولة للفلسطينيين ، فإن ساعر أكثر وضوحا وقطعا ، ويريد التهام الضفة بكاملها ، وهو الأكثر قدرة على مخاطبة غرائز المزاج اليمينى السائد فى إسرائيل ، الذى قد تكسب أحزابه نحو ثلثى أعضاء "الكنيست" المقبل ، والمحصلة ظاهرة ، فحتى بافتراض إمكانية التخلص من نتنياهو ، فما من بديل مرئى ألطف للقيادة الفلسطينية الرسمية ، وهو ما يعنى حكما ، أن المفاوضات حال استئنافها ، لن تكون سوى مضغا للوقت ، وعودة للدوران البائس فى الحلقة المفرغة ذاتها ، وفى طاحونة المفاوضات من أجل المفاوضات

وبالجملة ، لا يبدو عام 2021 سعيدا ولا واعدا للقضية الفلسطينية ، خصوصا مع استمرار الانقسام بين رام الله وغزة ، ومع تجدد غواية المفاوضات ومتاهاتها ، ومع ازدحام أجندة المنطقة بقضايا ومآسى أخرى فى العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها ، ومع بروز أولوية ومساعى العودة لاتفاق جديد بين واشنطن وطهران ، وهو ما لن يكون سهلا بحال ، فلن يتمكن بايدن غالبا من تلبية طلب إيران بالعودة السريعة إلى نص "الاتفاق النووى" الذى انسحب منه ترامب ، وربما يصر على فرض شروط إضافية ، بينها إدماج نشاط طهران الصاروخى وتمددها الإقليمى فى أى اتفاق لاحق ، وهو ما قد تعتبره إيران حكما بالإعدام السياسى لمشروعها ونفوذها ، وبالذات مع احتمال صعود المتشددين لرئاسة إيران فى انتخابات أواسط العام الجديد ، وبديهى أن بايدن لن يعطى ظهره لإسرائيل هذه المرة ، وربما يسعى لإشراكها صراحة أو ضمنا فى أى ترتيبات مزمعة مع إيران ، خصوصا مع تقدم إسرائيل استراتيجيا إلى جوار إيران الخليجى باتفاقات التحالف مع البحرين والإمارات ، وكلها ظروف متوقعة ، تحجب فرصة التركيز السياسى على قضية الحق الفلسطينى ، وعلى أى مسعى مزعوم لتسوية فلسطينية إسرائيلية ، اللهم إلا إذا جرى جديد صاخب مؤثر على الجبهة الفلسطينية ، يقلب معادلات الركود كليا أو جزئيا ، إما بأقدار مفاجئة ، أو بأقدار يملكها الشعب الفلسطينى وحده ، وهو كتلة فياضة بالحيوية برغم تراكم القهر ، توالى انتفاضاتها الصغيرة المبعثرة يوميا ، التى يعيقها إعراض غالبية الفصائل عمليا عن مبدأ المقاومة ، فإلى ما قبل سنوات ، كانت بعض الفصائل أقرب إلى خط المقاومة ، بينما فصائل أخرى أقرب إلى خط المساومة ، وابتعدت بالجملة عن مغزى "بيان العاصفة" قبل 56 سنة ، بينما ظلت جماعات صغيرة وفية لدينها وسلاحها ووطنها المحتل ، وبدت الفصائل الأكبر كأنها اجتمعت على ملة المساومة ، واللجوء لشعارات المقاومة أحيانا موسمية ، أو على سبيل المناورة وبسط العضلات ، وفقط من أجل تحسين نصيبها فى المساومة ، وبما انتهى إلى خلل ظاهر فى التركيب الراكد للحركة الوطنية الفلسطينية اليوم ، واستنزاف الوعى الشعبى فى انقسامات لا تنتهى ، تهد حيل الفعل الفلسطينى المقاوم ، وتجعل تجدده العارم مؤجلا ، بينما المقاومة المسلحة والشعبية هى الطريق الوحيد لتعديل وقلب الموازين ، واستعادة الانتباه العربى والعالمى إلى الحق الفلسطينى السليب ، وهو ما تدركه غريزيا ملايين الشعب الفلسطينى ، التى لا يملك أحد ترف المزايدة على تضحياتها وصمودها الأسطورى المنتصر بإذن الله .
-------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان