20 - 04 - 2024

اللواء طلعت مسلم اسطورة الكبرياء.. وبطل روايتي "ليس الآن"

اللواء طلعت مسلم اسطورة الكبرياء.. وبطل روايتي

حادث سيارة أفقده الذاكرة فعاد مريضًا إلى قريته (منتهى) لينعزل في دوار أبيه العمدة تاركًا حياته المفعمة بالأحداث وراءه، امرأة واحدة حين تنظر في عينيه لا تصدق أنه غير واع هي أمه وديدة. تبادله الفهم وتقبل بصمته ولا تستفزه ليتذكر. تقول للعائلة ابتعدوا، هو من سيختار وقت عودته إلينا. يمتن لها تقدم إليه الطعام بنفسها ثم تتركه لخلوته إلا قليلاً تجلس معه بعد المغرب لتحدثه عما يجمعهما من ذكريات ثم تفاجئه حين يطمئن إلى استقرار أيامه بدفتر صغير من المذكرات كتبها بيده عن حياته هكذا تلعب وديدة دور المحيط الحنون الذي يعيد بناء بطلها ويبعث فيه الرغبة في العودة للحياة.

ولد محمود المصيلحي في مناخ أسطوري باتفاق تم بين الملائكة وأمه المتعسرة في ولادته. اشترطوا أن يرضع كل يوم من امرأة مختلفة من أهل القرية والقرى المجاورة وكان على وديدة أن تذعن لهذا الشرط كي تضمن الحياة لابنها الرضيع ونشأ محمود ابنا لكل النساء وأخًا لكل الأبناء. وحين دخل الكلية الحربية أراد أن يكمل مسيرة عمه رشدي المصيلحي الذي عاد جريحًا أثناء الهدنة في حرب 1948 ، وهو ما حدث، إذ شارك في كل الأحداث اللاحقة.

توقفت عند هذه النقطة بعد أن انتهيت من كتابة معظم الرواية لتكون جزءًا ثانيًا متصلاً منفصلاً عن روايتي (منتهى) تدور أحداثه بعد أزمة مارس 1954 حيث انتهت منتهى وحتى مقتل السادات 1981. رسمت في روايتي بطلي غير المستعد الآن لقيادة أمته بعد خوضه لكل المعارك في الصراع العربي الإسرائيلي. شعرت أن البطل في حاجة إلى أن يقوم بفعل ما لم أصل إليه بعد؛ لينهض ويحقق لي رؤيتي. راجعت الرواية بأحداثها مرات دون فائدة ولأني اعتدت النفس الطويل في الكتابة بعد أن استغرقت (منتهى) أربع عشرة سنة حتى تخرج إلى النور فقد انتظرت ورحت أعمل على تجويد اللغة داخل العمل حتى يأتي وقت العودة للبناء مرة أخرى، ثم سافرت إلى بورسعيد لمتابعة النشاط الثقافي المقام بمناسبة العيد القومي وبعد الأمسية الشعرية الأولى جلسنا مجموعة من الكتاب نتذكر ما حدث في حرب أكتوبر. حكي العقيد السابق الشاعر عبد العزيز موافي قصة قائد اللواء 18 مشاه ميكانيكي الذي أدى معه الخدمة أثناء الحرب وكيف شكل هذا اللواء على عجل جاعلا من أفراده أبطالاً حقيقيين واجهوا المعارك بشجاعة.

بعد انتهاء الحرب طلب منه الرئيس السادات أن يحيي أول بارجة إسرائيلية تعبر القناة بعد عودة الملاحة بها فرفض قائلاً إنه هنا لمحاربة الأعداء وليس لتحيتهم وأن الرئيس السادات ذهب بنفسه إلى جزيرة الفرسان مرتديًا زي البحرية وحياهم بنفسه، تحول القائد إلى أسطورة تناقلها الجنود. الكلام لا يزال لعبد العزيز الذي لاحظ دموعي المنهمرة وأنا اسأله إن كان قائده ما يزال على قيد الحياة قال:

نعم هو في كامل لياقته ونشاطه.

كنا في حوالي عام 96 أو 1997 قلت ما فعله قائدك هو ما كنت أنتظره لتكتمل روايتي وطلبت منه تحديد موعد للقائه وقد كان.

ذهبت للقاء اللواء طلعت مسلم وحكيت له ما كتبت في روايتي ورغبتي في إعطاء بطلي موقفه الشجاع.

ضحك كثيرًا وقال: الموضوع لم يكن بهذا الشكل فقد اتصل بي مندوب العمليات وأبلغني بإشارة:

اليوم 28 مايو 1979

تعين قوة لتأدية التحية لعدد ثلاث ناقلات جنود إسرائيلية تعبر قناة السويس من الجنوب إلى الشمال.

لم أعلق قلت بهدوء: نأسف لعدم تنفيذ هذا الأمر.

أدرت ظهري للموقف كأنه ما كان؛ إلى أن يتم استدعائي إلى تحقيق رسمي لكن ذلك لم يحدث. الجنود هم من قاموا بنسج الأساطير حول الواقعة.

استأذنته أن أسجل معه أجزاء من حياته وجلسنا نحكي بالساعات وفوجئت في جلسة التسجيل الأولى أن تاريخ ميلاده يتوافق مع تاريخ ميلاد بطلي محمود المصيلحي وكان هذا منشورًا ضمن أحداث رواية منتهي عام 1995 وفوجئنا معًا بتوافق تاريخ التخرج والكثير من التفاصيل التي سبق نشرها في منتهى كأن بطلي كان ينتظر أن أتعرف عليه على أرض الواقع. هكذا تعرفت على آخر الراحلين من قادة حرب أكتوبر العظيمة واكتسبت صداقته وأصبح بطلا لروايتي "ليس الآن". أما لماذا اخترت أن يكون بطلي فاقدًا لذاكرته ويحاول بمساعدة أمه استعادتها؛ فللموضوع قصة أخرى أحكيها في وقت لاحق فاليوم نودع أحد أبطال حرب أكتوبر الخبير الاستراتيجي المختص بالشئون العسكرية في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، اللواء طلعت مسلم البطل المناضل ضمير الأمة الباقي في رحيله وفي غيابه. رحل كأن نفسه قد أبت أن يرى هوجة المتكالبين على التطبيع.

كان اللواء طلعت مسلم عضوًا باللجنة المصرية لمنظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية، وعضو جماعة الباجواش المصرية وجماعة الباجواش الإفريقية. وأصدر العديد من الكتب منها: "العرب والعالم"، "مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي"، "العرب ودول الجوار الجغرافي"، "التعاون العسكري العربي". "مشاركة الجيوش في حرب رمضان المصيرية" الثوابت والمتغيرات في الصراع العربي الإسرائيلي وشكل الحرب المقبلة"، "معاهدة الدفاع العربي المشترك"، "القواعد العسكرية في الوطن العربي". "العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956".

وقد حصل اللواء طلعت مسلم على نيشان التحرير، نوط الجمهورية العربية المتحدة، نوط الجمهورية العسكرية من الطبقة الأولى، وسام الجمهورية من الطبقة الثانية. 

مسيرة مشرفة لرجل سيقف عنده التاريخ طويلاً.
----------------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان