29 - 03 - 2024

أمريكا ضحية العام

أمريكا ضحية العام

"شخصية العام" تقليد مهنى سنوى لمجلة "التايم" الأمريكية ، بدأته عام 1927 ، وفيه تختار رجلا أو امرأة أو جماعة أو فكرة ، وتضعه على غلافها فى السابع من ديسمبر كل عام ، وتعتبره الأكثر تأثيرا فى حوادث الدنيا ، بناء على استفتاء تجريه بين قرائها ، لاتلزم المجلة نفسها بنتائجه ، وتترك الرأى الأخير لهيئة تحريرها ، وقد اختارت "التايم" جو بايدن وكامالا هاريس لغلاف شخصية العام المنقضى ، ومن دون أن يسلم الكل بصحة الاختيارات المتحيزة بطبيعتها ، إلا فى حدود كونها طقسا احتفاليا أمريكيا غالبا ، لا يزال يعيش فى أجواء الفكرة المتقادمة عن "مركزية أمريكا" فى صناعة تطورات العالم .

وربما كان الأجدر بمجلة "التايم" ، وقد يكون الأدق ، أن تضع على غلافها السنوى الأخير خريطة الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد سبق للمجلة أن اختارت دونالد ترامب كشخصية للعام 2016 ، كان ذلك بعد فوزه المثير على المخضرمة هيلارى كلينتون ، ووضعت مع صورة ترامب تعليقا بليغا ، يقول نصه "الولايات المنقسمة الأمريكية" ، كانت الإشارة إلى "الانقسام" بدلا من "الاتحاد" الأمريكى فى محلها تماما ، لكنها لم تصبح مرئية للعيان على نحو واسع ، إلا فى العام 2020 ، الذى انتهى بهزيمة ترامب وفوز بايدن ونائبته كامالا ، مع تأكيد فكرة "الانقسام" التى كان عنوانها ترامب ، الذى لا يزال على رفضه التسليم بالنتائج ، فبرغم حدوث سوابق نزاعات على النتائج الانتخابية ، إلا أنها كانت تنتهى سريعا ، حتى لو جرى اللجوء للقضاء ، وعلى نحو ما جرى بدايات القرن الجارى ، والانتقال لعد يدوى لأصوات ولاية "فلوريدا" ، وإعلان فوز بوش الإبن على آل جور ، وتهنئة الخاسر للفائز كما تقتضى الأعراف المستقرة ، إلا أن ترامب هذه المرة ، ظل رافضا الاعتراف بفوز غريمه ، وأقام نحو خمسين دعوى قضائية ، خسرها جميعا أمام محاكم الولايات والمحكمة الفيدرالية العليا ، لكنه ظل معاندا مستهينا بأحكام القضاء نفسها ، ومصرا على زعمه بتزوير الانتخابات كليا ، وتلك قصة أبعد من غرابة أطوار شخصية ترامب ، فوراء الرجل جيش كامل من مؤيديه ، يعتقدون ما يعتقد ، ويعيدون ما يقوله بالحرف ، وفقدوا الثقة تماما بكل المؤسسات الأمريكية الاتحادية ، وربما يعتبرون أنفسهم شعبا آخر منفصلا تماما ، رأس الحربة فيه نحو 75 مليون شخص صوتوا لترامب ، قد يصلون بتأثيراتهم إلى ما يقارب نصف سكان الولايات المتحدة الأمريكية ، وبينهم جماعات مستعدة لممارسة عنف ، قد يصل بالانقسام الأمريكى إلى مستويات أخطر ، ربما لا تكون مسبوقة منذ سنوات الحرب الأهلية الأمريكية فى ستينيات القرن التاسع عشر ، التى انتهت بنصر دموى للاتحاد الأمريكى على انفصال الولايات الكونفدرالية الجنوبية الرافضة وقتها لتحرير العبيد ، وهو ما قد يتكرر اليوم ، وإن بصورة مختلفة ، يبرز فيها شعب ترامب ، الراغب فى رد اعتبار وامتياز وتفوق العرق الأبيض ، فثلثا البيض الأمريكيين من مؤيدى الرجل ، وقد يريدون العودة للأخذ بالتأر فى انتخابات 2024 ، هذا إن لم تجر حوادث تتطور دمويا قبل التاريخ الموعود .

صحيح أن المؤسسات الفيدرالية الأمريكية ، وفى قلبها البنتاجون ، تبدو عازمة على إنفاذ نتائج الانتخابات ، وأن الرئيس الأمريكى المنتخب يعطى معالجة الانقسام الأمريكى أولوية فى مهمته ، لكن فرص نجاح مسعاه لا تبدو مؤكدة تماما ، خصوصا مع ضعف وشيخوخة ظاهرة فى قيادة المؤسسات الأمريكية المنتخبة ، فالرئيس بايدن يقترب عمره من الثمانين ، ورئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسى بيلوسى تجاوزت الثمانين ، وزعيم الكتلة الجمهورية فى مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل ، وصل عمره اليوم إلى 87 سنة ، وهو ما قد يذكر بما جرى فى الاتحاد السوفيتى قبل تفكيكه ، حين ظل ليونيد بريجنيف السكرتير العام للحزب الشيوعى ، يواصل تشبثه بالسلطة إلى أن مات فى أرذل العمر ، وخلفه العجوز أندروبوف ، إلى أن مات بعد 15 شهرا ، ثم تشيرنينكو الذى مات بعد 13 شهرا فى السلطة ، ثم جاء جورباتشوف الأصغر سنا ، وعجل بالتفكيك الأخير ، وقد تكون الديمقراطية الأمريكية أكثر جدوى ونفعا من البيروقراطية السوفيتية ، وهذا صحيح إلى حد بعيد ، وقد تحول دون وصول حالة الانقسام الأمريكى إلى شئ يشبه التفكك السوفيتى ، لكن ضمانات الديمقراطية الأمريكية لا تبدو قادرة على صنع المعجزات بالضرورة ، ولا على استعادة بريق أمريكا الذابل ، خصوصا أن الداء الأمريكى الراهن له أبعاد أخرى ، أخطرها ما كشفت عنه جائحة كورونا ، التى افترست أمريكا كما لم يحدث لبلد آخر ، وكانت السبب الرئيسى فى هزيمة ترامب ، وفضحت هشاشة النظام الصحى والاجتماعى فى أمريكا ، التى نظر إليها طويلا كأكثر بلدان الدنيا تطورا ورفاهية ، لكن أمريكا نفسها ، هى التى حازت النصيب الأوفر عالميا من الإصابات والوفيات ، فلم تنزل نسبة إصاباتها المكتشفة عن خمس إصابات البشر جميعا ، التى تناهز الآن نحو الثمانين مليونا ، وبلغ عدد الوفيات فى أمريكا نحو ثلث وفيات كورونا عالميا ، وقد وصل الرقم الأمريكى إلى اليوم نحو 330 ألفا ، برغم البدء فى تعميم لقاحات التحصين ، بينما كان عدد قتلى الأمريكيين فى الحرب العالمية الثانية نحو 292 ألفا لا غير ، ووقت نهاية الحرب الثانية ، كانت أمريكا فى افتتاح صعودها وسيطرتها الكونية ، وكانت تملك وحدها نصف اقتصاد العالم ، وكانت حلما مغريا بالالتحاق به أو بتقليده ، وهو ما دار عليه الزمن بعد أكثر من سبعة عقود ، فقد تعب الاقتصاد الأمريكى ، وفقد كثيرا من طابعه الإنتاجى العينى ، وتزايدت هشاشته فى السباق مع جموح الاقتصاد الصينى ، وصارت أمريكا أكبر مدين فى التاريخ ، وقفزت ديونها الداخلية والخارجية إلى 26 تريليون دولار مع عواصف جائحة كورونا ، ونزل معدل النمو السنوى إلى ما تحت الصفر بكثير فى 2020 ، واتسعت رقعة عجز الموازنة إلى أكثر من تريليون دولار ، وكلها تطورات سلبية ، لا تبعث على البهجة بين صفوف الأمريكيين ، وتأخذ من حوافز اتحاد الأمريكيين متعددى الأعراق ، فأمريكا ليست بلدا قوميا بالمعنى المفهوم ، وقد وصفها المؤرخ الأمريكى شليزنجر مرة ، بأنها شركة كبرى ، لا يجمع ناسها سوى معدلات النمو وأرقام الناتج الإجمالى ، وضعف الاقتصاد يثير الانقسامات العرقية والطبقية ، فوق تراجع معانى الهيبة الأمريكية على الصعيد الكونى ، صحيح أن أمريكا لا تزال هى الأولى والأعظم فى التطور التكنولوجى ، وصحيح أن إنفاقها على السلاح وتطويره بلغ أرقاما فلكية ، زادت على 750 مليار دولار سنويا ، لكنها لم تعد تلك "القلعة المحصنة" الأكثر أمانا وإحكاما ، كما بدت لوقت طويل ، فلم يهاجمها أحد منذ الغارة اليابانية الانتحارية على ميناء "بيرل هاربر" صباح 7 ديسمبر 1941 ، وإلى أن جرت حوادث 11 سبتمبر 2001 ، التى بدت خروجا عن نص الأمان المطلق ، وكشفت خروقا تعددت رواياتها ، ثم تطور عصر التكنولوجيا الفائقة ، التى سبقت إليها أمريكا بامتياز ، وإلى أن ضربت أمريكا فى قدس أقداسها التكنولوجية مرات ، جرى أخطرها فى عام الكوارث الأمريكية نفسه 2020 ، ولم تكتشف الأجهزة الأمريكية حجم الدمار ، إلا بعد تسعة شهور من بدء حرب الكترونية كاسحة، شنتها روسيا كما يخمن المحللون الأمريكيون ، وإن مال ترامب إلى ترجيح دور الصين فى الاختراق غير المسبوق ، الذى لم يترك أمن مؤسسة أمريكية كبرى أو صغرى على حاله ، ولا استثنى نظم التأمين الالكترونى لترسانة واشنطن النووية ، ومن دون أن تشعر أمريكا (الجبارة !) إلا متأخرا بعمق وضراوة الاختراق ، الذى نقل أسرارها كافة إلى المخترقين ، وتركها عارية الكترونيا ، ومن دون مقدرة تذكر على كشف أسلوب الاختراق ، فيما بدا كأنه أكبر وأخطر عملية تجسس فى مطلق التاريخ الإنسانى ، تحطمت فيها جدران حماية الكترونية ، أنفقت عليها تريليونات الدولارات ، وخرجت منها أمريكا مهزومة بما يشبه الضربة القاضية ، برغم تهديدات الرئيس المنتخب برد الصاع صاعين لروسيا ، وهو ما لا يبدو ممكنا تحقيقه بسهولة ، اللهم إلا من باب عقوبات اقتصادية مزادة فرضت على الصين وروسيا ، التى تبدى قدرا ملحوظا من اللامبالاة بتهديدات واشنطن المسكينة .

وبالجملة ، بدت أمريكا كضحية مفضلة لحوادث العام 2020 ، بعد أن كانت وعلى مدى عقود ، السبب والفاعل الرئيسى فى مآسى العالم ، وفى سقوط عشرات ملايين الضحايا ، قبل أن تنقلب عليها عقارب الساعة ، وتزيد الشروخ فى جدران عظمتها المصنوعة ، ومن دون أمل ظاهر فى إعادة ترميم أمريكا ، التى كانت لوقت طال ، هى "القوة العظمى" بألف ولام التعريف ، وتحولت إلى مجرد "قوة عظمى" بين متعددين ، تطارد أشباح السقوط عن العرش .
------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حروب





اعلان